أسماءُ نسائنا: -الشرف السمج- ... والقيعان المتلاحقة!



خالد الحروب
2016 / 9 / 3



د. خالد ميسر الحروب

انا خالد ابن ميسر، زوج خلود، ووالد ميس، وشقيق نجاح، وعاشق ستي فاطمة وعمتي مريم وخالتي زريفة، اضم صوتي إلى صوت غالبية الفلسطينين والعرب الذين استنكروا التفاهة التي فوجئنا بها في بعض القوائم المتُنافسة في الانتخابات البلدية الفلسطينية، والتي تُخفي اسماء النساء وتغتالهن وهن أحياء بنسبتهن إلى أزواجهن أو أشقائهن. واعلن بهذه المناسبة انتسابي بإعتداد إلى كل النساء الرائعات اللواتي كن سبب وجودي ونجاحي، واتباهى بالتغني بأسمائهن، وذلك توكيداً وملايين غيري على الرفض الشديد للسماجة المتزايدة التي "تخجل" من ذكر الاسماء الصريحة للنساء. عدد من القوائم الانتخابية احجمت عن ذكر اسماء المرشحات النساء فيها، وعوضا عن ذلك عمدت لنسبتهن إلى ازواجهن او اشقائهن، مثلا: المرشحة زوجة السيد فلان، او المرشحة شقيقة السيد علان. نفس الممارسة البشعة رُصدت أيضا في قوائم الانتخابات البرلمانية الاردنية. ويعود قصب السبق، على ما اعتقد، في ترسيم اول "إبداعات" هذه الظاهرة إلى الأحزاب السلفية المصرية خلال إنتخابات ما بعد ثورة يناير 2011، عندما استبدلت رموز القبعة او الملعقة او البلوط بأسماء وصور المرشحات على القوائم السلفية.
هكذا إذن، يفكر بعضنا ملياً في ابتكار قفزة خلاقة في الإنحطاط والتخلف ثم يصدموننا بها. لوهلة نظن بأننا فقدنا القدرة على الإندهاش من هول العفن والتخلف والتطرف والتعصب الذي يخنقنا، وهؤلاء جميعاً هم الحلفاء الموضوعيين والصادقين والدائمين للأعداء الخارجيين وحروبهم وتدخلاتهم في بلادنا وشؤوننا. نكتشف بعد ذلك كم كنا ساذجين في ظننا الاولي بأننا ارتطمنا في القعر الأخير ووصلناه. ذات مقال منذ اكثر من عشر سنوات كتبتُ عن "اركيولوجيا القيعان المتلاحقة"، وفيه قلت كلما اعتقدنا بالوصول الى القعر نكتشف خطأنا وبأن هناك قيعاناً اخرى تتلاحق بإنتظارنا. الوصول للقعر الحقيقي والاخير صار منتهى امانينا، ذلك أن مسار الحركة بعد القعر الاخير تتحدد بخيارين إما الثبات على ذلك القعر، او التحرك رأسياً وابتعاداً عنه. في وضعنا الحالي لا تتبدى عزيمتنا إلا في القدرة الهائلة على الحفر عن قعر جديد فور وصولنا للقعر الذي نحن فيه، إذ سريعاً ما نمل منه ونتوق لقعر جديد. ينطبق هذا على السياسات الوطنية والقومية والخارجية والحزبية والدينية والاجتماعية، ويكاد لا يستثني جانباً من جوانب اجتماعنا السياسي والثقافي.
"العبقري" الذي جاء بفكرة مبتكرة جديدة لوأد النساء، غير الافكار والاساليب الكثيرة الموجودة والممارسة بشكل يومي، وتتمثل في إغتيالهن معنويا وأسمياً يستحق وسام الإنحطاط نحو القعر الجديد. نقفز منحدراً جديداً من التردي الاجتماعي والثقافي المُحير والذي لا تفسير له إلا طوفان هذا الخليط العجيب من المحافظة والقبلية والتدين السمج والأخلاقوية الاسلاموية المتعالمة على فضاء مجتمعاتنا. الجديد في هذا التردي انه مُقحم على سياق المجتمعات العربية لجهة عنف الإغتيال المعنوي الذي يصل إليه. ليس هذا معناه ان مجتمعاتنا قديما وراهنا وفرت بيئات وردية تسير الإناث على حرير دروبها، بل المسألة هنا هي عمق درجة التردي. ثم وعلى ما في هذه المجتمعات من قمع مُستبطن ضد المرأة فلقد بقيت مساحات ضوء هنا وهناك يتسلل منها الوجود النسوي سواء أكان ممثلاً في رائدات وقياديات او مبدعات فرضن انفسن على الفضاء المجتمعي رغم قيوده وإكراهاته. إلى وقت قريب جداً وخاصة في المدن المحاذية للبحار حيث يذهب الرجال لصيد السمك واللؤلؤ ويغيبون بالشهور، كانت المرأة عماد البنية المجتمعية، هي رب البيت، ترعاه داخلياً، وتمثله خارجياً في المجتمع، وتتسوق له في الاسواق، وتتاجر مع الغرباء، وتعود للبيت تستقبل الضيوف وتكرمهم. كانت معروفة بالاسم والوجه والنسب. لحسن الحظ لم يكن عباقرة اليوم من مصممي القوائم الانتخابية موجودون في تلك الايام. كما لم يتواجدوا يوم جُمعت كتب السيرة النبوية فعرفنا زوجات النبي بالإسم وبناته وبنات وزوجات الصحابة، وبعدهن قوائم طويلة بداياتها جزيرة العرب ولم تقف نهاياتها مع ولادة بنت المستكفي في الأندلس ولا الملكة ممتاز في هند المغول والتي بُني لها قصر محل الشهير.
نستنجد على "عباقرة" اليوم ببلقيس وزنوبيا وشجرة الدر ورابعة العدوية، وفاطمة الفهري مؤسسة جامعة القرويين في المغرب. نستنجد ب "هيباتيا" الفيلسوفة الافلاطونية المتألقة وفخر الثقافة الاسكندرانية في القرن الرابع الميلادي لتعنف ذكورتنا المتضخمة كبالون فارغ، ولتشير إلى اسماء الإناث العديدات المنضويات في درسها الفلسفي. ظلت هيباتيا تنشر العقل وتدافع عن التفكير وتقول إن الحقيقة لها وجوه عديدة إلا ان تفاقم حولها التعصب الديني والمحافظي فأطلقَ عليها الغوغاء في وسط الطريق، جروها من عربتها، عروها، وسحلوها على حجارة الشارع حتى تسلخ جسدها وكتب دمها على الأرض مذبحة العقل في هذه المنطقة وتسيد الغوغاء. اليوم يشتد عواء الغوغاء في فضائنا الحزين ويستهدف المرأة ضمن من يستهدف: المرأة اصل الغواية، واصل الفساد، وأصل الفضيحة، واصل نقصان العقل والدين، واصل كل الرذائل. كل ما فيها مُخجل للذكورة التافهة حتى اسمها يجب ان يختفي او يُخفى. في فلسطين التي نتباهى بصور رائدات الثقافة فيها في حيفا ويافا والقدس ونابلس وغزة، بما في ذلك صور الفرق الرياضية النسوية، قبل إنزراع الكيان الغريب في ارضنا نتلقى صفعة إثر اخرى: من قتل الشرف بدعوى الدفاع عن الشرف، إلى القمع اليومي المتواصل للإناث، وصولا اليوم إلى إخفاء اسماء النساء في القوائم الانتخابية. في عقود النضال ضد المشروع الإحتلالي الكولونيالي ترصعت سماء النضال الفلسطيني بأسماء قائمة طويلة من القلائد النسوية من ليلى خالد ودلال المغربي وعائشة عودة إلى وفاء إدريس وآيات الاخرس وهنادي جرادات، عدا عن عشرات الالوف من امهات المخيمات وغيرهن من الجنديات المجهولات. في ساحة العمل الوطني تتكاثر القلائد عن القدرة على التعداد في كل مجال من المجالات، واحدثهن حنان الحروب التي فازت بموقع افضل معلمة في العالم. ومع ذلك لا ترى فيهن الذكورة المنتفخة سوى "قنبلة العار الموقوتة".
في الأردن ايضا، وتعميماً للتخلف، تقضي محكمة الاستئناف الشرعية بأن شهادة المرأة غير المحجبة مرفوضة لأنها "فاسقة"، نعم هكذا بالفم المليان لأنها فاسقة. ما تقوله لنا المحكمة العتيدة بين السطور أن ليس هناك أية "فاسقة" بين ملايين المحجبات، وأن الفسوق الإنثوي عنوانه الحجاب او عدمه. ما لا تقوله لنا المحكمة العتيدة إن كان هذا الحكم ينطبق على الملكة رانيا ملكة الاردن وأميرات العائلة الحاكمة غير المحجبات، أم انه مقصور على مساكين الناس. نعرف المسكوت عنه سلفا ولا نسأل عن الإجابة اصلاً، ذلك ان التمأسد الذكوري المتواصل ضد الإناث وكما التمأسد البطولي الديني ضدهن يتحول إلى سياسة ناعمة تسابق النعام عندما يتعلق الأمر بكبار القوم او بتهديد المصالح الإنتفاعية ل "الأبطال" المذكورين المنتفخين بالعواء.