لماذا تكتب المراءه ؟هلوسات الوحدة والمرض في موسكو



امل عجيل ابراهيم
2017 / 1 / 13

سالني عدة اشخاص عن السبب الذي يدعوني لان اكتب وهم اشخاص غير عاديين على الاقل بالنسبة لي احدهم ابني الكبير الذي تخرج هذه السنة من كلية الطب واخر هو احد زملائي بالجامعة وهو بروفيسور واكاديمي على قدر كبير من الثقافة والموسوعية ......لماذا تكتبين وتعرضين نفسك لنقد الاخرين ونفث سمومهم واذا كان لابد من الكتابة فلتكن كتب ودراسات وليس مقالات في الانترنيت ....انا اكيدة بان هذا السؤال لم يوجه يوما لرجل واعترف انه سؤال صادم لانني ببساطه لم اكن اعرف الجواب ولم افكر بالسبب الذي يدفعني للكتابة كما لايسال المرء نفسه عن السبب الذي يجعله يتنفس .......اهملت السؤال ولم ابحث عن اجابته ....الا الان ....وانا في موسكو معصوبة العينين على اثر عملية جراحية دقيقة اجريت لعيوني ...متلفعة بردائي من برد روح وجسد يملاني ...اشعر برذاذ ناعم لم اميز كونه مطر او ندى ....حبل متين يسحبني الى هاوية سحيقة لاموت فيها ولاحياة ...لاشئ سوى الالم الذي يزلزل راسي حاملا دوامات الوجع من عيوني الى كل ذرة من خلاياي ....وجع هادر ...صاخب ...مدمر ولانهائي ...انا في اقصى الكرة الارضية وهو في اقصاها الاخر ويحمل صوته لي جهاز هاتف صغير ....صوته الحامل برودا اشد من شتاء موسكو وصقيعها .....ماذا قال لي ؟؟ليس مهما ماقال لاني لم اعد اعي مايقوله .....قطعت حديثه حينما اراد ان يبرر موقفه واغلقت الهاتف ....كنت واثقة ان الخذلان :موت ....وتبرير الخذلان :موت اخر امر واصعب .......تحول الرذاذ الى مطر كثيف قطراته من حجارة تتساقط على راسي وتمتزج بدم جرحي ......اتلمس طريقي بصعوبة للعودة من حديقة المشفى الى غرفتي .....وسط ظلامي افتح الحقيبة وابحث عن القلم ودفتر صغير احمله معي دائما لاكتب مايخطر لي .....اريد ان اكتب ......اذا لم اكتب الان فساتمزق كقنبلة صامتة تناثرت شظاياها في صحراء فارغة .....كان الما لايخففه سوى الموت او الكتابة ....الما فوق احتمال الروح وطاقة الجسد لاعلاج له غير ان تطرده الذات في زفير الحروف فتتحرر منه لتعاود التنفس من جديد .....تذكرت وقتها السؤال :لماذا تكتبين ؟ وادركت لماذا اكتب ...ولماذا تكتب اية امراءة ؟..........الكتابة خلاص ودواء ...ومواساة للروح وطريقة فريدة لمواجهة الالم تفقدك شعورك فيه كما يفقد المخمور وعيه فيعيش في عوالم من خيال ورؤى على حافة رفيعة بين العقل والجنون ...بين الاتزان والتفكك ........الكتابة :بوح لصديق مخلص يحمل بعض همومك عنك هو قلمك واوراقك ولايمكن ان يخونك او يخذلك
ان تكتب وان يقرا الاخرون كلماتك تماثل ان يجردوك من ثيابك فكلاهما تظهر جزء من حقيقتك امامهم مع ان الفارق كبير بين حقيقة الروح وحقيقة الجسد ......فكيف لامراءة ان تتجرد من ثيابها !!في مجتمع يسيل لعابه حتى لمن تتدثر بالف نقاب ونقاب ...ولهذا ياتي السؤال :لماذا تكتبين ..لماذا تكتب اية امراءة ؟ وتكوينها لايقتضي هذا النوع من التحرر والانعتاق باعتبار انها (وطر )رجل يقضي حاجته منها وهي بنظر المجتمع الذكوري (مملوكة)وصك عبوديتها ينتقل من ابيها الى اخيها الى زوجها الى اصغر اولادها مادام ذكرا مع انها هي التي انجبته .....والكتابة احد الابواب الكبيرة للحرية فلماذا تغامر المراءة بدخوله واثارة الاسئلة حولها وربما الاصح اثارة الشبهات والظنون في مجتمع اصبحت احد اهدافه هو تسقيط الاخر والانتقاص منه وتتضاعف اهمية الهدف اذا كان هذا الاخر :امراءه ..........يعجب الرجل بالمراءه التي تملك قلما تعبر فيه ولكنه من النادر ان يتزوجها ....ماحاجة الرجل الى امراءه تكتب ؟؟ومروياتنا حثت على عدم تعليم المراءه اصلا واكدت (لاتنزلوا النساء الغرف ولاتعلموهن الكتابة ولاتعلموهن سورة يوسف وعلموهن المغزل وسورة النور )
هل يدرك من قال هذا الحديث مااشعر به الان وانا معصوبة العينين في ارض غريبة ...وحيدة ....في غرفة اشبه بالزنزانة الانفرادية في مشفى بعيد ...وسماء موسكو الماطرة تطبق على روحي ونهارها الذي يمتد لعشرين ساعة طويلة هو ليل دامس لي ...والخنجر المغروس في عمقي لايتركني احيا ولايدعني اموت قاذفا بي في دوامة الم فوق الاحتمال لاخلاص منه سوى بتبديده :حروفا وكلمات
هل يصدق من روى الحديث ان اول ماتبادر الى ذهني وزلزل روحي حين علمت بمرضي واحتمالية ان افقد بصري هو حرماني من ان اقرا واكتب وعدم احتمالي لذلك ......كنت افكر :انني استطيع ان احتمل فراق وجه طفلتي الجميل ...وعدم رؤية زهور حديقتي التي اراقب بشوق تبرعمها وتفتحها ....والسماء التي اعشق تداخل غيومها وتدرجات الوانها واسراب عصافيرها ....احتمل ان افارق الوان الكون ولوحاته المبهرة ووجوه من احب ولكني لااقوى على ان لااستطيع القراءة والكتابة فمنذ طفولتي وانا ابيض الدفاتر بالكلمات حتى اوراقي المدرسية كانت مليئة بالاسطر الخارجة عن موضوعاتها ومع ان الكثير مما كنت اكتبه كان مشوشا واحمقا الا انه حمل السلام الى روحي وحررني من قيود ثقيله فحين تولد الكلمات من القلب حاملة الم الروح وثوراتها الدفينة تتحول بتلقائية عجيبة الى فراشات وازهار ملونة تحط على الورق ثم تعود الى القلب من جديد حاملة السلام والهدوء والارتياح
اغلقت الهاتف ....وانفتحت بوابات الجحيم تتفنن في قتلي بالف طريقة وطريقة ...واستمر سقوط المطر موحشا وكئيبا كدموع اطفال جياع يتامى .....يقولون ان السماء تفتح ابوابها للدعاء حين تمطر تذكرت الشتاءات الكثيرة التي كنت اقضي ساعات المطر فيها وانا اصلي كنت بريئه وساذجة الى درجة اصدق فيها كا مااقراءه خصوصا الروايات التي تنسب للانبياء والاولياء ....كنت اغتنم وقت المطر لاصلي وادعوا قبل ان ينتهي فتغلق ابواب السماء بوجه البشر من جديد !
ويقولون ايضا ان دعوة المظلوم ليس بينها وبين الخالق حجاب تطرق قلب الرب مباشرة دون ان يستئذن لها ميكائيل او يرفعها جبرائيل ربما لان الظلم احساس لايشبه اي احساس اخر يزلزل الروح بحزن لاينهيه حتى الموت فكيف اذا كان الظالم هو الاقرب اليك من شهيقك وزفيرك ...نمى وترعرع في مسامات جسدك ...عانق خلاياك واحدة بعد اخرى تمدد في جهات قلبك الاربعة ...امتص رحيقك ودماءك وضياء مقلتيك وصحة جسدك وحين انتهى دورك غرس خنجره المسموم في احشاءك ومضى
هناك اساءات لايمحوها الاعتذار وجروح لايبرؤها الندم ومواقف تحرق كل خطوط الرجعة ....في الحياة خيبات كثيرة اكثرها وجعا ...عقوق اولادنا ....فجيعتنا بمن نحب ....خنجر غدر من روح كنا نظن انها جزء من كينونتنا ووجودنا ...صفعة خذلان ممن كنا نؤمن بانهم سندنا وقوتنا ........صوت قيصر الهامس الصارخ (حتى انت يابروتس ؟)فجيعة الصدمة والخيبة التي هي اشد ايلاما من الموت لان خنجر بروتس يتميز عن خناجر الاخرين فاليد التي تمسكه هي يد من كان يحبه قيصر ويد من نحب نكون واثقين انها ستنتشلنا اذا ماغرقنا في بحر همومنا فكيف اذا جاءتنا الطعنة منها :نجلاء ...قاتلة وفي الصميم
كان من قواعد العرب في الجاهلية هي عدم الاجهاز على جريح ....في جاهليتنا المعاصرة اصبح لدى البعض ممن فقدوا انسانيتهم امكانية الاجهاز وسهولته حتى لو كان الجرح يمتد من شرق الارض الى غربها متكفلا بانهاء الروح ودمارها وحتى لو كان المجروح لم يقدم غير الود والمحبة
لماذا خلقت المراءه بمشاعر مفرطة وحساسية زائدة ورقة غالبة وعاطفة جياشة وحنان غامر اذا لم يكن من حقها ان تعبر عن ذلك وتشعر به والخدمة المنزلية و(اعمال المغزل)لاتتطلب كل ذلك
كيف يمكن لرجل الكهوف الحجرية الذي ارتدى اليوم البدلة السبور وربطة العنق الانيقة وشذب شعره وقلم اظافره وبقى متمسكا بعفونته الداخلية ان تقنعه رقة امراءه وعقليتها وحاجتها للتعبير عن ذاتها ؟كيف يتخلى عن موروثات قرون طويلة من السيادة والجبروت وتقبيل المراءه ليديه وغسلها لقدميه واحتمالها لخياناته المتكررة ونزواته العابرة وتخليه عنها متى شاء وعودته اليها انى شاء وهجرها واستلابها وذبحها على ابسط هفوة وزلة ناسيا ان لهم الحق نفسه في الاحترام والحياة ....في الكينونة والشعور ...في اظهار طاقاتهم واعلان مواهبهم وتحقيق ذواتهم وان لايختص احد منهم بامتيازات استثنائية وبحق (الفيتو)على الطرف الاخر
تكتب المراءة وسيف من يقراها حادا لامعا متحفزا لقطع رقبتها وانزال اللوم عليها ...ماالذي اتى بها الى عالم الكتابة المفخخ بالتساؤل والدهشة والظنون والعجب كعيني طفل راى بالونات ملونه لاول مرة ؟ماالذي دفعها لترك (مغزلها)وتحضير طعام زوجها واولادها واشغال وقتها الفارغ بالمكنسة وتلميع الاثاث ؟والدخول في تقاطع طرقات والقفز على مطبات وتسلق جبال شاهقات وتحمل انعطافات ومفاجاءات ولوم وشك وريبة واتهامات على اعتبار ان كل ماتكتبه المراءه يمثل تجربة مرت بها شخصيا والمراءه المجربة في مجتمعنا تساوي المراءه الرخيصة في التقدير والتقييم
للخلاص من الالم ابواب عديدة احدها الكتابة وحين يستنفذ الانسان ابواب خلاصه كلها يصل الى اللحظه التي يعلن فيها عجزه فيقرر انهاء مواصلته للحياة لانه لم يعد يحتملها .....بعض ابواب الخلاص وهمية وبعضها خاطئة وهناك ابواب لاجدوى منها واخرى خلاقة ومثمرة وفي النهاية هي منافذ للخلاص وكفى
وانا في المشفى وسماء موسكو تنهمر بمطر كئيب وموحش ....عاجزة عن الكتابة عن الصلاة عن الرسم عن فتح اي باب للخلاص من الالم ...لاشئ معي غير صوته الفظ وبروده القبيح .......احيانا ننسى اللحظات المؤلمة بعد شهر واحيانا تستقر في ذاكرتنا فلا ننساها لسنين وهناك اوقات للالم ترافقنا الى القبر تستعصي على النسيان او التناسي وتظل تجلدنا بسوطها اللاانساني بنفس الشدة والقسوة كل حين
بعض الاشخاص ننفخ في صورهم ...نعطيهم حجما اكبر بكثير مما هم عليه ..نقدسهم ..نضعهم في سويداء القلب ومقل العيون ونتالم من مواقفهم بمقدار حجمهم الذي توهمناه وهي في الحقيقة مواقف تتناسب تماما مع سطحيتهم وضالتهم التي غفلنا عنها
البعض ممن توهمنا حبهم يترددون الف مرة قبل ان نسمع منهم كلمة لطيفة مع ان الكلمة الطيبة صدقة ولايترددون مرة واحدة في ان يذبحونا بصمتهم وكلماتهم والعجيب انهم يفخرون بقسوتهم كما يتباهى الجزار بسكينه الاعمى
سماء موسكو تمطر بشدة مع اننا في تموز وكان في السماء اناسا يمتلكهم الحزن مثلنا فتنهمر دموعهم الاسطورية وتغرقنا بمشاعر سماوية مجلجلة وفريدة ...تخيلت وجوههم وعيونهم الواسعة جدا وقطرات الدمع النقية التي تتساقط منها ووجدته تفسيرا جميلا لظاهرة المطر
هلاوس الوحدة والمرض الم الخيبة وجع التيقن باننا فهمنا الاشياء بوقت متاخر جدا .....سفن النجاة المحترقة حيث لايوجد سوى البحر الغامض من امامنا وجهنم من خلفنا
هلاوس الوحدة ...حتما ستتوقف وتتلاشى ويبدا نهار جديد مغمور بالضياء والنور كما توقف المطر الان وعم الصمت من جديد في ارجاء المشفى