لماذا و إلى أين حربهم التاريخية على المرأة ؟



محمد بن زكري
2017 / 3 / 8

على مدى القرون و الأجيال المتعاقبة ، منذ بدايات الألفية الثانية قبل الميلاد ، عندما تمرد الرجل على سلطة الأم الكبرى ، فأسقط الربة إنانا / عشتار من على عرش الألوهية ، لينهي بذلك عصر المجتمع الأمومي ، مؤسسا لمملكة الأرباب الذكور و قيام المجتمع البطريركي ، على قاعدة المِلكية الأستحواذية ، و التقسيم الاجتماعي للعمل ؛ ظل الذكور يُسقطون على المرأة كل قصورهم و فشلهم و ضعفهم و شعورهم الذاتي بالهوان . و هم إنما يفعلون ذلك هروبا من مواجهة مشاكلهم الحياتية ، لأنهم كانوا - و لا زالوا - عاجزين عن مواجهتها ، في واقعٍ اجتماعيّ محكوم بسلطة استبداد سياسي و سلطة استبداد ديني ، لم يتركا للرجل من العوام - الرعية - مجالا لحرية الاختيار و القدرة على الفعل ، فانصرف الرجال بالنتيجة ، إلى التخفف من ضغوطات واقعهم ، و تفريغ شحنة مشاعرهم السالبة ، بإسقاطها على المرأة . فقالوا إنها ضعيفة ، و ناقصة عقل و دين ، و هي هشة تتحكم بها الأهواء ، و من ثم فهي غير جديرة بتحمل مسؤوليات إدارة شؤون الدولة و المجتمع ، و هي سريعة النسيان (فكلمة نساء مشتقة من النسيان / طبعا في اللغة العربية !) ، و هي واهنة الإرادة لا تتحكم في نوازعها النفسية و رغباتها الغريزية ، و هي في كل الأحوال مجرد كائن بشري (وظيفي) مؤنث ، خلقها الله ليستمتع بها الرجل و تنجب له الأولاد ، و هي أولا و أخيرا مجرد (مهبل) ، و انتهى بهم الأمر إلى اختزال كل كيانها كإنسان أنثى في غشاء بكارتها ، الذي جعلوا منه رمزا طوطميا لشرفهم ، و رسّموه قيدا دينيا و اجتماعيا و أخلاقيا على إنسانيتها ، بمرجعية ما صاغوه من النصوص المقدسة .
فلماذا كل ذلك التضييق الاجتماعي ، المعزز بترسانة من مواريث الفكر الديني ، استهدافا للمرأة بما هي أنثى ؟ لماذا يحاصرون تعبيرات الجسد الأنثوي بكل تلك القيود المعنوية و المادية ؟ الجواب : إنه الرعب الشديد من المرأة ، و إن ذلك الرعب هو انعكاسٌ لا واعٍ للشعور بالنقص إزاء قوة الطاقة الأنثوية ؛ فالأنثى بتكوينها الطبيعي ، هي إنسان أكثر و أعمق طاقة شبقية من الذكر ، و هي بالمقابل أكثر انتقائية في علاقاتها الإنسانية الحميمة (فالمرأة عموما انتقائية ، بينما الرجل عموما حيوان رمرام) ، الأمر الذي ما كان ليروق للرجل ، بما اكتسبه تاريخيا من حق الاستحواذ . و لأن المرأة بطبيعتها أكثر انتقائية ، فإنها في الواقع أرفع درجة من الرجل على سُلّم السلوكيات الأخلاقية ، في العلاقة بين الجنسين ، و هو ما لا يريد المجتمع الذكوري أن يُقِرّ به ، متحايلا على الطبيعة بقلب الأدوار أسطوريا .
و إنه ما من شك في أن المرأة ، بحكم تكوينها الطبيعي كأنثى ، هي في الواقع أكثر تطلبا من الرجل ؛ لولا التكييف الاجتماعي الصارم ، الذي ينتزعها من ذاتها ، و يجعل منها مِلكية اجتماعية ، و لولا الكبت الجنسي المنهجي ، الذي يفرضونه عليها ، بقوة التحريم الديني (التابو) ، و بقوة الإلزام و التسلط الاجتماعي . غير أن الثقافة الذكورية السائدة ، تقلب الحقائق .. فتزعم عكس ذلك في كل أدبياتها ، حيث إن كل تلك المزاعم التي تقول بأن الدافع الجنسي لدى الذكر ، أقوى منه كثيرا لدى الأنثى ، ليست في حقيقتها سوى نوع من السلوك التعويضي ، الذي يلجأ إليه الرجل الشرقي ، كحيلة دفاعية ، حفاظا على توازنه النفسي ، الذي تهدده الطاقة الحيوية / الأيروسية الكبرى لدى المرأة ، و تعويضا عن شعوره العميق بالنقص ، جرّاء قصوره الجنسي - بحكم تكوينه الطبيعي - و تدني مستوى قدرته المحدودة كذكر ، مقارنة مع تعدد مستويات قوة الأداء في العلاقة الزوجية .. و القدرة المتجددة لدى الأنثى ، بحكم تكوينها الطبيعي .
إنهم يخافون من المرأة على امتيازاتهم الذكورية ، فيقمعون طاقتها الحيوية - كأنثى - بالتابو الديني ، و يصادرون حريتها - كإنسان - بما يفرضونه عليها من تقاليدهم الاجتماعية و شرائعهم التوراتية التلمودية ، و يشيطنون تعبيرات جسدها بمرجعية تراثهم الأسطوري ، و يحاصرون حركتها بعيونهم و ألسنتهم و أجهزتهم الإعلامية و منظومة مؤسساتهم و مناهجهم التعليمية ؛ و ذلك هو محتوى ثقافة المجتمع الذكوري . على أنه لو تُرك الأمر لقانون الطبيعة الأم ، لكانت الأنثى أحق بالتعدد من الذكر ، و من ثم فإن المجتمع الذكوري قد احتاط مبكرا جدا لخطر التهديد الأنثوي ، بمنظومة القيم الدينية المنسوبة للآلهة الذكور ، حيث يقوم رجال الدين بدور حراس معبد الثقافة الذكورية ، باسم المقدس . إنهم يرتعبون من قوة الطاقة الأنثوية ، فيعمدون إلى اعتقالها في سجن المقدس ، بمرجعية أسطورة الغواية الشيطانية و الخطيئة الأولى (التوراتية) ، فكلهم يرتاحون مع حواء ، لكنهم يرتعدون خوفا من ليليت .
غير أنّ ثقافة المجتمع الذكوري ، لا تقتصر على الرجال وحدهم في المجتمعات الشرقية ، بل تمتد فتنسحب بآثارها السالبة على النساء ، حيث تتماهى المرأة مع دونية وضعها الاجتماعي ، المفروض عليها من الخارج ، حتى تغدو - أحيانا - أشد من الرجال تمسكا بقيم الثقافة الذكورية ! و في هذا السياق ، ليس غريبا أن يكون أغلب الرجال ، لا يرتاحون للمرأة التي تمتلك عقلا نشطا ، فالمرأة التي تفكر ، تمثل تهديدا مزدوجا للرجل ، ذلك أنه فضلا عما تمثله من تحدٍ أنثوي لقوته الذكرية ، فإنها تستفزه بقوة حجتها العقلية (دحضا لمقولة المرأة ناقصة عقل) ، مما يضاعف الخوف من المرأة لدى الرجال ، لما تمثله من تهديد وجودي ، يطال امتيازاتهم التاريخية بالزوال . و من ثم فهم يعمدون إلى إرشيف المقدس ، ليرفعوا في وجهها عشرات البطاقات الحمراء ، اقتباسا من نصوص التراث الديني ، التي تبخّس قيمتها و تنتقص من قدراتها العقلية ؛ فإنْ أخفقوا في احتوائها دينيا ، رفعوا عنها صفة الأنوثة ، و نعتوها بالاسترجال ! أو ربما ذهبوا إلى وصمها بـ (العهر) ، ليكشفوا بذلك - دون أن يدروا - عما تختزنه عقولهم من ركام العهر الفكري . أما الغريب حقا ، فهو أن نجد كثيرا من النساء ، اللواتي نلن قسطا كبيرا من التعليم .. بل و يحملن مؤهلات جامعية ، لا يرتحن نفسيا للمرأة التي تتميز بقدر ملحوظ من انفتاح العقل و حرية التفكير و التعبير ، فيمارسن إزاءها نوعا من العزل المعنوي ، إما تقيّة أو تعبيرا لاواعيا عن الخوف من الحرية ؛ فتكلفة الحرية قد تكون باهظة ، لا تقوى على سدادها غير المرأة القوية المتحررة من سلطة التابو ، التي حررت عقلها من الوصاية ، و امتلكت إرادتها المستقلة ، و قررت مغادرة تاريخ الحريم .
على أن حركة التاريخ لا تتوقف ، و هي حركة تقدمية يصنعها الإنسان بنوعيه - ذكورا و إناثا - باتجاه صاعد نحو الأرقى و الأجمل . و سيكون المجتمع قد وصل إلى درجة عالية من الرقي الحضاري و الأخلاقي ، و ستكون المرأة قد غادرت - فعليا و نهائيا - عصر الحريم ، و تخلصت من كل آثار مرجعيته الغيبية الظلامية ، و ستكون العلاقات الاجتماعية قد تطورت إلى درجة عالية من العدالة و المساواة بين الأفراد ، دون تمييز بين عنصري الجنس البشري : الرجل و المرأة ، و ستكون القيم قد ارتقت إلى درجة عالية من الإنسانية ؛ لكن .. عندما تستعيد الأنوثة كامل اعتبارها . إذ أن كل ذلك سيكون - فقط و حصرا - عندما تستعيد الأنوثة في المجتمع مكانتها الإنسانية و قيمتها الطبيعية و قداستها الرمزية ، فتتعزز ثقة المرأة بنفسها ، كإنسان أنثى كامل الأهلية . و تتصالح مع أنوثتها ، فلا تعود الأنوثة عبئا عليها ، و لا تعود تستشعر الحرج أو الخجل من تكوين جسدها و تعابيره الطبيعية ككيان أنثوي . و من ثم تعلو بذاتها الواعية عن قانون الضرورة ، و تتحرر نفسيا و عقليا من الإكراهات ، و لا تجد في تحليق خيالها و لا في حركة جسدها أثرا من سلطة التابو ، فعندها ستكون المرأة قد استعادت قداستها الأنثوية ، في نظر الرجل و في ضميره ، و ستكون حرب المجتمع الذكوري على النساء قد خسرت جولتها الأخيرة ، و ذلك ما تحقق فعلا بدرجات متفاوتة ، ضمن المجتمعات الأكثر تقدما ، في سياق السيرورة التاريخية لتطور الحضارة الإنسانية .