الفتاة الصغيرة أمام باب المحكمة



نوال السعداوي
2017 / 2 / 15


كانت الفتاة الصغيرة واقفة أمام الباب جلبابها مبقع بالطين والدم تتوسل للحارس أن يدخلها أخبرها أنها لا تحمل التصريح ظلت واقفة حاملة طفلها فوق صدرها،
وانقضى وقت طويل كانت الدنيا بردا والفتاة تبكى وطفلها ينشج تتوسل للحارس وتقول إن طفلها بريء يرد الحارس بصوت غليظ أن باب المحكمة لا يفتح إلا بالتصريح أليس لك أحد يكتبه ويختمه بالنسر؟

ليس لى إلا الله يا سيدى أشار عليها أن تذهب الى باب السماء المفتوح للجميع دون تصريح سألته عن الطريق الى باب السماء زجرها واتهمها بالجهل لعدم معرفتها الطريق، ولأنها صغيرة السن ليس لها ظهر، ولا تعرف القراءة ولا طريق الذهاب والإياب، وتربع الحارس على دكته الخشبية وأكل وشرب ونام ثم استيقظ والفتاة واقفة فوق صدرها طفلها، تتوسل له من جديد اندهش الحارس من إصرارها بدأ ضميره يصحو جاءت تطلب العدل مثل الكثيرات باب المحكمة مثل باب السماء.

لابد أن يكون مفتوحا لها ولجميع الأمهات تأملها بجلبابها المهلهل ووجهها الشاحب وقدميها المشققتين تكاد تشبه المرحومة أمه أعطاها مقعده الواطئ بغير ظهر سمح لها أن تجلس عليه وهو واقف على قدميه بالليل يحركهما الى الأمام والخلف ليجرى فيهما الدم يسلى نفسه بالكلام مع نفسه ويغنى بصوت أمه كما كانت تغنى له وهو طفل، والفتاة جالسة فوق المقعد بغير ظهر وقد أسندت ظهرها الى جدار المحكمة، ونقلت الطفل من فوق صدرها الى فوق ركبتيها، وسألها الحارس عن الأب لم يكن لابنها أب فانتفض وأكد لها بصوت أغلظ أنها لا يمكنها الدخول من باب المحكمة حتى يكون لطفلها اسم رجل، وإن كان قاتلا أو لصا أو خائنا للوطن، ويمكنها الحصول على اسم أب وهمى حسب القانون بشرط أن تدفع الرسوم سألت الفتاة ما هى الرسوم؟.

قال الحارس هى أقل شيء بعد أجر المحامى والمصاريف والدمغة وضريبة الشرف وبقشيش الموظفين والفراشين سألت الفتاة أليس بالمحكمة شرف بغير مصاريف؟ قال الحارس ليس عندنا شيء بغير الفلوس.

كانت الفتاة حين تظلم الدنيا تتستر بالظلمة وترقد وراء الجدار فى حضنها طفلها وفى الصباح تعود للوقوف بالباب، والحراس يتناوبون الليل والنهار تتغير وجوههم لكن زيهم الرسمى هو الزى وصوتهم هو الصوت الغليظ قد يعطيها أحدهم المقعد بدون الظهر، لكنه يشده منها حين يرى جيبها الخاوى وابنها بغير أب حقيقى أو موهوم يزمجر بأصوات مبهمة تستحلفه بحياة أمه التى يحبها دون الخلق أن يدعها تدخل للقاضى يقول لها لا أحد يدخل بدون المحامى وملف القضية بالأوراق والشهادات والوثائق والأحراز والأختام والشهود.

ينشغل عنها الحارس بزحام الداخلين والخارجين يهرش لدغات الذباب والبعوض والبراغيث والفتاة لا تكف عن التوسل والبكاء حتى ضعف بصرها، وما عادت تعرف الليل من النهار ولا النهار من الليل إلا أن الأمل كالنجم فى قلب الأم لا ينطفيء.

كانت ترى نقطة الضوء تبرق فى الظلام من وراء باب المحكمة تصورت أنه مثل باب السماء سينفتح حتما سيفتحه الرب، وينطلق الصوت من وراء الأفق يهتف بها ينادى على ابنها باسمها، وعلى كل الأبناء والبنات بأسماء الأمهات، وينفتح باب الجنة لها ، فتدخل مع ابنها دون تصريح، ويقول لها الرب الجنة تحت قدميك، وتحت أقدام كل الأمهات.

كان الوقت يمضى وهى نائمة وابنها فى حضنها يدفئها بجسده وتدفئه بجسدها، ومهما طال الليل وطال الحلم تصحو من النوم فلا ترى سندس الجنة الأخضر بل جدار المحكمة الأسود الملطخ بدماء الأمهات وبراز الأطفال، وشيء فى صدرها يهمس لا يمكن أن يكون الكون بغير عدل، ويعلم الله أن ابنها له أب معروف، وأنه قال لها أنت حبى والله يشهد ثم بعد أن أنجبت طفلهما قال لها عندى حب جديد إذهبى فأنت طالق.

وكان أنف الابن يشبه أنف أبيه فقالت الفتاة للحارس أنظر اليه أليس هو الأتف ذاته؟ ضحك الحارس حتى غامت عيناه بالدموع يا ابنتى لا تنظر المحكمة الى الأنوف بل الى الأوراق والوثائق والشهادات قالت كان الله شاهدا علينا قال وهو يمسح دموعه شهادة الله لا تدخل ملف القضية لابد من ورقة مكتوبة ومختومة بالنسر.