اكتشاف علمي جديد.. الضرب المجازي المعنوي!



بسام القاضي
2006 / 2 / 21

كل ضربٍ ليس مبرحاً هو ليس بضرب!
ليس جديداً ولا مفاجئاً أن البعض يعتقد بتضخيم الجهات العاملة في قضايا المجتمع، خاصة التمييز ضد المرأة، لهذه القضايا، واعتقادهم أنهم يعملون (من الحبة قبة). مستندين في ذلك إلى السؤال القديم المحقّ: أين الإحصائيات؟!
نعم. أين الإحصائيات؟ ليس هناك إحصائيات. لماذا؟ لأن أحدا لا يفتح الأبواب لنا لنعرف الحقيقة المخبوءة في الأدراج بنوايا ليست طيبة ولا سليمة! لا أحد يسمح لنا بمعرفة كم من قضايا الطلاق بنيت على أساس العنف ضد الزوجة. ولا أحد يسمح لنا بمعرفة كم من الشكاوى في مخافر الشرطة قدمت على الزوج أو الأخ بسبب العنف الذي يمارسه ضد زوجته أو اخته أو أمه! وقبل ذلك، والأهم من ذلك، أن قلة قليلة من النساء تلجأ إلى أي شكل من أشكال الشكاوى العلنية حين يتعرضن للضرب.
وحتى النساء المثقفات والناشطات في قضايا المجتمع، اللواتي يتعرضن للعنف الأسري، ما إن يفكرن في اتباع الأسلوب الصحيح في مواجهة هذا العنف بتقديم شكوى في مخفر الشرطة، حتى يسارع الجميع، بمن فيهم أولئك الذين يوصفون أنفسهم بالمتحررين والمؤيدين لقضايا المرأة، إلى التدخل والتوسط والرجاء لإيقاف هذه الشكوى بألف حجة وحجة، ليس آخرها الحفاظ على (سمعة العائلة)!
وإذا تمكنت امرأة من تجاوز كل هذه العقبات ووصلت إلى المخفر، ستجد أمامها سلطة الذكور مؤيدة بسلطة (السلطة) حين يسخرون منها في المخفر ويهزئونها ويحملونها مسؤولية ما جرى ويتحايلون بألف طريقة وطريقة لإحباطها بهدف سحب شكواها. وفي إحدى الحالات التي تعرضت فيها صبية للتحرش والضرب في الشارع، وسارعت إلى مخفر الشرطة، أمضت أكثر من ساعة بصحبة خطيبها حتى تمكنت من تجاوز العقبات اللانهائية التي وضعت أمام تقديمها شكوى.. وبعد سيل من السخرية لم يوقفها سوى تدخل صارم لخطيبها الذي هو (ذكر)؟! وفي حالة أخرى تعرضت فيها ناشطة للضرب من زوجها، وسارعت إلى المخفر، لتجد أمامها عدد من أقاربها وأصدقائها، وعدد آخر لم يتوقف عن الاتصال على الهاتف، بهدف إقناعها بالتراجع!
إذاً، إن عدم وجود إحصائيات ترصد العنف المنزلي، العنف الأسري، لايعود إلى غياب هذا العنف، بل يعود أولا إلى آليات اجتماعية متداخلة مع آليات سلطات تنفيذية وقضائية تتكاتف في سبيل عدم إعلان هذا العنف. وليس على أساس أن تجاهل الشيء قد يلغيه، بل على أساس معلن أحياناً وغير معلن أحياناً أخرى هو حق الرجل، زوجاً كان أو أخاً، في تأديب (إناث العائلة) كلما رأى ذلك ضرورياً.
ساق هذه المقدمة الطويلة مقالة للزميلة ملك خدام في جريدة تشرين السورية (بتاريخ 13/2/2006) تحت عنوان "كم مرة ضربك زوجك? السؤال الذي وضع النقاط على الحروف في قضية العنف المنزلي" تتساءل فيه عن هذه الظاهرة، وتقول: "بمنتهى الحياد والموضوعية أقول, وبعد مزيد من البحث والتمحيص, في ملفات محاكم الجنايات والشرعية, لرصد مدى شيوع هذه الظاهرة في مجتمعنا, أنا لم أقع على أكثر من بعض الحالات المتناثرة هنا وهناك, والتي لم تتجاوز أصابع يدي.. الأمر الذي حدا بي أخيراً إلى قصد أصحاب الرأي والاختصاص في الشرع والدين, الاستطلاع وجهات نظرهم في هذه الظاهرة والنبش عن جذورها إن وجدت, فلم أقع في نهاية المطاف, إلا على مايكرّم المرأة ويعلو بشأنها.."!
وإذا كنا نعتقد أن طرح السؤال الذي طرحته الزميلة خدام هو طرح مبرر تماماً، إلا أن الاكتفاء بظواهر الأمور، وتجاهل الآليات المجتمعية التي نعيشها هو أمر لا يمكن تبريره لصحفية متمرسة أمضت وقتاً طويلاً في حضرة صاحبة الجلالة! وتعرف مداخل الأمور ومخارجها أكثر مما يعرفه الكثيرون. ومع ذلك لنناقش ما قالته الزميلة خدام.
لقد قلنا رأينا في سؤالك الأساس: أين الإحصائيات التي تؤكد شيوع هذه الظاهرة في المجتمع السوري؟ وإذا أردت يمكنك أن تجربي النزول إلى أروقة القصر العدلي، ليس بصفتك صحفية، بل بثياب عادية وبادعاء أنك صاحبة قضية في المحكمة، واستمعي إلى النساء اللواتي تلتقيهن هناك! ويمكنك أيضا أن تذهبي إلى أي مخفر شرطة لا على التعيين، وتدعين أنك ترغبين بتقديم شكوى ضد زوجك الذي ضربك، ولاحظي كيف سيكون موقفهم وتعاملهم! بل ادعي أن زوجك (لا سمح الله) ضربك، وأنك ترغبين بتقديم شكوى ضده في المخفر، وأخبرينا برد فعلهم تجاه نواياك! فإذا كنت أنت المثقفة التي تعيشين في وسط مثقف ويفترض أن يكون في طليعة من يدعم السلوك الصحيح في هذه الأمور، ستتلقين مواجهة قوية من الجهات كلها في وجه تقديم مثل هذه الشكوى، فكيف سيكون وضع امرأة تعيش في مجتمعات شبه مغلقة وضيقة مثل دمر البلد أو ببيلا أو السيدة زينب أو عش الورور أو الميدان أو البوكمال أو دير الزور أو الباب أو سلمية أو .....؟! وكم من النساء يستطعن أن يقفن في وجه هذا الإجماع الاجتماعي الممانع لأي شكوى حول تعرضها للضرب سوى الشكوى (على فنجان قهوة) عند الجارة؟! أو البكاء على صدر الأم؟!
مع ذلك، وفي الحي الذي تسكنين، هل جربت فعلاً أن تضعي أذنيك لتصغي عما يدور خلف الأبواب التي تبدو موصدة على الهدوء والتفاهم والسعادة؟! وهو حي يتمتع بسمعة جيدة من حيث الرقي. وهل حاولت حقا أن تنزلي إلى ما يشكل 80 % من مجتمعنا السوري الذي يعيش خارج هذه الأحياء؟! في دمشق مثلاً: هل فكرت بزيارة متنكرة لأي شارع من شوارع مخيمي اليرموك أو فلسطين أو حجيرة أو نهر عيشة أو الدويلعة أو القابون أو مزة جبل أو جبل الورد أو الهامة أو........؟! لتسمعي صراخ النساء اللواتي يتعرضن إلى الشكل الأبشع من أشكال العنف: الضرب؟! ونحن هنا نتجاهل أشكال العنف الأخرى التي لا تقل سوءا عن الضرب: العنف الجنسي الذي يغتصب بموجبه الزوج زوجته، والعنف اللفظي الذي لا أعرف رجلاً لا يمارسه على زوجته بدرجة أو أخرى وبضمنهم أنا! والعنف الاقتصادي الذي يرهن الزوجة دائما للزوج عبر وضع كل مساهمتها في بناء الأسرة المادي في خانة الزوج! و.. و..
إذا، إن سؤالك عن الإحصائيات سؤال نافل في بلد تعرفين جيداً كما يعرف الجميع كيف يتعامل مع الإحصائيات بكافة أنواعها ومجالاتها، والمتعلقة منها بالعنف ضد المرأة والطفل بشكل خاص.
وما قلناه أعلاه يجيب أيضاً على إشارتك أنك لم تتعرضي لهذا العنف، ولم تتعرض امرأة ممن تعرفينهن. ويرد على أن هذه الحالات هي حالات استثنائية (تجنح المنظمات والهيئات التي تعمل في مجال المرأة والأسرة إلى تكريسها على أنها قاعدة)!
أما عن إشارتك إلى إكرام الإسلام للمرأة، فقد حان الوقت لنميز حقاً بين الإسلام وبين بعض الذين يدعون أنهم ممثلو الإسلام، قبل أن نطلق الأحكام النهائية. فهل خطر لك أن تسألي أئمة بعض الجوامع الذين أكدوا علناً، وعبر مكبرات الصوت، وفي أكثر من مناسبة على أن تأديب الزوجة حق للزوج على ألا يصل إلى (الضرب المبرح)؟! ولعلك سمعت بهذا الأمر على الأقل لأن بعض الناس احتجوا على ذلك علناً وعبر وسائل الإعلام السورية. هذا إضافة إلى ما يدرس في بعض المعاهد الدينية ويقال في خطب الجمعة بالمعنى نفسه دون أن تنقله مكبرات الصوت. فهل هذه الدعوات وهؤلاء الرجال هم ممن يقولون أن (الإسلام كرم المرأة) مساويين بين أنفسهم واعتقاداتهم وبين الإسلام؟ وهل تكريم المرأة يقضي بحق الزوج في (تأديب الزوجة حتى بالضرب على أن لا يكون مبرحاً)؟!
وهنا نؤكد كما أكدنا في سياقات مختلفة أن هناك الكثير من رجال الدين الإسلامي الذين يسعون إلى إخراج هذا الدين مما ألبسته إياها عصور التخلف والانحطاط من لبوس لا تنتمي إلى أية قيمة إنسانية إيجابية. لكن هؤلاء أيضاً يتلقون من الاتهامات أكداساً تشكك في عملهم ونواياهم، وبعضهم يتلقى تشكيكاً في تدينه أيضاً!
ومع ذلك، لم أفهم بالضبط ما قصدتيه بقولك: (حتى الزوجات الناشزات, كان تأديبهن حسب ماورد في القرآن ا لكريم والسنة الشريفة يتدرج تصاعداً من النصح, والأمر بالمعروف إلى الهجران في المضاجع إلى الضرب بالمعنى المجازي المعنوي وليس المادي المبّرح)!!
وحسب علمي المتواضع ليس هناك في الحياة ما يدعى (الضرب المجازي المعنوي)! هل يعني ذلك، مثلاً، أن يرفع الرجل يده ويهوي بها على خد امرأته ثم يوقف يده قبل أن تصل إلى وجهها ببضعة سنتيمترات؟! هل يعني ذلك أن يصل كفه إلى خد امرأته ولكنه لا يكسر لها فكها؟! هل يعني ذلك أن تكون الركلة على خصرها لا تترك أثراً يدوم لأكثر من ساعات؟! ماذا قصدت بالضبط بـ (المجازي المعنوي)؟! لم أسمع قبل الآن مثل هذا المصطلح أبداً! لكن معناه الحقيقي تكشفه تتمة الجملة التي تقول (وليس المادي المبرح)! إذا القصة هي أن لا تصل المرأة إلى المشفى مدماة أو مشوهة أو مبقعة بالبقع الزرقاء! وكل ما عدا ذلك ينتمي إلى (الضرب المجازي المعنوي)؟! ولا يمكن تفسير هذه الجملة بطريقة أخرى.
فإذا كانت مقالتك تقول ذلك، أي تقول أن الضرب غير (المادي المبرح) ليس ضرباً حقيقياً إنما هو مجازي معنوي، فأنت (محقة) جزئياً! لكن علينا، حينذاك، أن نعيد تشكيل مفاهيمنا جميعاً لتنسجم مع مقولة جديدة في علم الاجتماع هي مقولة (الضرب المجازي المعنوي)! ولا أظن أن أحداً أو مدرسة في العالم وصلت إلى هذه المقولة بعد!
أما ما قلتيه حول أن (حمل ألوية (لا للعنف ضد المرأة) هو تيار وافد, وليس متأصلاً ونابعاً من صلب عاداتنا وتقاليدنا وشرعنا وديننا)..‏ فهذا صحيح تماماً. باستثناء الكلمة الأخيرة (ديننا). إذ سيصعب عليك كثيرا، وعلى غيرك، قبول أن (ديننا يرفض مقولة لا للعنف ضد المرأة)، وهو المؤدى الوحيد لجملتك! وسيكون عليك وعلى من يتبنى هذه المقولة أن يقبل صيغتها الإيجابية الأخرى (ديننا يقول نعم للعنف ضد المرأة)! فهل هذا ما تريدين قوله؟ أما عاداتنا وتقاليدنا وشرعنا (باعتبار شرعنا هو قراءة إنسانية تاريخية للدين) فصحيح تماماً أن لواء (لا للعنف ضد المرأة) ليس منه. وهو وافد عليه كإنجاز إنساني جديد يشبه تماماً الإنجاز التاريخي الذي وضعه الإسلام ذات يوم بعيد، حين غيّر علاقة الدين المنتصر مع الدين المهزوم للمرة الأولى في التاريخ. فقبله كان على الدين المنهزم أن ينتهي إلى غير رجعة، وعلى أتباعه أن يتحولوا بالضرورة إلى الدين الجديد، أو يقتلوا. أما هو فقد وضع العلاقة الجديدة التي تقبل الدين القديم (وإن اشترط أن يكون سماوياً) دون أن يقضي عليه أو على معتنقيه! فهل كان على العالم آنئذ أن يرفض هذه المعادلة الجديدة بحجة أنها (وافدة وغير متأصلة في عاداتهم وتقاليدهم وشرعهم)؟!
وآخر ما أود قوله في هذا السياق: حان الوقت لنتخلى قليلاً عن نزعتنا المدمرة إلى اعتبار العدد في المقام الأول! نحن في مستوى وصلته البشرية صار فيه الخطأ خطأ يجب أن يشار إليه ويعالج سواء كان يمارس ضد فرد واحد من أصل مليارات، أو ضد مئات الملايين من هذه المليارات. ومن حيث العمل المجتمعي، لا يختلف الأمر من حيث القيمة إذا كانت هناك امرأة واحدة تتعرض للضرب، عنه إذا كانت جميع النساء يتعرضن للضرب. ما يختلف بين الحالتين هو أن الحالة الأولى تحتاج إلى القليل من الجهد، ويمكن إيجاد حل مباشر لها. أما الحالة الثانية فتحتاج إلى الكثير من العمل على مستويات مختلفة لحلها.
ولعلك تعرفين، على الأقل بحكم عملك في الإعلام، أن ما يميزنا عن أولئك الذين (يفد) الأمر من عندهم، أنهم يعترفون علنا بأية مشكلة مهما كان حجمها، بهدف كشفها ورصدها وتحليلها والوصول إلى حلول لها.. وهو ما يسمح لنا بقراءة أرقام لكل ظاهرة مهما كانت صغيرة أو كبيرة في مجتمعاتهم، ثم السخرية منهم والإشارة إلى مستوى (انحطاطهم)! بينما ما زلنا نتبع سياسة النعامة في إخفاء أية قضية عندنا مهما بلغ حجمها، وتجاهلها ومنع أية محاولة للوصول إلى أرقام دقيقة حولها، ثم التفاخر (برقينا وحضارتنا)! ولعلنا نتعلم ذات يوم أننا لا نفعل بهذا التجاهل سوى أن نفاقم المشكلة ونزيد من خطورتها في عالم لم يعد يمكن لأحد أن يضرب فيه نطاق السرية على شيء.
عتب شخصي:
لم أكن أنتظر من زميلة أمضت وقتاً طويلا في الإعلام، أن لا تجد سوى توصيف (الضجيج والصراخ والصخب) لوصف إعلام يحاول أن يقول رأيه في مسألة، أصاب في ذلك أم أخطأ!

نساء سورية- العدد 53- 19/2/2006