غسل أبي ما تبقى من تاريخنا



ماجدولين الرفاعي
2006 / 2 / 18

أي ممحاة سحرية يمكنها أن تمحو تاريخا من الم وذكرى تئن وتنزف؟!
أي ممحاة يمكنها أن تمحو من ذاكرتي مشاهد تقطر دما وحسرة وأنا الشاب الذي فتح النجاح أبوابه على مصراعيه لكي ادخله؟! نعم نجحت في دراستي ليس لأني متفوق وأحب الدراسة ، إنما حاولت خلال سنوات وسنوات الغوص في الكتب العلمية لكي أنسى وربما أتناسى تاريخ ما زال يحفر أخاديد موجعة في جبين طفولتي تركها غياب والدتي بطريقة مؤلمة ، غاب أبي فترة ليست طويلة لكن غيابه المفجع ووجوده المؤلم عوامل أضافت الكثير من الحزن والهم على حياتي .. أخي الصغير الذي لم يفهم في حينها ما الذي حصل كبر أمامي دون أم تمنى وجودها مثل جميع أقرانه ، كان كل واحد منهم يحدثه عن والدته وحنانها واهتمامها به فيتألم : لم نشأت دون أم ؟ ولماذا اختار الله والدتي من بين جميع الأمهات ليأخذها إليه. الاحتفال بيوم ألام من أصعب الأيام التي كنا نواجهها فقد كنا نشكو غيابها ونبكيه يشتمنا أبي لعواطفنا التي أطلق عليها عواطف أنثوية ويؤكد لنا أننا رجال ومن العيب أن نسكب دموعنا على أم كأمي حسب كلامه ما زال يشتمها من خمسة عشرة عاما فالهج بالدعاء : رب ارحم والدتي إن كانت مذنبة وسامح مجتمعا ظالما لا يرحم ، منذ وفاة والدتي رحمها الله اعتاد الجميع في الحي والمدرسة على أن يطلقوا علينا لقب أولاد المرأة التي ذبحها زوجها .. كم كان يؤلمني هذا الكلام .. اشعر معه بالخزي والعار وأتساءل : أي شرف غسله والدي حين قتل أمي ؟ هل كرمه المجتمع؟؟؟ أو كرمنا ؟وهل شعر والدي حقا بنظافته من دم والدتي ؟؟ أسئلة كثيرة لا أجد طريقة لطردها من رأسي ، لم أكن قد تجاوزت الثامنة من عمري حين استيقظت على صوت الصراخ وطلقات أصمّت أذني لأجد والدي في حالة انهيار تام يهذي بالشتائم وقد علت ووجهه تعابير لم استطع تفسيرها حتى اللحظة ، كانت والدتي مكورة مثل الكرة على نفسها والدم ينزف منها بغزارة مشهد لن أنساه ما حييت ، قبل ساعة واحدة فقط كانت تسرد لي ولأخوتي قصة ما قبل النوم ، قبلتنا بحنان وغادرت غرفتي .. كم أحبك يا أمي .. رعب شديد انتابني وأخوتي وكره عميق صوبته باتجاه والدي رمزان مقدسان سقطا أمام عيني فجأة أبي بمسدسه الذي مازال بيده وأمي بدمائها وتكور جسدها المضرج بالعار والدم وأخوتي الذين تجمعوا في زاوية الغرفة عيونهم تختزل رعب العالم وخوفه صرخنا معا بصوت عال حين اقترب والدي منا يريد إخراجنا .. خوف جمد الدم في عروقنا .. كيف سنخرج يدا بيد مع قاتل قتل أمنا للتو أمام أعيننا .. توقف المشهد حين طلب أبي من أحد أقاربنا ، الذين جاءوا على عجل ، أن يخرجنا ويصحبني وأخوتي إلى بيته تاركين أمي تئن وتنزف وليتني لم أغادر لعلني أنقذها أو على الأقل اقبلها قبل رحيلها لكن قريبنا أصر على خروجنا . في بيت قريبنا سمعت ما قالوه عن خيانة والدتي ولكني لم أصدق ولن أصدق وإن صدقت بأي حق تقتل؟؟؟ولماذا على يد والدي الذي طالما بكت أمي غيابه المتكرر عن المنزل وعودته في حالة سكر من الملاهي ونوادي السهر الليلية ، مرات عدة استيقظت فيها على صوت أبي وبكاء أمي وهي تتهمه بخيانته لها مع بنات الليل ، كان أبي يرد بصوت عال وكأنه محق فيما يفعل ، ويردد أنا رجل حر في تصرفاتي .. الزمي أدبك معي وإلا طردتك مثل الكلبة من البيت ، طفولتي لم تساعدني على التدخل ، لم يكن أمامي إلا البكاء والدعاء إلى الله بأن يهدي والدي إلى ما فيه خيرنا ، بعذر مخفف خرج أبي من السجن بعد ثلاث سنوات ، أتى إلى بيت جدي لاصطحابنا ، كبر داخلي سؤال هل روح الإنسان رخيصة إلى تلك الدرجة؟؟؟ يقتل أبي ويخرج دون عقاب يستحقه ، أعلم أنكم تستغربون طريقة كلامي عن والدي ، لكنني لا أخفيكم سرا .. إنني اكرهه فهو سبب شقائنا وتعاستنا ، لهذا أحاول تجنب النظر في عينه وأتجنب جلوسي قربه ، أدمنت على زيارة قبر أمي ، لا يمر أسبوع واحد دون أن أضع باقة ورد على قبرها ، وجدت أن دراسة القانون هي السبيل الوحيد للدفاع عن أمي وعن جميع نساء الكون ضد العنف والقتل بداعي الشرف ذلك الشرف الذي ادعى أبي أنه غسله.