التأويل الذكورى للتاريخ المصرى



نوال السعداوي
2017 / 1 / 25


منذ خمسة آلاف عام قبل الميلاد، كتبت «نوت» وصيتها لابنتها «إزيس» تقول فيها «لا أوصى ابنتى التى ستلى العرش من بعدى أن تستمد سلطتها من قداسة الألوهية
بل أن تكون حاكمة رحيمة عادلة»، لكن مؤرخى الاستعمار الأوروبى طمسوا الفلسفة الإنسانية المصرية الرائدة، ليقولوا إن الفلسفة بدأت باليونان، ثم أشاعوا أن الثقافة المصرية القديمة قامت على الخرافات، وانتقلت هذه الفكرة المناقضة للتاريخ، الى المفكرين الناقلين عن الأوروبيين، وكانت مقررة لأجيال متعاقبة من التلاميذ بالمدارس المصرية فى كتاب من تأليف فيلسوف مصرى، وأذكر أننى نشرت مقالا بجريدة الأهرام (منذ أربعين عاما) أنقد الفكرة، ثم نشرت الجريدة حوارا بينى والفيلسوف، الذى أنكر وجود فلسفة مصرية قديمة، فما بال أن تقودها النساء؟

وفى منتصف الثمانينيات ظهرت مسرحية توفيق الحكيم بعنوان «إزيس»، جعل الصراع الرئيسى فيها يدور بين الذكور، ولم تظهر إزيس إلا كزوجة لأوزوريس، مع أن التاريخ يؤكد أن دور إزيس الفلسفى والسياسى والتعليمى كان أكبر من دور زوجها، بل هى التى علمته الفلسفة والطب والزراعة والكتابة والفنون، ويضحك توفيق الحكيم ويقول، طبيعى أن تكون نظرتى ذكورية لأنى رجل، لماذا لا تكتبين المسرحية من وجهة نظر أنثوية؟ وقلت، سأكتبها من حقائق التاريخ، لا ذكورية لا أنوثية، وفعلا كتبت المسرحية، بعد عام واحد من مسرحية توفيق الحكيم، ونشرتها فى كتاب بعنوان «إزيس»، إذ منعت السلطات الحاكمة ظهورها على المسرح المصرى، رغم محاولة «كرم مطاوع» لإخراجها.

وجاء فى تقرير الرقيب أن «المسرحية فيها مساس بقداسة الألوهية» وهى التهمة الأزلية المسلطة كالسيف على العقل الإنسانى المبدع، غربا وشرقا، وكانت من أهم أسباب طغيان العنف والحرب والقتل باسم الآلهة، فى كل العصور، وكان أرسطو ( ٣٨٤ – ٣٢٢ م) هو الذى قال إن «العبودية نظام إلهى عادل تتطلبه طبيعة العبد والمرأة» وبدأ فلسفته بأن «الإله هو السبب الأول للوجود» وأصبح تاريخ الفلسفة هو تاريخ البحث عن هذا اليقين، لم تنفصل الفلسفة عن الإيمان الدينى إلا نادرا، وظل علم الفلسفة منهجا للبحث النظرى لإثبات الفكرة الموجودة سابقا، رغم أن جوهر الفلسفة هو اكتشاف حقيقة جديدة غير سابقة، لكن أغلب الفلاسفة وقعوا فى هذا المأزق، إلا القليلين من المدرسة المادية الجدلية، أما الفلسفة المصرية القديمة فلم تقع فى هذا المأزق، إذ جعلت العدل والرحمة هما الأساس وليست القداسة الألوهية.

ويطلق على العبودية القديمة اسم النظام «الطبقى الأبوي» الذى أنتج الظلم والعنف والنظم الإقطاعية، التى تطورت الى النظم الرأسمالية القديمة والحديثة، بمنظماتها الاستعمارية الإرهابية السياسية العسكرية الدينية، التى تقتل باسم الإله، ألا تقتل إسرائيل الشعب الفلسطينى وتحتل أرضه باسم الوعد الإلهى؟

وقد بدأت فى مصر، مؤخرا، حركة لإحياء الحضارة المصرية القديمة، تحاول الكشف عن جذور الثقافة المصرية العريقة، وروافدها المتعددة الممتدة فى عمق تاريخها المتصل الحلقات، لا انفصال بين الفلسفة المصرية القديمة، وما بعدها من فلسفات وأديان أرضية وسماوية، منها اليهودية والمسيحية والإسلام، لكن ، بعض المتحمسين لهذه الحركة، يحاولون عزل مصر عن محيطها الخارجى السياسى والجغرافى، وعن حاضرها ومستقبلها، تحت إسم الماضى المجيد، مع أن الماضى والحاضر والمستقبل حلقات متواصلة متلاحمة، يتراكم فيها الوعى والمعرفة، ومنهما تنبع القوة والإبداع لأى شعب أو فرد، لا شك فى أن جرائم داعش (وأمثالهم) شوهت صورة العرب والمسلمين، لكن التاريخ يكشف أن جرائم العرب ليست أبشع من جرائم الأمريكيين والاسرائيليين والأوروبيين، وأن الدماء التى أريقت باسم اليهودية والمسيحية ليست أقل من التى أريقت باسم الإسلام.

ويدور الصراع بين الفلاسفة والمفكرين حسب توجهاتهم السياسية والدينية ومصالحهم الطبقية، إلا أنهم يتفقون فى نظرتهم الذكورية للتاريخ، لهذا تختفى أسماء النساء المفكرات، أو تصبح هامشية تابعة للرجل، كما حدث لإزيس المصرية، التى امتدت فلسفتها من مصر الى اليونان الى ألمانيا، وظلت باقية ومؤثرة فى أوروبا حتى القرن السادس الميلادى، رغم حروب الإبادة التى تمت ضدها.

وعلينا أن ندرس تاريخنا القديم بالعقل والعلم، دون مزايدة أو نقصان، وألا ندفن المصريات الفيلسوفات الأوائل، اللائى وضعن العدل والمساواة والرحمة فوق قداسة الألوهة، مما يضرب الإرهاب، السائد اليوم، تحت اسم الدين.