الطفولة ومسئولية المجتمع في تنمية الثروة البشرية



عباس علي العلي
2016 / 7 / 2

الطفولة ومسئولية المجتمع في تنمية الثروة البشرية

من الوقائع المؤلمة والتي سجلتها مشاهد العيش الواقعي في المجتمعات الفاشلة أو التي لا تستطيع حماية مكوناتها بالرغم من أمتلاكها كل الوسائل والسبل اللازمة لذلك، هي ضياع الطفولة في ظل زخم التخريب والإفساد الممنهج للثروة الأعظم والأكثر خطورة على الحاضر والمستقبل، الطفولة السليمة التي تنمو وتترعرع في ظل أجواء من الحماية والحرص والتطوير تنتج ثروة وطنية وأجتماعية ناهضة قادرة على العبور الأمن للمستقبل، على العكس تماما من بقية الأستثمارات الأقتصادية أو السياسية وحتى العلمية ما لم تهيأ لها قاعدة بشرية ناجحة بالقوة على التعامل مع الأستثمار التطوري بعيد المدى.
المجتمعات كائنات حية بأعتبارها تمثل سيرورة البقاء والتطور والنماء، وكلما أمتلكت القوة الذاتية على البقاء الإيجابي كلما كانت قادرة على ألا تقع في مطبات التحجر والتقوقع والتخلف، هذه القوة الذاتية تخضع لقوانين الحياة (الولادة والموت وما بينهما)، الولادة الأجتماعية ولادة مستمرة لا تتوقف وهي مصدر التجديد والتحديث الكيفي والكمي وأهم مفصل من مفاصل الحياة في المجتمعات، الولادات الأجتماعية تمثل أيضا أساس الثروة الأستثمارية التي يمتلكها المجتمع بصيغتها الأقتصادية وبصيغتها الأخلاقية، هنا ركز علماء الأجتماع بحوثهم العلمية على مرتكز مهم وأساسي يدور حول العناية الفائقة لمفهوم الولادة الأجتماعية وضرورات حماية العملية وإدامة زخم المحافظة عليها حفاظا على المستقبل.
الحجر الأساس في التنمية البشرية الاجتماعية يعتمد على فترة ما يسمى بالولادات الاجتماعية، والتي حددها الكثير من علماء الأجتماع بالفترة من الولادة الطبيعية حتى فترة ما قبل التعليم الأساسي الأولي، بعدها تأتي فترة التمية التربوية التي تؤهل للبناء المعرفي والعلمي والأخلاقي وهي الأخطر والأهم بعد فترة الولادة الأجتماعية، العلة في خطورتها أن الكيفية التي تجري فيها التنمية التربوية وطرائقها التنفيذية والمناهج المعدة لذلك هي التي ترسم صورة المستقبل والمقدار الذي سيمكن قياسه على النجاح والفشل في تنمية الثروة البشرية، فكلما أتقنت الأنظمة الأجتماعية منهجية وتطوير ومراقبة وصيانة هذه الفترة كلما أمكنها أن تقيس المقدار الذي سيمكنها من العبور للمستقبل وشكله المطلوب أو المفترض بصرة علمية وعملية.
في المرحلة الأولى من تنمية الثروة البشرية اجتماعيا على الدولة والمجتمع أن تعمل ضمن خطين متوازيين، الأول تنمية القدرة على التخصيب الأجتماعي المتمثل في تهيئة الظروف المادية والعملية لتنمية الثروة البشرية وجعل تكوين الأسر وتسهيل ذلك واجب أجتماعي ووطني ملح، وثانيا أن تسعى ليس فقط لتقديم التسهيلات المادية والقانونية بل بالعمل على جعل هذه الوظيفة مثل الواجب الوطني، ودعم المناهج والبرامج التي تؤمن للعملية التوسع والانتشار، طبعا لا يتم ذلك إلا من خلال رؤية أجتماعية متكاملة يشارك فيها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقانوني، كي تتحول الفكرة من أطارها الطبيعي إلى أطار مدروس وممنهج ومرتبط بأهداف وغايات وخطط مدروسة تراعي فيها الجوانب البنائية والتطورية بشكل ملحوظ.
حتى تكتمل رؤية بناء المرحلة الأولى كان ولا بد أن نؤسس سلفا لملامح المرحلة الثانية بكيفيات وتكونية مستمرة ودائمة الحركة والتطور، ونبني على نتائجها وضمن مشروع طويل لا ينتهي فقط في مرحلة التربية والتعليم، وأنتقالا إلى مرحلة أستثمار المشروع وحصاد نتائجه عندما توظف هذه الثورة في وعائها العملي وحصاد الناتج التطوري وإعادة توظيفه في داخل المشروع الأستثماري البشري، بل لما بعد مرحلة التقاعد والمراجعة التي تفرز لنا حصاد أخر هو حصاد الخبرة والنقد العلمي وتسليط الضوء على جوانب لم تدرك في حينها أو غابت عن الأنظار في حركة لا تتوقف.
التنمية الاجتماعية إذا مصدر بناء الثروة ومصدر قدرة المجتمع على التكيف مع التبدلات والتغيرات والتحولات التي يفرضها حركة الوجود والزمن، ومن لم ينجح في بناء رؤية ومنظومة ومنهج متكامل لهذه التنمية سيجد نفسه في أخر ذيل تصنيف المجتمعات البشرية ويرتكب بحق وجوده وحق الإنسان جريمة تأريخية، من المؤكد أن الغالب من المجتمعات المتخلفة ومنها مجتمعاتنا العربية والإسلامية تعاني من فقدان الإرادة والتخطيط والعزيمة في بناء هذه المنظومة لأسباب كثيرة منها تخلف السلطة الحاكمة علميا، وتخلف مناهج التفكير لديها لأنها حكومات فرضت خارج إرادة الشعوب وخارج مجريات الفكر المعاصر، وهمها الأول والأخير ضمان التسلط وممارسة السلطة من موقع العنف والقسوة والمصلحة الذاتية.
ناهيك عن الإشكالات البنيوية في المجتمع العربي والإسلامي التي يتداخل فيها الكل في خليط غير متجانس ولا متفاعل ولا مشترك بحد أدنى من الشعور بالمسئولية الوطنية، المؤسسة الدينية تمارس دورها وفق أطار مرتبط بفهمها المتحجر والمتحيز للدين والمؤسسة الاجتماعية القبلية والعشائرية تنحاز لموقفها الرجعي القائم على التملك والسيطرة والاستحواذ على المنافع، فيما نشهد غياب حقيقي وجاد من المؤسسة الاكاديمية والعلمية صاحبة الحق والقدرة والإمكانيات في بناء وتصميم الرؤية الاجتماعية الجامعة لنظرية التنمية والاستثمار الاجتماعي للثروة البشرية.
وأيضا هناك عنصر مهم وطارئ دخل على الساحة وزاد من خراب المشروع التنموي وهي الصراعات المسلحة والحروب العبثية التي أثرت بشكل كبير ومفزع على شريحة الأطفال والشباب وشوهت ملامح المستقبل الذي هو عماد هدف المجتمعات، لقد تركت الحروب والصراعات فجوة كبيرة جدا بين الطفولة وحقوقها ووضعها القانوني، كما ساهمت في تخريب بعض المشاريع البسيطة والتي يؤمل لها ان تساهم بجزء يسير في موضوع التنمية البشرية، كما ساهمت في تخريب التربية والتعليم وطرح قضايا اكثر إلحاحا على الواقع مثل الفقر ونقص الخدمات الصحية والإنسانية والمرضية الانحرافات السلوكية الخطيرة.