بنات أرض المنصورة



مصطفى مجدي الجمال
2017 / 8 / 20


لا يمكن لمجتمع أن يتحرر بينما قسم هائل من أعضائه، يبلغ نصف عديده، يرزح- إلى جانب القهر العام- تحت قهر النصف الآخر، أي قهر القرون الوسطى الذي يمارسه الذكور على الإناث في كل الطبقات. كان هذا من المسلمات المستقرة في ذهننا نحن الطلاب اليساريين بجامعة المنصورة أوائل السبعينيات.. ولكن كانت هناك قضايا ملحة وحارقة.. فالأرض محتلة، والسادات يقضم مكاسب ومبادئ يوليو بخبث، والحريات مازالت على حالها المزرية، والجماعات الإسلامية المدعومة من أجهزة الدولة تزحف وتحاول تغيير قواعد اللعبة السياسية كلها..

فكيف يمكن أن تثار قضية المرأة في جامعة معظم طلابها ريفيون، وحتى طالباتها يتخوفن من الانخراط في النشاط الطلابي العام بسبب غلبة الطابع السياسي عليه وقتذاك، ولهذا ثمنه، وبسبب مد الجماعات الدينية التي لا تتورع عن الخوض في سمعة الطالبات المشتغلات في العمل العام.

مع ذلك استطاع النادي الوطني الديمقراطي الذي أنشأه الطلاب اليساريون عام 1975 اجتذاب العديد من الطالبات المثقفات والمشحونات بالحس الوطني والأفكار التقدمية مثل هدى توفيق وإيمان جوهر وسلوى عبد الهادي وعايدة سلامة ومنى الزيني ورندة مرسي.. وتلامس معهن جيل ثانٍ من الطالبات التقدميات مثل وفاء السقعان وهالة مرسي وكريمة أبو الفتوح (وأرجو ملاحظة أن الحيز والذاكرة لا يسمحان لي بذكر كل الأسماء).. واتسم جميع هؤلاء بالنشاط السياسي أساسًا، وبالقرب من حزب التجمع بشكل خاص.. كما أنهن انجذبن للعمل السياسي الوطني بالدرجة الأولى، ثم كانت اهتماماتهن بقضية المرأة من نتائج ذلك النشاط..

لكن إلى جوار هؤلاء لفت نظرنا بقوة طالبة في كلية الهندسة تتحدث بجرأة وشراسة في قضية المرأة في وجه موجة عاتية من هجوم الجماعة الإسلامية عليها.. وللأسف كانت الكلية من أهم معاقل الجماعة إلى جانب كلية الطب.. ربما كرد فعل تعمدته الأجهزة الأمنية وقتذاك للهجوم على التيار اليساري فيهما بالذات.. وخاضت هالة إسماعيل عثمان (وهذا اسمها) معاركها بشجاعة، وبدا لنا تأثرها الشديد بكتابات نوال السعداوي.. وتحلقت حولها ومعها بعد ذلك مجموعة من الطالبات الجسورات مثل ثريا عبد الراضي وإيمان مرسال وحنان حماد وسنية وماجدة البهات ومنار الواعي وجيهان أبو زيد وفاطمة رمضان وحنان فتحي وعزة سرايا...وغيرهن..

حينما تركت هذه المجموعة مقاعد الدراسة.. كان لا مفر أمامهن من استكمال الدفاع عن القضايا التي يؤمنّ بها، إلى جانب نزعتهن الأصيلة في خدمة المجتمع.. ولكن كان المجال العام مغلقًا بالضبة والمفتاح كما يقولون.. وحتى محاولة افتتاح فصول لمحو الأمية كانت تصطدم بمضايقات أمن الدولة.. غير أن المهم أن هذه الجماعة من الخريجات والطالبات النشيطات ظلت شديدة الارتباط فيما بينهن.. ولا شك أن هناك نواة داخل الجماعة كانت شديدة الجذب لهن، إلى جانب إيمانهن العميق بقضية المرأة وصدق الرغبة في خدمة المجتمع..

لم يكن أمامهن في هذا الظرف المعقد سوى التوجه إلى الأحزاب.. وبالطبع كانت هناك استحالة مبدئية لديهن في العمل من خلال مقري الحزب الوطني وحزب الوفد اللذين كان نشاطهما النسائي مقصورًا على "هوانم" الجمعيات الأهلية التقليدية، بالإضافة إلى الاختلاف السياسي وربما النسوي أيضًا معهن.. أما حزب العمل فقد كان الاتجاه الإسلامي زاحفًا عليه بقوة.. ومن ثم لم يكن هناك سوى حزب التجمع..

في هذه الفترة كان الزميل المحامي أحمد طاهر قد أنشأ لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان بالدقهلية.. ولعب كاتب هذه السطور دورًا في أن يحتضنها حزب التجمع حيث كان على رأسه في المنصورة مناضلون كبار واسعو الأفق من نوعية عبد الغفار شكر ورأفت سيف ومحمد الضهيري ورشدي عبد الباري ورفعت عبد اللطيف.. وسرعان ما اتسع نشاط اللجنة وانضم إليها كثيرون مثل محمد رفعت وعوض الشبة وأيمن نور..

لا أذكر بالضبط هل كانت المبادرة منهن أم منا.. لكن هذه المجموعة النسائية الرائعة انضمت للجنتنا لتنشط في مجال حقوق المرأة.. وكم كنت مندهشًا بشكل شخصي من التطور الذي نلاحظه على هذه المجموعة بين اجتماع وآخر.. وكان من الطبيعي أن تثور خلافات حول المنهج السليم في التعامل مع قضية المرأة.. وبخاصة هل يُعتبر التناقض مع الرجل هو الأساس أم التناقض الطبقي.. وكان من الملاحظ الاقتراب المتزايد من جانبهن نحو ربط تحرر المرأة بتحرير الوطن والمواطن وإعلاء قيم الاستنارة والعدالة الاجتماعية.. أضف إلى ذلك أن التيارات السياسية المختلفة حاول كل من جانبه أن يستقطب هذه الجماعة زائدة النشاط، وكان لهذا متاعبه بالطبع..

وأصدرت الجماعة مجلة خاصة بها بعنوان "بنت الأرض".. فيها من الهموم الاجتماعية والثقافية والأدبية ما يوحي بالزخم الكبير الذي تختزنه هذه الجماعة النشطة.. وهو ما جعل الفنان الكبير عبد العزيز جمال الدين يشرف بنفسه على إخراجها الفني..

لكن فيما يبدو أن الركود الذي عرفته البلاد في التسعينيات حتى منتصف العقد الأول من القرن الجديد قد أصاب الجماعة بما أصاب غيرها.. وإن استمرت الصلات الشخصية فيما بينهن والأنشطة ذات الطابع الفردي..

غير أن اندلاع انتفاضة يناير 2011 كان بمثابة الجذوة التي أعادت الصلات بين المناضلات العتيدات إلى جانب الكثيرات اللاتي أفرزتهن الانتفاضة وكنّ بمثابة المفاجأة المفرحة لبنات الأرض الأقدم.. فاستعدن النشاط، وخُضن نضالاً قانونيًا حتى استطعن الظفر بقانونية إنشاء جمعية بنت الأرض عام 2012. ومن يومها لا ينقطع نشاط هذه الجمعية التي لخصت رؤيتها في بناء مجتمع ديموقراطي خالٍ من كافة أشكال التمييز والعنف ضد النساء، وتمكين النساء من المشاركة كطرف أساسي في هذه المواجهة. إلى جانب نبذ الرؤية النخبوية، وذلك بالعمل مع النساء وليس نيابة عنهن، والنظر الى قضايا المرأة في علاقتها مع قضايا المجتمع وتحفيز مشاركة الرجال في مواجهة كافة أشكال التمييز ضد النساء.

تعددت أنشطة الجمعية من تثقيف وخدمة مجتمع ومشروعات كثيرة، إلى جانب المشاركة في القضايا العامة، التي تخص المرأة والتي تهم المجتمع ككل..

في الختام قد يرى بعض القراء أن لا جديد في جمية بنت الأرض أو أنني أتحمس لمن هن من أبناء محافظتي.. لكنني أرد على هذا بأنه لا بد من الاحتفاء بمناضلات منذ السبعينيات لم يتمكن القمع أو الملل أو هموم الحياة الخاصة منهن.. وأنهن يعملن في مدينة خارج العاصمة بكل ما تعنيه الكلمة من إيحاءات اجتماعية وثقافية.. لكن الأهم هو موقفهن الكريم من التمويل، حيث يرفضن التمويل الأجنبي بالمطلق ويعتمدن على الجهود الذاتية والتطوعية والتبرعات فقط.. ومن ثم لا قلق عليهن من استقطاب لقضايا هامشية ترضي الممول الأجنبي، أو الانخراط في أنشطة شكلية ترضي المسئولين، أو السعي لتبوء مقاعد في خلفية السلطة..

إنهن بالفعل مناضلات "عضويات"..