حكاية المنظومتين



السيد نصر الدين السيد
2016 / 6 / 16

والمنظومتين موضوع هذا المقال هما "منظومة الفكر الديني" (#) التي يبلغ عمرها الاف السنين، و"منظومة العلم الحديث" (*) التي لم يتجاوز عمرها الخمسمائة عام.

ولم يكن ميلاد "منظومة العلم الحديث" وترسخ مكانتها كأداة كفئة يستخدمها الانسان لفهم ما يدور حوله بالامر الهين او البسيط. فلقد تطلب تحقيق هذا الأمر جرأة غير مسبوقة من رجال قرروا عدم الانصياع للفكر السائد الذي يتحصن في التقاليد او تحميه قداسة مزعومة. رجال قرروا مواجهة "منظومة الفكر الديني" وهي في عنفوانها بكل ما كانت تملكه من سطوة وسلطة ونفوذ. فكان، على سبيل المثال نيكولاس كوبرنيكوس (1543-1473م) الذي رفض قبول الراي السائد بان كوكب الأرض هو مركز الكون الذي حوله تدور الشمس وغيرها من اجرام السماء. وصدم الجميع بالحقيقة التي توصل اليها بأن كوكبنا هو الذي يدور حول الشمس مثله في ذلك مثل بقية كواكب المجموعة الشمسية. وهي الحقيقة التي لم يسترح لها القائمين على شئون الدين. وكان من هؤلاء الرجال الأجرياء جوردانو برونو (1548- 1600م) الذي احرقته الكنيسة الكاثوليكية يوم الاحد 17 فبراير 1600 بعد اتهامه بالعديد من التهم وعلى رأسها الترويج لنظرية كوبرنيكوس. وأخيرا، وليس آخرا، جاليليو جاليلى (1564-1642م) الذي شهد عام 1633 محاكمة الفاتيكان له بتهمة الهرطقة والخروج عما هو معلوم من الدين بالضرورة. فلقد تجرأ السيد جاليليو وأعلن في كتابه الشهير الـ "حوار حول النظاميين الرئيسيين للعالم" أن الأرض تدور حول الشمس مخالفا بذلك تعاليم الكنيسة التي كانت تؤمن بعكس ذلك. وأسفرت المحاكمة عن الحكم القاضي بحبسه مدى الحياة الذي خفف بعد ذلك إلى تحديد إقامته في منزله.

واليوم وبعد مرور حوالي 500 سنة على ميلادها لا أحد يجادل فيما قدمته "منظومة العلم الحديث" لرفاه الانسان منذ نشأتها في القرن السابع عشر وحتى يومنا هذا. فلقد وفرت هذه المنظومة للإنسان مجموعة من الأدوات الذهنية التي مكنته من فهم مكونات الواقع الذي يعيش فيه، ومن تفسير ما يدور في الواقع من احداث وتغيرات، ومن ثم عززت قدرته على تطويع هذا الواقع لصالحه. ولقد أسهمت النجاحات المستمرة لهذه المنظومة في تقليص الدور الذي تلعبه "منظومة الفكر الديني" وذلك بدرجات متفاوتة في العديد من المجتمعات. الا ان الأخيرة، دفاعا عن وجودها، تبنت استراتيجيات جديدة لتحل محل الحرق والمحاكمات وهي: "المداهنة" و"الاقتباس" و"الادعاء" و"الاختراق".

واولى هذه الاستراتيجيات، "المداهنة"، تقوم على الإشادة اللفظية بالعلماء انطلاقا من الآية " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ". كما تشمل هذه الاستراتيجية اعتذار المؤسسة الدينية لمن تضرروا من اعمالها التعسفية. فعلى سبيل المثال وبعد مرور 359 على واقعة محاكمة جاليليو وفى 31 أكتوبر 1992 وقف بابا الفاتيكان ليعبر عن أسف الكنيسة للطريقة التي تعاملت بها مع السيد جاليليو وليعترف بأنه كان محقا فيما أعلنه من أن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس.


وتقوم ثاني الاستراتيجيات، "الاقتباس"، على استخدام الفاظ وعبارات يشيع استخدامها في ادبيات "منظومة العلم الحديث" لوصف مكونات "منظومة الفكر الديني". فتراهم، على سبيل المثال، يطلقون على شهادة العالمية مع لقب أستاذ اسم دكتوراه اما شهادة العالمية مع الإجازة في التدريس أو القضاء أو الدعوة فيسمونها الماجستير. اما المتفقهين في النصوص الدينية فيطلقون عليهم "علماء الدين". وهو وصف مضلل فالعالم، طبقا لقواميس اللغة، هو الشخص الذي يعمل بطريقة ممنهجة على انتاج المعرفة المتعلقة بالواقع المحسوس وباحواله المستقبلية. انها باختصار عملية تشبه إعادة تغليف سلع فاسدة بأوراق جديدة بهدف تضليل الناس والايحاء لهم بانه لاتوجد ابة فروق جوهرية بين المنظومتين.

اما ابرز امثلة الاستراتيجية الثالثة، "الادعاء"، فهو ما يطلق عليه "الإعجاز العلمي للنص المقدس". والمبدأ الذي يتبناه أصحاب هذه الاستراتيجية هو ان النص المقدس يحتوي على كل ما انتجه العلم من معرفة، فقط علينا قراءة النص بعناية لنكتشف ما يخفيه من اسرار. وهكذا رأيناهم يتعسفون في تأويل النصوص ويحملون معاني كلماتها اكثر مما تحتمل وذلك حتي تدعم وجهة نظرهم. وقد تناسى هؤلاء ان المعرفة العلمية هي المعرفة التي يمكن تفنيدها لذا هي بالضرورة متغيرة وان ما نعتبره اليوم صحيحا قد يثبت خطأه او عدم دقته في المستقبل القريب.

وآخر هذه الاستراتيجيات هي استراتيجية "الهجوم المباشر" التي تقوم على اختيار نظرية علمية بعينها والهجوم المكثف عليها. ومن اشهر امثلة هذه الاستراتيجية ما يحدث مع نظرية التطور التي يعتبرها المنتمون لمنظومة الفكر الديني (او الدينيون) من النظريات الخطرة على تواجدهم. وتبدأ القضية بسؤال "كيف وجد الانسان على الهيئة التي نراها اليوم؟ وكما هو متوقع يأتي رد الدينيون بنعم وجد الانسان هيئته الحالية منذ البداية فهكذا تحدثت النصوص المقدسة. وفى مرحلة لاحقة يبتدعون ردا آخر يحاولون فيه محاكاة طريقة اهل العلم ويطلقون عليه نظرية "التصمم الذكي". ويجئ رد مجموعة اهل العلم بأن الهيئة الحالية للانسان هي نتيجة لعملية تطور استغرقت ملايين السنين، داعمين ردهم بشواهد مادية.

وتكون النتيجة الطبيعية لهذه الاستراتيجيات تشويش تختلط فيه الأمور ويصبح فيه التمييز بين "العلم الحقيقي" و"العلم الزائف" Pseudoscience من الأمور الصعبة. لذا سنختم المقال بعرص لأهم المسلمات الأساسية التي تقوم عليها "منظومة العلم الحديث" وهي: "اولوية الواقع"، "طبيعية الأسباب" و"إمكانية المعرفة". وهي المسلمات التي ستساعدنا في التمييز بين العلمين.

وتشير أولى المسلمات، "اولوية الواقع"، الى الواقع المحسوس الذي نعيش فيه سواء كان طبيعيا يتعلق بالبيئة الطبيعية واحوالها المتغيرة او كان اجتماعيا يتعلق بالبنى الاجتماعية بمختلف اشكالها وتحولاتها. انه الواقع المستقل الذي لا يتوقف وجوده على وجودنا كافراد فهو موجود سواء كنا فيه او لم نكن، وهو الذي تسعى منظومة العلم الحديث لدراسة مكوناته ولفهم سلوك هذه المكونات. لذا يتوقف الحكم على صحة اى مقولة على مدى مطابقتها لمعطيات الواقع التي يمكن متابعتها وقياسها وتحليلها. وفي المقابل تتيني منظومة الفكر الديني مبدأ "أولوية النص" وتحاول تطويع الواقع ليتلاءم مع تفسيراتها للنصوص المقدسة.


ومضمون ثاني هذه المسلمات، "طبيعية الأسباب"، هو أن أية ظاهرة من ظواهر الواقع ليست إلا "نتيجة" لـ "سبب" ما (أو علة)، وان هذا السبب هو سبب طبيعي يمكن اكتشافه. أي انها المسلمة التي تؤكد على "طبيعية" علة أي أمر وينفى عنها أية صفة "ما وراء طبيعية" Metaphysical.
وهكذا لم يعد لآلهة تاسوع اون المقدس (&) او ربات وارباب جبل الاوليمب وما شابهم مسئولين عن مجريات أمور الدنيا.

اما ثالث هذه المسلمات، "إمكانية المعرفة"، فيعني قدرة عقل الانسان على اكتشاف القوانين التي تحكم سلوك مكونات الواقع. وهو في ذلك يتبع منهجا منضبط لجمع البيانات عن الواقع وتنظيمها وتحليلها هو منهج النفكير العلمي. ويقوم هذا المنهج على مقاربتين هما: "المقاربة الإستنباطية" Deductive Approach و"المقاربة الإستقرائية" Inductive Approach. وهى المقاربات التى توفر للإنسان مجموعة من الأدوات الذهنية التى تمكنه من إنتاج المعرفة وتتيح له طرق متعددة للتثبت من صحتها ولتعديلها وتطويرها بإستمرار. و تبدأ اولى هذه المقاربات، "المقاربة الإستنباطية" بإنشاء نموذج يحاول محاكاة سلوك الظاهرة موضوع الدراسة. ويتم بعد ذلك التحقق من دقته بمقارنة نتائج تشغيل هذا النموذج مع السلوك الفعلى الذي يتم قياسه. وآخر خطوة هي تلك التي يتم فيها اجراء التعديلات المطلوبة في النموذج لتتفق النتائج المستخلصة منها مع تلك المشاهدة فى الواقع. اما المقاربة الثانية، "المقاربة الإستقرائية" فتبدأ بجمع البيانات حول بعض أحوال وجزئيات الظاهرة موضع الدراسة، سواء كان ذلك بالملاحظة أو بالقياس، وتحللها سعيا وراء إكتشاف ماتنطوى عليه أنماط وإنتظامات يمكن صياغتها على هيئة فرضيات مؤقتة يمكن التحقق من صحتها.

(#) تتكون " منظومة الفكر الديني" من النصوص المقدسة لديانة معينة ومن كافة الافراد والكيانات التي تعمل على انتاج تفسيرات لهذه النصوص واشاعتها بين معتنقي هذه الديانة.
(*) "منظومة العلم الحديث" هي المنظومة التي تتكون من رصيد المعرفة العلمي ومن مناهج وأدوات انتاجها هذا بالإضافة الى كافة المسؤولة عن انتاج ونشر هذه المعرفة.
(&) يتكون تاسوع اون (هيليوبولس) من الالهة: رع ( هو إله الشمس وخالق العالم)، ، جب ( إله الأرض)، نوت( ربة السماء)، شو( إله الهواء)، تفنوت ( ربة الشمس والقمر)، ست ( رمز الشر والعنف)، إيزيس ( ربة السحر)، أوزيريس ( حاكم مملكة الموتى)، نيفتيس ( ربة المنزل)