ماراثون أطفال المستحيل



فاطمة ناعوت
2017 / 12 / 6

ماراثون أطفال المستحيل

كان يومًا مُشرقًا، توّجتْ فيه الشمسُ صدرَ السماء، فغَمرتِ الأرضَ الخضراء بأشعّةِ الذهبِ المراوغة التي تتسلّلُ بين بقاع الظلال فترسمُ لوحاتٍ بهيةً أبصرنا فيها ملامحَ ربّاتِ الجمال يمسحن بعصاهنّ السحرية على رؤوس المُتعبين من بني الإنسان، فيضجّون بالصحة والحياة. إنه يومُ انتصارُ الحياة على الموت. اليومَ تُسجّلُ الحياةُ هدفًا في مرمى الوَهَن والمرض. شاهدنا بعيوننا المرضَ يخُرُّ مدحورًا أمام صفعة الحياة على وجهه. لا شيء يعلو "حقَّ الحياة". ولا حقَّ أحقُّ من حقِّ الحياة.
دعوةٌ طيبة وصلتني من السيدة "سلوى البوريني" نائب أول حاكم نوادي ليونز إيليت، لمشاركة أطفال مستشفى 57357 في ماراثون خيري لصالح الصغار ذوي البأس قاهري المرضّ الأشِر الذي يفتك بالأجساد النحيلة. لكن تلك الأجساد في نحولها تزدانُ بدروع صلبة مضفورة بالرغبة في الحياة، من أجل إسعاد أمهات حزيناتٍ يقفن على باب الرجاء حتى يُشفى أطفالهن وطفلاتهنّ فيعودون لمدارسهنّ وكراريس الرسم والدُّمى ودروس الموسيقى والحساب، بعدما يغادرون الغرف المعقّمة وأنابيب المحاليل وجلسات الكيماوي وإبر الأمصال الموجعة.
كنتُ خارجة لتوّي من عملية جراحية. منهكةً تُكسِّر آثارُ المخدّر أوصالي. لكنني عزمتُ عزمي على النهوض من كبوتي حتى أستمدَّ من قوة الأطفال المُعافين قوّةً وأملاً. دعوتُ بدوري صديقي رأفت إسكندر، سفير النوايا الحسنة بالأمم المتحدة، في زيارته للقاهرة، للمشاركة في المارثون لدعم الأطفال وتشجيعهم. وكان استادُ القاهرة الرياضي ضاجًّا بالحياة صاخبًا بالحب. كلُّ أولئك البشر من إعلاميين وفنانين وسفراء ووزراء وقيادات من القوات المسلحة والشؤون المعنوية، جاءوا ليحتفلوا بلحظة انتصار الحياة على شرف أطفال المستحيل بصحبة د. شريف أبو النجا مدير مستشفى 57، وعلى ضيافة اللواء علي درويش مدير استاد القاهرة وقيادات نادي ليوإيليت. صدح السلام الجمهوري في أرجاء الفضاء، ثم بدأ مارش الشرف لطاقم كشافة وادي النيل بالطبول والأبواق التي تناغمت مع دقّات قلوبنا العامرة بالرجاء في الله وفي طاقم الأطباء والتمريض بالمستشفى الذين يصلون الليل بالنهار من أجل إشفاء أطفال السرطان.
نسيتُ وهَني وأنا أُبصرُ الأطفال وقد غادروا وهنَهم وأشرقت وجوهُم بالصحة والفرح. جاء البلياتشو "عمو كروان"، معدّل السلوك بالمستشفى الذي يتقن مهارات "العلاج بالفن"، في شعره الأخضر وأنفه الأحمر وكفّيه البيضاوين وبدلته الصاخبة بألوان الربيع، ليشارك الأطفال فرحتهم بالشفاء.
بدأ الماراثون بحشود المصريين مع ثلاثين طفل من أطفال المستحيل، وعُقدت ورش الإنتاج الفني، وفُتحت معارض المنتجات اليدوية بإيدي أطفال المستشفى، وأقيمت ماتشات وديّة بين أطفالنا وأشبال نادي المنتخب القومي لكرة القدم، وجُمعت التبرعات الرمزية لتضخّ بعض الدماء في قلب المستشفى الأسطوري الذي شيّده المصريون بأموالهم لننجو بأطفالنا من ويل الهزال والمرض.
أسميتُه في مقال سابق "زهرة في الأرض الموحشة". زهرةٌ فائقةُ الجمال، تورقُ كل يوم وتكبُر فوق أرض، كانت بالأمس القريب مكانًا موحشًا يحتلّه "المذبح" القديم بحي السيدة زينب. فتحوّل مكانٌ مخصص "لذبح الحيوان"، إلى واحة "لإحياء الإنسان". بل هو أرقى فصيل الإنسان: أطفالُ مصر ممن اختبرهم اللهُ بمحنة السرطان اللعين.
نبتت فكرة المستشفى، قبيل الألفية الجديدة، في عقل طبيب شابٍّ، د. شريف أبو النجا، آمن بأن الجهود الأهلية، قادرةٌ على فعل ما تعجز عنه مؤسسات الدول. فخصص المحترم د. عبد الرحيم شحاته، محافظ القاهرة آنذاك، تلك الأرض للبناء، ثم تضافرت جهود المصريين، من رجال أعمال شرفاء على رأسهم الراحلة الجميلة علا غبور، وأبناء الجاليات المصرية بالخارج، ومواطنين بسطاء من مثقفي مصر الواعين منهم "الحاجة زُهرة"، بائعة الجرجير، التي تبرعت للمستشفى بخمسة جنيهات، إضافة إلى الشيخ زايد ومؤسسته، في تشييد هذا الصرح الهائل، الذي تُذهل حين تزوره لما تلمسه من نظافة فائقة، وبراعة في الإدارة، ونظام مدهش في العمل، والحبّ الغامر من قِبل طاقم التمريض والأطباء لأولئك الأطفال الذين اختبرتهم السماء باختبارها الصعب. طوبى للطيبين الذين يبنون الوطن.