المرأة في حضارة النوبة في السودان الوسيط



تاج السر عثمان
2017 / 3 / 16

المرأة في حضارة النوبة في السودان الوسيط
(500-1500م)
بقلم: تاج السر عثمان
المقصود بحضارة النوبة في السودان الوسيط هي التي شهدت قيام ممالك النوبة "نوباطيا ، المقرة،علوة” التي اصبحت مسيحية فيما بعد، وقد شهدت تلك الممالك حضارة كانت مزدهرة اقتصاديا وثقافيا ، وكانت البنية الاقتصادية مترابطة تقوم علي الزراعة والرعي والصيد والصناعة الحرفية والتجارة.
كما تميزت البنية الطبقية للمجتمع النوبي بالتفاوت ، فقد كان المجتمع يتكون من طبقة الحكام والاداريين وقادة الجيش ورجال الدين والتجار والحرفيين" الحدادين، النجارين،..."، والمزارعين والرقيق.
اما فيما يختص بالبنية الثقافية للمجتمع، فقد تميزت بتطورات مهمة حيث ازدهرت الثقافة النوبية التي تجلت في التحف الأثرية القيمة من التصوير وتصميم الكنائس وصناعة الاواني الفخارية التي تدل علي مستوي رفيع للثقافة النوبية، كما تم التوصل الي تأليف ابجدية من الحروف القبطية واليونانية ، تم استخدامها في كتابة اللغة النوبية التي اصبحت لغة القراءة والتجارة والأدب والعبادة.
معلوم أنه في كل المجتمعات القديمة التي انبثقت أو تطورت من المشاعة البدائية نتيجة لاكتشاف الزراعة والرعي، وبالتالي ظهور الفائض الاقتصادي والملكية الفردية، وما يلازمها منانبثاق أول إنقسام طبقي ونشؤ الدولة والطبقات ،وانفصال العمل اليدوي عن العمل الذهني والريف عن المدينة، ظهرت عدم المساواة بين الرجال والنساء نتيجة لانفصال المرأة عن الإنتاج وتحكم الرجال في الإنتاج الفائض في الزراعة وبدأ عمل المرأة يتقلص تدريجياً إلي الأعمال المنزلية.
ولتوضيح ذلك أكثر نشير إلي أنه عند الشعوب الأكثر بدائية ( أو المشاعة البدائية) كان للمرأة دور في التقسيم الاجتماعي للعمل مساوي لدور الرجال، فحياة الشعوب البدائية كانت تعتمد علي الصيد وجني الثمار قبل اكتشاف الرعي والزراعة، فكان التقسيم الاجتماعي للعمل علي النحو التالي: الرجال ينصرفون إلي الصيد والقنص بينما يلتقط النساء الثمار والحيوانات الصغيرة غير المؤذية، وعند المجتمعات البدائية الأكثر تطوراً كان النساء يعملن بالقرب من المسكن في رعاية النار، الغزل والنسيج، صنع القدور ، أو صناعة الفخار، بينما كان الرجال يعملون في الصيد، وصنع أدوات العمل من الحجر والعاج والقرون والعظام، من هذه الصورة نرى أن المرأة لها دور لا يقل عن دور الرجال في التقسيم الاجتماعي للعمل، بعد اكتشاف الزراعة والرعي ظهر ما يسمى بالفائض الاقتصادي أو النتاج الإجمالي للفائض، وهذا بدوره أدى إلي تقسيم أرقي للعمل، فتم انفصال الصناعة الحرفية عن الزراعة وانفصال المدينة عن الريف، وانقسام المجتمع إلي طبقات ، وتقلص دور النساء ليختصر في الأعمال المنزلية والناتج الاجتماعي الفائض أدي إلي:-
1 السماح بتكوين احتياطي من الأغذية لتجنب عودة المجاعة علي نحو دوري أو التخفيف من شرها.
2 إتاحة المجال أمام نمو أسرع للسكان ، قبل ذلك نتيجة لنقص الطعام كان يتم تحديد النسل أو قتل الأطفال أو قتل أسرى الحرب، بالتالي شكل ذلك مؤشراً للنمو الاقتصادي والاجتماعي وأدى إلي تطور القوى المنتجة، وأصبح أسرى الحرب يعملون كرقيق في مزارع الأسياد أو رعي ماشيتهم أو في الأعمال المنزلية وغير ذلك وبالتالي ظهر نظام الرق.
إذن، يمكن القول، أن اكتشاف الزراعة وتربية الحيوانات أدي إلي أول تقسيم اجتماعي للعمل، وظهرت الشعوب الزراعية والشعوب الرعوية ”ماندل: النظرية الاقتصادية الماركسية”.
تشهد تجارب الشعوب التي في مرحلة المشاعة البدائية أن المرأة التي كانت تنقطع إلي التقاط الثمار وتبقي في أغلب الأحيان بالقرب من المسكن هي أول من بدأ بزرع بذور الثمار الملتقطة تسهيلاً لتموين القبيلة، وفي بعض القبائل “ مثل قبيلة وينباغو الهندية “ كانت النساء مرغمات علي إخفاء الأرز والذرة المخصصين للزراعة وإلا أكلها الرجال.
وفي المشاعية البدائية كان هناك نظام الأمومة “ الانتساب إلي جهة الأم) الذي كان له الارتباط بالدور الذي لعبته النساء في اكتشاف الزراعة هذا إضافة لدور النساء في اكتشاف التجارة أو تبادل المنتجات” المصدر السابق” ،أي أن المرأة هي أول من اكتشفت الزراعة والتجارة .
إذن يمكن القول أنه في المجتمعات المشاعية البدائية واكتشاف الزراعة والرعي تقلص دور المرأة في الحياة الاقتصادية وأصبح الرجل هو المهيمن فيها “ تملك الرجال للفائض من الزراعة والرعي “ وانقسام المجتمع إلي طبقات وبالتالي تراجع دور المرأة إلى الأعمال المنزلية التي كانت تشمل إعداد الطعام وتربية الأطفال ومساعدة الرجال في الأعمال الزراعية، وصناعة النسيج والفخار وهلمجرا…
مجتمع النوبة كمجتمع زراعي رعوي تطور من مجتمعات بدائية منذ حضارة المجموعة أ) قبل 3.000 ق.م، وقبل ذلك كانت عصور ما قبل التاريخ التي كان النشاط الاقتصادي الأساسي فيها يقوم علي الصيد والتقاط الثمار. بعد اكتشاف الزراعة منذ حضارتي المجموعة أ ، ج، ومع تطور هذه العملية نسمع عن قيام أول مملكة سودانية سنة 2000 ق. م هي مملكة كرمة التي عرفت ظهور المدن والقوى والطبقات الحاكمة والجيش والتجارة، ومع تطور المجتمع الزراعي الرعوي ظهرت ممالك أخرى مثل نبتة ومروي والنوبة المسيحية، واستمرت بقايا نظام الأمومة في تلك الممالك.
النشاط الاقتصادي للمرأة النوبية:
رغم الدور المهيمن للرجل في عملية الإنتاج في المجتمع الزراعي الرعوي في بلاد النوبة إلا أنه كان للمرأة النوبية أيضاً دور في الحياة الاقتصادية نذكر منه ما يلي:
- الأعمال المنزلية من طحن للذرة ( بالمرحاكة ، والهون ، والفندك) وصناعة الخبز وصناعة الخمور وصناعة النسيج وصناعة الأدوات الفخارية “ قواديس السواقي ، أفران الطين”.
- تربية الدواجن “ دجاج ، حمام” والأغنام.
- هذا إضافة للمساعدة في بعض الأعمال الزراعية، أما الرجال في مجتمع الساقية فكانوا يقومون بصناعة الأدوات الزراعية مثل :الأربل والواسوق والطورية والمنجل وصناعة الحبال وصناعة السواقي وصيانة أجزاءها، وصناعة المراكب والعناقريب والأسراج من خشب السنط والسيال والحراز، هذا إضافة إلي حفر الآبار “ الكفرية”، وغير ذلك من أعمال البناء وأعمال الحدادة والنجارة ومتابعة العمليات الزراعية المختلفة البذر، النظافة، إستخدام السماد ، حتى الحصاد، إضافة إلي الأعمال التجارية والصيد والعمل في الخارج لتجهيز البيت ولزوم الزواج.
- بهذا الشكل يمكن تصور التقسيم الاجتماعي للعمل بين الرجال والنساء في مجتمع النوبة.. ونلاحظ دور المرأة الكبير في النشاط الاقتصادي.
عادات وتقاليد المرأة النوبية:
كان من عادات المرأة النوبية في كثير من المناطق النيلية أنها إذا كانت والدة لا تخرج من البيت قبل أن تتم أربعين يوماً، وفي عشية اليوم الأربعين يبدأ الاحتفال بالمولود وتحمله أمه إلي نهر النيل لتقوم بغسله هناك وفقاً للطقوس المطلوبة.
ويعتقد الأهالي أن عقوبات وشروراً ستنزل بالمرأة التي تهمل هذه الطقوس وترافق الوالدة إلي النيل نساء أخر يحملن أغصان النخيل، ويغنين بعض الأغاني الشعبية المحلية وغسل الوالدة وجهها ويديها ورجليها وتقوم بغسل وجه الولية بينما تطلق رفيقاتها الزغاريد ولا زالت هذه العادة مستمرة حتى اليوم.ويرى د. ج. فانتبني أنها من آثار المسيحية في ممالك النوبة القديمة صحيح أنها ربما تكون كذلك عادة أقدم من المسيحية اتخذت شكلاً جديداً في النوبة المسيحية لارتباط النيل بالحياة. والخير والخصب كما يسبب الدمار والخراب في حالة الفيضان أو الانحسار وبالتالي لابد من تقديم الضحايا والقرابين له. ومع التطور اتخذت العادات تجاه النيل أشكالاً مختلفة.
وهناك عادة أخرى من آثار المسيحية أشار لها د. ج: فانتبني وهي في بعض القرى ما بين وادي حلفا ودار سكوت ودار المحس حتى ضواحي دنقلا احتفال ويسمى هذا الاحتفال “ مارية “ بعد الولادة يومين أو ثلاثة، تحمل النساء المولود إلي النيل ليغسلن وجهه ويديه ورجليه وتقود الموكب القابلة “الداية” حاملة الوليد، وتحمل امرأة أخرى طبقاً مصنوعاً من الأعشاب وفيه أدوات الولادة والنفايات المجموعة بعد كنس البيت ويضاف إليها قرص من الخبز ويرمى الطبق بمحتوياته في النهر وتأخذ النساء قليلاً من الماء إلي البيت ويحفظنها بعناية بضعة أيام ثم يرمينها وتذبح بهذه المناسبة ضحية يحرص الأهالي علي ألا يكسر منها عظم ويوضع علي حائط البيت رسم يد تحمل دم الضحية.
وهناك عادة أخرى في المنطقة المعروفة ببطن الحجر ربما تعزي إلي النوبة المسيحية إذا كانت الولادة صعبة ترفع النساء أصواتهن بالدعاء المتكرر ويذكرن مراراً باللغة النوبية اسم مارية “مريم”.
ويورد نعوم شقير خبراً ربما كان له علاقة بهجرة النوبة من شمال السودان إلي جبال النوبة بعد دخول الإسلام واندثار المسيحية، يقول شقير " إن بعض العوائد الوثنية تمتزج بالمسيحية في بعض الجهات جبال الغرب (جبال النوبا) إذ يروى أن تاجراً من الأقباط الذي كانوا يترددون إلي جبال النوبة قال:
" إن أهل تلك الجبال إذا ولد لهم وكان عمره أربعين يوماً أخذته أمه إلي الكجور وهو رئيس ديانتهم وسأله أن يخرج منه الأرواح النجسة فيغطسه بالماء ويدفعه إلي أمه وقال ذلك من التقاليد المحفوظة عن النصرانية والله أعلم.”شقير : تاريخ السودان”.
من عادات النوبة في الأعراس استخدام الجرتق والعلجة والبرش والسوميت والسباتة. يقول د. يوسف فضل " ولعل خير ما يحكي عن تلاقح العادات المختلفة ما يسجله حفل عرس سوداني" فالعقد والحنة والضريرة والبطان مثلاً تدل علي التيار التبداوي " البجاوي" وتدل الدلوكة والطبل علي أصل إفريقي.. .من العادات أيضاً التي عرفت في بلاد النوبة التي كانت تشمل المرأة والرجل منذ العهد المروي هي الشلوخ ، كما أشار د.يوسف فضل، حيث اكتشف علماء الآثار بعض التماثيل والنقوش والأشخاص مشلخين ترجع إلي ذلك العصر، وتمثل تلك الشلوخ أنماطاً مختلفة فبعضها علي هيئة خطوط أفقية مستقيمة وأخرى مائلة وبعضها هلالية الشكل وقد استمرت هذه العادة منذ التاريخ حتى شملت معظم أجزاء السودان الشمالي، تحدث القسيس سيمون سموليس الذي زار البلاد المقدسة بين (1322م – 1324) عن مصر وبلاد النوبة وقال عن النوبيين أنهم يتميزون عن الهنود بالخطوط الطويلة التي يضعونها علي وجوههم حتى أصبحت سمة تدل عليهم وتعمل هذه الشلوخ أو العلامات بمرواد محماة بالنار ويعتقد النوبة أنهم بكي وجوههم إنما ( يعمدون أنفسهم) يأملون أن تخلص نيران الكي والأمة أرواحهم من الآثام التي لحقت بهم وتطهرها من الذنوب.”يوسف فضل الشلوخ 1976 “
وأخذ العرب بعد دخولهم السودان الشلوخ عن النوبة، وأن تغيرت أشكالها ووظائفها بعد ذلك ومن عادات المرأة النوبية أيضاً كانت عادة المشاط أو طريقة تصفيف الشعر أو التي كانت سائدة في بلاد النوبة منذ عهود سحيقة .
مراجع:-
تاج السر عثمان : تاريخ النوبة الاقتصادي – الاجتماعي، دار عزة 2003م.
د. الاب جون فانتيني : تاريخ المسيحية في ممالك النوبة القديمة والسودان الحديث، الخرطوم 1978م.