هواجس أنثوية



بشرى ناصر
2006 / 2 / 18

تركت لي (مشطها الخشبي) كشاهد علي عصر؛ لا علي حياة قصيرة تبخرت في البحث عن (فردوسها المفقود)؛ وأي فردوس للمرأة أعظم من (بيت مرفّه) تكون سيدته وملكته؛ ولتقضي ولم تتجاوز الخمسين الا بسنوات قلائل؛ تلك المرأة التي هادنت واستكانت في كل لحظة من حياتها ؛ كانت مؤامرة الوقت والزمن وحدها شغلها الشاغل؛ وكنت أحير كيف تحل المعادلة بتلك السهولة؛ تؤمن بتحول الزمن وتقدم الساعة (عشر دقائق) عامدة ؛ ولا تقبل بأهمية وضرورات تغير اللحظة التاريخية؟

وجدتي ... نمط مختلف من النساء اختارت عامدة الاستسلام (للكاز والكبريت) لتشعل نيران الرفض كلها في جسدها البض الممتلئ بعد ما اكتشفت أنها بلا دور؛ (الرفض) و(الاستسلام) : صيغتان مختلفتان لامرأتين زرعتا بداخلي كل الحيرة والسخط والجنون والتمرد ؛ لم أكن قد عرفت بعد أن (الجغرافية) تصنع التاريخ .. كنت أتعجب من(أحواش) الجيران المفروشة (بالصبّان) فقد امتد البحر لداخل البيوت بأشياءه كما امتد ليصنع ثقافتنا وتراثنا وأشيائنا الأخري؛ ولم أكن أري والدتي الا وذراعاها مغموستان بالصابون أو تقف علي الغسالة تدير اسطوانتها لتعصر ثيابنا؛ ما كانت أمي (غير أم) ولم استطع رؤيتها طيلة حياتي الا كذلك؛ ربما تفر صورة (الأنثي) من أمهاتنا حتي تكتمل القداسة؛ فنحن نعتقد أننا سيطرنا علي الموضوع بتصورنا له تصورا معيناً ... في السادسة من عمري اكتشفت أنني (بنت خطيئة التفاح) أو أنني إحدي (الحواءات) و أنني أنتمي للإناث؛ حتي في الألف المقصورة في إسمي؛ وفي السادسة من عمري (باض) الشيطان بيضته في رأسي ؛ حين استولي جارنا علي جسد زوجته بالضرب (بسلك الكهرباء) هرعت نساء الحي وأمي لإنقاذ المرأة من براثن زوجها الذي تدفق الزبد من فمه وتطاير السباب؛ كنت أتفرج من بعيد مذعورة؛ شيئاً ما لم أر مثله في حياتي؛ أظن من وقتها قد زحفت الأشواك لروحي؛ فقد تملك المشهد عليّ حتي اللحظة؛ ورغم انكسار قلب أمي علي المرأة وحرقتها الا أنها دمدمت : (تستاهل ... فاجرة) فأصبح الفجور في عقلي قضية تستحق المقارنة؛ ماذا يمثل (الفجور) كانت المرأة جميلة بشكل يصعب وصفه إضافة لحبها للحياة مما يدعو لوصفها باللعوب والمغناج والطروب وما الي ذلك من صفات جاهزة تطلق علي النساء المستمتعات بإنوثتهن ؛ لقد حكمت أمي علي المرأة كما حكم المجتمع بأكمله عليها بالفجور؛ لأن الطرب والغنج والأنوثة تمثل (فتنة) ومجتمعاتنا تطارد الفتنة لخوفها منها فهي لا تعني ولا تمثل غير الفوضي؛ وهكذا فالفتنة فجور؛ ولكن لماذا يحكم المجتمع علي جميلة التي تسترق النظر لحبيبها من وراء(الوارش) تلك الفتاة البريئة الطاهرة ؟ فأجهز عليها بأيادي الوصاية الأبوية لتزف لرجل طاعن في السن دون علمها ولتكتشف أن عليها مد أيديها وأقدامها (لطاسة الحناء) كأي عروس دون علمها ؟ لقد خاف المجتمع من غنج وأنوثة جارتنا (جيهان)لانطوائه علي (الفتنة) وخاف من حب (جميلة) لأنه ينطوي علي( اختيار) المرأة لقدرها؛ فقد كان ولا زال زواج البنات شأناً عائلياً لا خاصا؛ فوجدتني مع كل مرحلة من مراحل عمري تفز لذاكرتي صورة تلك المرأتين بنفس الحيرة والأسئلة؛ في السابعة من عمري أسلمتني أمي التي تحمل صوت وضمير المجتمع لمنظومة العيب والشرف والحشمة والعرض فأطالت من أثوابي مما يخفي ركبتيّ وما عدت ألعب مع الأولاد؛ ولم يدر بخلدي وقتها أن أمي تهيئني لمستقبل سوف ينظر للنساء بمزيد من تعسف واعتبارهن مصدر الشرور طالما ترافقهن الجاذبية أو بالأحري (الفتنة) ذلك الوحش المرعب الذي خوفتني منه وخوفها مجتمعها منه من قبل؛ إعتقدت أنني نسيت ذلك في مراهقتي ؛ وتكيفت مع متطلبات المجتمع وشروطه؛ وأصبحت أكثر قدرة علي مهادنة مجتمع لا يكتفي بتهميش وإقصاء ما يسمي (بنصف المجتمع) باعتباره عورة؛ بل يصر علي التنكيل بهن وتخويفهن من الإشارة والتحدث عن كل جروحاتهن وعذاباتهن؛ وجعلهن يعشن تحت وطأة (التأثيم)؛ لكن منطقة ما من رأسي تبحث عن (الحرية)بكل معطياتها؛ فأقبلت علي (الوجودية) بروح متعطشة قادتني لحمي قراءة سارتر؛ وبقدر جعلني أدير ظهري وقتها لكتاب الجنس الثاني (لسيمون دو بوفوار) (الذي أحزن اليوم لفقدانه) إذ لم أكن معنية بخطاب المرأة المغلف بالخوف والكبت؛وما كنت أعي أن الجسد الإنثوي هو المرآة التي تعكس مؤثرات المجتمع ؛ أتذكر الآن كيف كنت منشغلة ببناء مدني الوهمية الفاضلة؛ بينما بنات جيلي يبحثن بشكل انتحاري عن الحب وعن (سوبرمانهن) الخاص وقتما كنت أنبش في (البرمجة الاجتماعية) لحضورنا نحن النساء أو حضور أجسادنا

بين الحجب والكشف تبعاً لمتطلبات التقاليد الاجتماعية ؛ واليوم وبعد مزيد من القراءات أكتشف أن (الخلفيات التاريخية) قد أفضت الي اعتبار النساء مجرد أجساد ؛ وأن خطابنا النسائي مهما تجاوز يظل مغلفاً بالخوف ؛ لا يطال (الثوابت) ولا يجرؤ علي الاقتراب من (المحظورات)وأن أغلب نسائنا يحملن أفكاراً وتصورات ليست من اختيارهن بل من تصورات (المجتمع) يتبنينها ويدافعن عنها بشراسة ؛ فقط حتي لا يعتبرن منبوذات مطرودات من رضا المجتمع ووصايته ...ولأنني مشبعة برفض وثورة جدتي ومشبعة بمهادنة أمي واستسلامها وخضوعها ؛ فلست أعرف حتي اللحظة من ستنتصر في داخلي في النهاية .