الجاهلية الأجتماعية وظاهرة وأد النساء



عباس علي العلي
2017 / 12 / 3

من ملامح تأريخنا الجاهلي وأقصد بالجاهلية ليست الفترة التي سبقت ظهور الدين لإسلامي ولكن بمعناها الأوسع حين تكون المقاييس والمعايير الأجتماعية والدينية والأخلاقية تسير عكس منطق الطبيعة وضد قانون العقل السوي وجود ظاهرة الوأد، الوأد مفهوم يعني به أهل اللغة والمعرفة والتأريخ ممارسة يتم فيها التخلص من الأنثى أو التبرؤ منها أما خوفا مما هو متوقع من همجية المجتمع وإنحراف أخلاقه وإنعدام فرصة العيش الطبيعي، وأحيانا يكون الوأد مجرد عادة أجتماعية مقيته، الطب السبب الأول وبرغم بشاعة القضية قد يجد له مبرر وقد يعقل ويقبل أما الحالة الثانية وهي الشنيعة والمشعشعة إلى يومنا هذا في عقول ووعي الرجل الشرقي عامة والعرباني خاصة بما فيهم من يمتلك وعيا ما بإنسانية الكائن الإنساني.
كلما أستقرت المجتمعات الإنسانية وخضعت للقانون والنظام وتجذرت فيها قواعد العيش الضرورية والتي أهمها وجود سلطة تدافع عن حياة الناس قلت حالات اللجوء إلى الوأد في مبرره وصورته الأولى وهذه من التجربة وليست تنظيرا خياليا، المشكلة المستورثة والأزمة الإنسانية الكبرى هي حينما يسود المنطق الأخر منطق الإقصاء والتهميش والإبعاد العرفي والخاضع لمزاجية مختلة ترى في الأنثى جزء ناقص جزء غير قابل للتقويم جزء مخلوق ومجعول ليكون سلعة أو مجرد حاجة للذكورة دون مراعاة لحقيقة أنها أكبر من أن تكون قضية بمفردها، هنا لا أدعو لتحرير المرأة ولا أرفع شعار المساواة ولكن جوهر الإشكالية التي نطرحها اليوم هي هذا الشعور بالدونية.
في بعض المجتمعات الغارقة في التخلف نجد المرأة هي سيدة المجتمع والحاكمة والمتصرفة ليست لأنها نالت حقوقها بالنضال ولكن لأن قواعد الفهم بنيت على ركيزة مختلفة وأنشأت مجموعة قواعد تتيح للمرأة هذا المجال الحيوي، في مجتمعات دينية ومفترض بها أنها تؤمن بالإنسانية والمساواة البشرية وتؤمن بأهمية دور الإنسان بغض النظر عن جنسه ولونه وعرقه، تمارس أقصى درجات العزل والوأد الوجودي في موقف متناقض مع العقيدة ومع المنطق الديني ومع حقيقية كون الإنسان أسم الجنس بلا تفريق هو مكرم ومقدس {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}.
نحن المسلمون مثلا نقدس حد التأليه المطلق للسيدات مثل فاطمة بنت رسول الله ومريم القديسة أم عيسى وأم موسى النبي وامرأة فرعون وغيرهن من النساء لأنهن يمثلن وعينا الديني وننتمي لهن ونسمي بناتنا بأسمائهن ونصفهن بالمقدسات، ولكن حين نتكلم عن الأنثى نتكلم بالدونية إلى أقصى حد وإلى أدنى مستوى وعندما نتصرف فإننا نتصرف كما نقول بوأد فكري، المرأة لا تصلح أن تكون أكثر من متعة وأكثر من كيان جميل شبيه بالحيوانات الأليفة التي يتم تربيتها بالبيوت، هذا الانفصام في تمثيل الصورة لا يسئ للمرأة وحدها، إنه أمتهان للعقل الذكوري العقل الذي ما زال يؤمن بالوأد ويتبناه ويعمل على نشره لأنه ما زال ينتمي لعصر الجاهلية الأولى.
قد يرى البعض أن طرح هذا الموضوع فيه مبالغة وإثارة فكرية فقط خلاف الواقع الذي نعيشه حيث أن المرأة اليوم هي نصف المجتمع وتلعب أدوارا مهمة في حياتنا منهن الطبيبة والمهندسة والأستاذة الجامعية والمبدعة في شتى المجالات، وفي الحقيقة أن كل ما ذكر صحيح وهو ليس نتاج تبدل في المزاجية الفكرية ولا إنقلاب على الفكر الأجتماعي لدينا، ولكنه أيضا إشارة لعار وشنار يمزق مصداقية ما نؤمن به وتعرية للذات الذكورية التي تسكن حقيقية في بعض عقول ووعي نسائنا، المرأة مثلا في المجتمع العراقي تمثل نسبة 55% من تركيبة المجتمع وتمثل العنصر الأكثر إنتاجية فيه قياسا لما تشغله في وسائل الأنتاج المادية ومنها الطبيعية أيضا، ولكنها بالمقابل ما زالت تعد كقوة فعلية في حدود ضيقة حدود لا تتناسب حتى مع قاعدة النسبة والتناسب التي يؤمن بها الحداثيون والعلمانيون والمدنيون.
لا المؤسسة الدينية تؤمن بالمساواة وحتى الأكثر تحررا منها ما زالت ترى فيها ناقصة عقل ودين فهي لا تصلح للإمامة ولا تصلح للقضاء ولا تصلح للولاية ولا تصلح لأن تكون في نطاق عمل مختلط لأن العقلية الذكورية أستبدلت الأنتساب للوعي الذكوري بدل الأمر الديني {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} هذا النص الديني في حين أن الفهم الذكوري الأعتباطي يقول أن المرأة مجرد وعاء ولا تعني الشراكة المتساوية وخاصة بدون تحديد المفضل، ما زالت أيضا المؤسسة الأجتماعية تنظر للمرأة على أنها عيب وأنها يجب أن تكون خلف الجدران إلا إذا قامت لسيدها الرجل فعند ذاك لا يهم أن تكون على أي حال حتى كانت مهانة لأنها تؤدي واجب العبودية.
المجتمع ككل اليوم لا يرضى أن ينحاز للمرأة وأن المجتمع يطير بجناحيه المرأة والرجل، ولأن المرأة والمتحررة منها ما زالت تخشى سطوة الوعي اللا مباشر الذي يتملكها، ما زالت تؤمن بأنها أضعف من الرجل وتطالبه بأن يمنحها حقها دون أن تمنح نفسها هي في أن تكون حرة، ما زالت المرأة تعاني من وعيها المتردد بين إيمان داخلي من أنها ظل رجل ومن حقيقتها أنها كائن أخر غير الرجل، تعاني من عقدة الحاجة إلى سماء تظلها وأستحباب لضعفها ورقتها على أنه طريقها الطبيعي لأن تنال حصتها الطبيعية من بيولوجية وفيسيولوجية طبعها التكويني.
كل ما ذكرناه يمثل حقيقة وجود الجاهلية في مجتمعنا في عقله ووعيه وسلوكه، في مفردات نظامه السياسي والأجتماعي والفكري وفي كل تفاصيل حياتنا تحضر فكرة الوأد، في أسواقنا وحتى في ثقافتنا، حين نفرد للمرأة مصطلح الأدب النسوي ونطلق لها حدود دنيا للإبداع لأننا نؤمن أن المرأة ناقصة إبداع وناقصة أبتكار وناقصة في تحديد سقوف عليا لوجودها الأجتماعي، ما زلنا نأد في كل يوم طموح المجتمع أن يتخلص من عقلية القبيلة وعقلية رجل الكهنوت الذي حول الدين إلى مرموزات جنسية المرأة فيه العنصر المستخدم والخادم دون أن نسألها هل تقبل بأن تكون مجرد جائزة لرجل أحتقر الوجود وأحتقر كيانها وحقها وإنسانيتها ليدخل الجنة ويفوز بها كتعويض عن ذلك الأحتقار والوأد.