لكنهم لم يعثروا عليها أبدا



نوال السعداوي
2016 / 8 / 31


أتمنى أن أموت واقفا مدافعا عن الحق وليس راقدا فى فراشى، كلمات أبيها انحفرت فى ذاكرتها، بدأت تتطلع فى الخامسة من عمرها لبطلات شجاعات يدافعن عن الحق حتى الموت.




جدتها الفلاحة ماتت واقفة، تتحدى العمدة والملك والإنجليز، وأمها ماتت وهى تدافع عن كرامتها ضد غدر الأهل وطعنات الوطن، تسبح فى البحر لا تهاب الجنية والغولة، الأطفال مثلها يسبحون قرب الشاطىء، تتركها أمها تقاوم الموج وتقول: لايتعلم السباحة من يخاف الغرق، لكن الشجاعة والإقدام على الموت فى سبيل القضايا الإنسانية لم تكن صفات الأنوثة ، ولم تعجبها صفات البنت المثالية: الضعف ، المراوغة والاستسلام للذل والهوان ، لم تتظاهر بالضعف لتكون مرغوبة، لم تعشق غسل الصحون ودعك المراحيض لتكون محبوبة، لم تكن كسيحة لتبقى بالبيت سجينة، كانت طفلة طبيعية تعشق الانطلاق فى المساحات المفتوحة وركوب الدراجات والطائرات والخروج فى المظاهرات، تنهمر دموعها من شدة الفرح وهى تهتف مع التلاميذ: يسقط الملك تسقط الحكومة يسقط الإنجليز، وتضيف من عندها: ويسقط جدى.

كان جدها متغطرسا، هربت أمها منه لبيت زوجها، لم تر زوجها إلا من وراء الشيش، خاطرت بحياتها وألقت بنفسها فى المجهول، كانت تقول «خاطرى لتكسبى»، لحسن حظها كان زوجها إنسانا وليس ذكرا، لأمها صورة قديمة تسبح معه فى البحر وتلعب الكرة على الشاطىء بالمايوه، لم يكن زوجها يفصل بين حرية الوطن وحرية المرأة، شهد أمه الفلاحة تخرج للعمل بالحقل فجر كل يوم،

تطعمه وإخوته من إنتاج أرضها ويديها، لم تكن تخاف الجن الأزرق، تقف بقامتها الفارعة أمام العمدة، تشوح فى وجهه بيدها المشققة المحروقة بالشمس وتقول «الأرض أرضنا والزرع زرعنا إحنا مش عبيد»، هذه المرأة أرضعت ابنها الكرامة والعدل والمساواة، تخبط على بطنها بكفها القوية وتقول: البطن اللى ولدتك زى البطن اللى ولدت ابن الملك، وأبوها كان يقول «البنت مساوية للولد» ويشجعها على السفر وحدها بالقطار والمشاركة فى الرحلات والمباريات الرياضية والمظاهرات الوطنية. فى الثالثة عشرة من عمرها تأهبت للموت بالرصاص وهى تهتف وسط الآلاف:

الاستقلال التام أو الموت الزؤام.

الأطفال، البنات والأولاد، يولدون بشجاعة طبيعية وعقل خلاق، لكن بذرة الخوف تنغرس فى عقولهم بالتربية والتعليم، يملأ الأهل والمدرسون خيالهم بالأشباح، لكنها حظيت بتربية مختلفة، لم تكن تخاف الظلمة، لم تسمع عن العفاريت إلا من مدرس الدين، وأعلنت أمها «مافيش عفاريت»، فوقفت بالفصل وقالت «مافيش عفاريت» فإذا بالمدرس يضربها بالمسطرة على أصابعها حتى تورمت، مع ذلك لم يدخل كلامه عقلها، يتفوه بعبارات تحتقر البنات،فى يوم أعلن أن «البنت مساوية للولد» كلماتها الثلاثة زلزلت المدرس فصرخ «أسكتى يا كافرة ستحرقين فى النار» لكن الموت كان أهون عندها من السكوت، هكذا أصبحت تسمع كلمة «كافرة» و«الحرق فى النار» كل يوم بالمدرسة، لكن قلبها الطفولى لم يفقد شجاعته الأولى أو الثقة بنفسها، لم تكن تخاف العفاريت، تمشى وحدها بالليل،تحدق فى الأركان المظلمة، لم يظهر لها عفريت واحد، وقالت أمها اللى يخاف من العفريت يطلع له. لم تكن أمها بطلة مصارعة أو رفع الأثقال، كانت بطلة إنسانية، صريحة سافرة الوجه لاتعرف التحجب والتخفى ، تمردت على صفات الأم المثالية، لم تلبس الكفن الأسود تظاهرا بالعفة، لم تكن منخفضة الصوت منكسرة العين مثل الجوارى والعبيد،لم تتعثر فى مشيتها كالمربوطة القدمين فى الحذاء الحديد، قرأت عن بطلات وأبطال ماتوا دفاعا عن الحرية والعدالة فى بلدهم، أو فى أى مكان بالعالم، إرتفع عندهم الصدق والعدل والحرية والمساواة على القيم الدينية والأخلاقية الموروثة منذ آلاف السنين.

لكن التعليم يعجز عن غرس الشجاعة والإحساس بالمسئولية تجاه النفس والآخرين، كما أن الالتزام بالدستور والقانون العادل ليس جزءا من الالتزام الدينى والأخلاقى.

هكذا عاشت الطفلة مهددة بالموت حرقا، أصبح الموت شريك حياتها، كثيرون قتلوها دون أن يلمسها عزرائيل، أعلنوا موتها عدة مرات فى الإذاعات والفضائيات، ثم فتحوا المقابر يبحثون عنها، سرقوا الكفن والكبد والأعضاء البشرية، وجدوا جثثا كثيرة مقتولة فى الشباب والطفولة، لكنهم لم يعثروا عليها أبدا.