نعم أنثوية بعد ثلاثة عقود



نزار جاف
2006 / 1 / 20

تسنى لي و لمجموعة من الشبان و الشابات أن نحظو بالتمتع بالدراسة المختلطة قبل أن نبلغ عتبة الدراسة الجامعية، ذلک الامر حدث بلطف من القدر حين وجد سبع من الطلاب و ثمان من الطالبات المتخرجين من الدراسة المتوسطة"الدراسة العربية" و الراغبين بإتمام دراستهم في الفرع الادبي من الدراسة الاعدادية في مدينة السليمانية عام1975، أنفسهم أمام صف مختلط في إعدادية"هلکوت"التي کانت الدراسة السائدة فيها باللغة الکوردية، غير أن مجموعة"الخمسة عشر"خصصوا لهم شعبة خاصة بالدراسة العربية! کانت في تلک الايام تجربة مثيرة و فريدة من نوعها، حتى أن معاون مدير المدرسة الاعدادية تلک، قد صرح مرارا أمامنا، أننا نذوق "حلاوة الدهر"قبل أوانه! يومها، کانت الافکار اليسارية تعصف برأسي و کنت أرتل"ولست أقرأ"قوانين المادية التأريخية مثلما کنت أذکر بکل إجلال مراحل الحياة البشرية على الکوکب الارضي وفق ماترتأيه"المادية التأريخية". يومها، کنت مندفعا و إقتحاميا، کنت أتصور أن العالم سوف يکون عاقبة أمره کتفاحة نيوتن حين لا يجد بدا من التدحرج في سلة المارکسية ـ اللينينية! وقد کنت معتقدا"ولازلت لحد الان و الى نهاية عمري"مؤمنا بحقوق المرأة کاملة بدون رتوش، ولذلک فقد کنت جذلا وفي أقصى حالات الإنشراح النفسي و أنا أخوض تجربة الدراسة المختلطة مع البعد الانثوي للإنسان! في مثل تلک المرحلة من مراحل الحياة و التي تضج بالحيوية و الفوران، کنت أتصور أن تحمسي للدفاع عن المرأة و حقوقها المغتصبة، سوف يجعلني قديسا أمام أعين الطالبات، لکن الذي حدث هو أن معظم الطالبات لم يکتفين برفض آرائي "المتحررة"، بل وکن يجدن المعاذير و السبل اللازمة لتفنيدها الواحدة تلو الاخرى! وقتها، کنت أدرک سبب تلک المواقف الرافضة لآرائي، حيث کنت متيقنا بأنهن في أعماقهن يؤمن بها، لکنهن لا يجدن مناصا من التظاهر برفضها. ولا أسميها أزداوجية الموقف بالنسبة للأنثى، بقدر ما أسميه إزدواجية المعايير للمجتمع ذاته. غير أن ذلک لم يمنع من بناء أواصر علاقة وطيدة بيني و بين "مجموعة الثمانية"، إذ صرت مع مرور الايام أقرب الطلاب قربا من الطالبات، والحق إن التقارب و التواصل الانسانيين المستمر کفيلان بمد الکثير من جسور التفاهم و إستيعاب الاخر مهما کانت الجدران العازلة بين الطرفين عالية. أتذکر جيدا، أنني کنت أحاول دوما أن أکون طبيعيا و في منتهى الشفافية مع الطالبات، وکنت أتصرف دوما وکأنني أمام نظير لي"وليس غريم أو من هو دون ذلک". ومع إنني کنت ألاحظ شغفهن بإسلوبي في فتح و إثارة المواضيع، غير إنهن کن دوما يتظاهرن بعدم إکتراثهن بفحوى تلک الاراء"الجريئة"، ويبدين نوعا من"الإضطرار" للإستماع الى الموضوع. في تلک المرحلة من عمر الزمن، کانت کتب الدکتورة نوال السعداوي تصول و تجول بين المکتبات المختلفة، وشاءت الاقدار أن تکون في معية إحداهن کتاب"الانثى هي الاصل"، ولا أدري هل کان الامر مجرد صدفة أم إنها کانت متقصدة في جلب ذلک الکتاب تحديدا الى المدرسة معها، ومهما يکن، فقد کان سببا و دافعا قويا لي کي أميط اللثام عن العديد من المواضيع التي کانت تحمل طابع الخصوصية القصوى و کانت مختومة بشمع "العيب الاجتماعي"المحمر کأحمر شفاه فتيات آخر الليل. وحين سألت زميلتي تلک کبداية برأيها حول رأي الدکتورة السعداوي بکون الانثى هي الاصل وليس الذکر، رأيت و کإنني فاجئتها بالامر حين قالت و الاستغراب يعلو سحنات وجهها: وهل إن الدکتورة نوال السعداوي لا تدري إن الله قد خلق أمنا حواء من إحدى أضلاع أبينا ادم؟! والمصيبة إن زميلة أخرى أردفت بعدها بسرعة: أنا لا أصدق إن الدکتورة نوال السعداوي موجودة أساسا، بل هو مجرد رجل متخفي تحت إسم إمرأة ليخدع النساء بهکذا ترهات!! وعندما شرحت رأي الدکتورة نوال السعداوي، لم أجد زميلتي إلا وقد ألقت بالکتاب في سلة المهملات! وعلى الرغم من إنفعالي و تأثري الشديد برد الفعل السلبي غير السليم و الواقعي لنظيرة جنس للدکتورة السعداوي، إلا أنني وجدت من الافضل الصبر و التريث فترة أخرى ريثما تحين الفرصة کي أشرح لها أن الواقع الاجتماعي ـ الفکري هو الذي أجبرها على رمي الکتاب بتلک الصورة الانفعالية وليست هي! ومضت الايام وکلما حاولت فتح الموضوع کان يحدث أمر طارئ يجبرني على إرجائه لإشعار آخر، وهکذا حتى أنهينا ذلک العام الدراسي وکان الاخير في المرحلة الاعدادية، وبعدها لم ألتق بها ولم أعرف عنها شيئا، حتى جاءت فترة الانتخابات الاخيرة حين ذهبت الى مدينة "کولن"للإدلاء بصوتي، وکانت المفاجأة هناک، حيث إلتقيتها بعد کل هذه السنين الطويلة. والطريف في الامر إنها بنفسها تعرفت علي، وماأن عرفتني بزوجها، حتى إغتنمت الفرصة و دعوتهما لإحتساء القهوة في إحدى الکافيتريات. وحين جلسنا فاجئت زميلة دراستي الاعدادية بموضوع کنت في صدد طرحه أمامها منذ30 سنة تقريبا! ووجدت زوجها يصغي بکل إهتمام الى کلامي الذي کان محوره الاساسي هو أن الکثير من الفتيات الشرقيات و بحکم قساوة واقعهن و ظروفهن الصعبة، لا يجدن مناصا من التناغم مع الأبجديات الصماء لنظرة و تعامل المجتمع معهن. إنهن يفرطن بکل شئ حتى وإن کان مشروعا في سبيل إرضاء ذلک الغول الداکن الذي يسمونه العرف! زميلتي هذه، إعترفت لي بعد کل هذه الاعوام، إنها کانت ترفض الکثير من القيم و المعايير السائدة حتى على صعيد أسرتها، لکنها وخوفا من الاصطدام و العواقب المتخلفة عن ذلک، کانت تلزم جانب السکون و تکبت حقيقة مواقفها.