رويدة-4-



نادية خلوف
2016 / 5 / 31

هنا يركع الرّبع، وهناك يتفاخرون
نحن. من نحن؟ لو يدري العابر
يلقي نظرة على بيوت تدّمرها الحقيقة
وأبواب مفتوحة للشّهوة
يدخلون إليها ، ثم يرحلون.
. . .
يرحل الجاني إلى النّجاح
ويغطس المجني عليه في قعر المنون
يكتب الهاوون شعراً حول الحبّ
لا نعرف أيّ حبّ يطلبون
ننتصر للظالم
ونظلم المظلوم
. . .
هذا ما حدّثت نفسي به عندما دخلت بيت كريستين، وقبل أن أرها، فهي تعيش حياتها طبيعية، لقد مضى على خروجها من سجن النّساء في الحسكة أسبوعاً فقط، ترافقها ابنتها الرّضيعة. هي طفلة في السّادسة عشرة من عمرها، ولدتها أمّ بالخطأ فكان مصيرهما الدّعارة.
بعيداً عن بيوت الحيّ الفقيرة على أطراف نهر الجغجغ في القامشلي، وفي ظهر يوم صيفيّ حار ذهبت إلى منزلها. هو غرفة ترابيّة واحدة، وروائح النهر تصل إليه فتشعر أنّك تعيش في مستنقع. جلست مع أمّ كريستين التي أشبعت بمفهوم الدّعارة بعد أن وجدتها طريقة عيش . تحدّثت عن حبّها الأوّل من شخص وعدها بالزواج، هي تعرف اسمه ومكان عمله، فقد كان يعمل في حقول البترول بالرميلان، وباعتبار أنه مسيحي لا يستطيع أن يعدّد الزوجات . قال لها:" للأم" أنّ زوجته مريضة سرطان ، وأنّها سوف تتوفى خلال ستّة أشهر، وسوف يتزوّجها هي، حملت منه ثم اختفى.
قلت للأمّ: وهل تثقين بشخص يترك زوجته على فراش الموت، ليمارس ملذاته؟
لم تجب الأمّ على سؤالي، ويبدو أن الجواب رغم معرفتي صحة معلومتها حول الأب، لكنّها لم تقل الحقيقة كاملة. هي الآن خاطئة ليس لها ملاذ.
الموضوع لن يتوقّف عند الأمّ . تجاوزها إلى ابنتها كريستين ذات الأعوام السّتة عشر ، والتي هي غير موجودة قانونيّاً في سجلات النّفوس. هي مكتومة القيد، وتحمل على يدها طفلة مكتومة القيد مثلها. ثلاثة أجيال تعيش نفس الحالة. الأم. الابنة. الحفيدة.
كريستين أيضاً تعرف والد ابنتها، وهو يراقب من يأتي إلى بيتهم، ويخبر زوجات الذين يأتون إليها عن خيانة أزواجهم. هو لا يرغب بالاعتراف بالطّفلة، ولا حتى إعالتها، يريدهم أن يموتوا.
أطلّت كريستين، وفي يدها صينيّة القهوة، وفي فمها سيجارة.
فتاة فارعة القوام. يشبه جسدها الشّبه عار البلّور. جميلة دون ملامح فهي لا تنظر لأحد بعينيها، ومهما حاولت لن تنظر إليك. هي مدّمرة، ومستعدّة بنفس الوقت لأيّ عنف يقع عليها. هذا قدرها، وقدر أمّها.
قلت للأم: لماذا تسمحين للرجال بالمجيء إلى ابنتك؟
-هي الصّداقة بين الرّجل والمرأة. جميعهم يقولون لي ذلك.
-هل تعرفين أنّك ترتكبين جريمة بحقّ ابنتك؟
-لا أرغمها على شيء. لولاها لما استطعنا الأكل والشّرب.
-لماذا لم تسجليها في سجلات النفوس ، ولم تجعليها تذهب إلى المدرسة.
-لم يقبل أحد تسجيلها. قالوا أنّها ابنة حرام.
-كان بإمكانك أن تسجليها باسمك.
-لم أستطع. ثم لماذا تسألين؟ هذا هو قدرنا. نحن من المغضوب عليهم. لا أحد يقبل بي خادمة أيضاً.
كيف يمكن أن أساعد كريستين وطفلتها. بحثت كثيراً عن حلّ لم أجد حلولاً فصفة كريستين الطفلة "داعرة" وقد تنتقل إلى مركز للدّعارة غير مرخص، ففي القامشلي كان هناك بيون اسمها البيوت البيضاء تديرها أجهزة الأمن، وهو ما يطلقون عليه عبودية الجنس، فلو نقلت كريستين لأحد تلك البيوت سوف تقضي حياتها تعمل متبرعة مقابل أكلها وشربها.
كنت أعمل كمحام في سورية، وكلمة محام هي كلمة كبيرة بالاسم ، وصغيرة بالفعل، فالمحامي ليس كما ينصّ القانون عليه أنّه يحاكم وافقاً، قد يحاكم مشحوطاً أو مصلوباً ، أو يضيع في السّجون، ويمكن لعنصر بالأمن أن يجرجره، وهذا ماكنت أتوخاه، كي لا أذهب إلى أقبيتهم. كنت أحاذر أن أدخل في أيّ موضوع لهم علاقة به، وقد خسرت إحدى المحاميات اللواتي كان الأمن يجلب لها القضايا ، ويتقاسمون معها الأتعاب سمعتها عندما خبّأت عنهم الأتعاب الحقيقية في إحدى القضايا.
حاولت التّواصل مع جامع وكنيسة لكنّهم لم يقابلوني حتى. لن أستطيع مساعدة كريستين.
عملت لمدّة طويلة في المحاماة، وكان يأتي إلى مكتبي الكثير من النّساء في قضايا بعضها سرّية وبعضها قانونيّة ، وكلّما كنت أبحث لهنّ عن مخرج اجتماعي كنت أفشل ، فكلّ الكرماء التي تسمعون عنهم يكرمون الأغنياء، أحد المزارعين الكبار في القامشلي كان يوزّع الزّكاة على أفراد " الأمن العسكري" ويبدأ بالكبير فيعطيه الكثير، وينتهي بالصغير، ويعطيه القليل ، وأصبح هذا عرفاً. أحدهم يقدّم الزّكاة لأمن الدولة، وآخر للأمن العسكري. بعض هؤلاء يدافعون اليوم عن الحريّة ضدّ النّظام .
أعود إلى موضوع كريستين، وربما هي الآن في الثلاثين.
من ضمن الأمور التي عملت عليها أن يتبرّع بعض الأغنياء ويشترون منزلاً يضم مثل تلك الحالات، والحالات مشابهة. يؤمّنون لهم عملاً، وحماية . اعتقدّت أنّه لديّ قوة تأثير خارقة فما أطرحه إنساني وفي نفس الوقت ينشّط أعمالهم الاقتصادية. أغلب الذين تحدّثت معهم عن التبرّع في الماضي وبعد الثورة السّورية كاذبون، فالجمعيات الخيرية وهمية في أغلبها، وقد طرقت أبوابها من أجل الدّعم، أعطيت أسماء وأماكن تواجد الأشخاص، وجهت نداء عبر الصّحف ، ولم يقدم أحداً إلا بعض الفقراء أرسلوا بعض المساعدة لتلك الأماكن.
السّؤال الذي أطرحه اليوم على السّوريين من بين أسئلة كثيرة تتعلّق بالمرأة : ما هو القانون المطروح من أجل حماية الأمّ والطفل من زواج غير شرعي؟