فلسطين و أمي



جمانة زريق
2016 / 12 / 2

في علم النفس يقولون إننا نفقد إحساسنا بالأشياء عندما نردد ذكر هذه الأشياء كثيراً على شفاهنا. و لأني تبنيت منذ طفولتي هذا المبدأ الفلسفي, فقد كنت أتجاهل كل الشعارات التي كنا نرددها من أجل فلسطين في الماضي, و أحاول قدر الإمكان أن لا أردد هذه الشعارات أولاً لأنني أؤمن تماماً أنه عندما ترتفع الشعارات, تسقط القضية و ثانياً أردت أن أحتفظ بشيء جميل داخلي تجاه حبيبتي فلسطين.
فلسطين لم تكن بالنسبة لي تلك البقعة الجغرافية التي سلبها العدو الإسرائيلي فقط, و إنما فلسطين هي وجه أمي الحبيب ويداها الدافئتان. و على الرغم من أننا في عالمنا العربي نحرم الأمهات من منح حنسياتهم لأبنائهم ظلماً و بهتاناً, ولكنني تمردت على هذا القانون مذ وعيت أن أمي من فلسطين. وكان دائماً يراودني سؤال أعجز عن الإجابة عليه, ألا وهو: كيف للأم التي تربي أبناءها, تطعمهم من يديها على طريقتها, و تشربهم بأسلوبها كل مبادئها, فتمنحهم جنسيتها بشكل عفوي غير مقصود,كيف لها أن تُحرَم من منح جنسيتها بشكل فعلي لأبنائها, أوليس هذا هو الظلم بعينه.
ونحن نحتفل كل عام بعيد الأم وننظم لها أجمل القصائد ونعتقد أننا نكرمها بهذه الطريقة متناسين أننا لايمكن أبداً أن نكرم أحداً بعد أن نكون قد سلبناه حقاً من حقوقه.
فالأم والوطن أمران متلازمان يصعب الفصل بينهما, فنحن عندما نحب أمهاتنا,فلا شك أننا نحب أيضاً أوطانهن ونحب أن ننتمي لهن. ولعل شاعرنا الفلسطيني الرائع محمود درويش هومن أهم الشعراء الذين ربطوا ربطاً رمزياً جميلاً بين الأم و الوطن, فكل التفاصيل التي كان قد ذكرها في قصائده عن الأم, كانت تحمل في طياتها تفاصيلاً جميلة ومرهفة عن فلسطين و عن الحياة هناك, ففلسطين تظهر في قصائده من خلال خبز التنور الذي الذي كانت أمه تخبزه في الصباح و حبل الغسيل الذي كان أحد تفاصيل الحياة الفلسطينية فهويته لم يرثها فقط من أبيه و أجداده, بل اكتسبها أيضاً من أمه, من قهوتها و خبز تنورها:
“ضعيني، إذا ما رجعتُ
وقوداً بتنّورِ ناركْ
وحبل غسيلٍ على سطحِ دارِكْ
لأني فقدتُ الوقوفَ
بدونِ صلاةِ نهارِكْ
هرِمتُ، فرُدّي نجومَ الطفولة
حتّى أُشارِكْ
صغارَ العصافيرِ
دربَ الرجوع..
لعشِّ انتظاركْ.”
فالهوية ليست شيئاً نرثه فقط وإنما هي شيء نكتسبه اكتساباً أيضاً, و ربما هذا ما يبرر أن هناك بعض الناس الذين لا يشعرون بانتماء وحب للأوطان التي ولدوا فيها, فهم لم يكتسبوا محبتها لسبب أو لآخر, و آخرون يشعرون بانتماءهم لأوطان لم يروها و إنما سمعوا عنها من عشاقها فأحبوها.
ولهذا السبب كنت ومازلت أرى نفسي أنني سورية المنشأ و فلسطينية الهوى,فسوريا دائماً في قلبي وفلسطين كما أمي, تسكن في روحي.