بيع الجسد، أم بيع العقل



نادية خلوف
2017 / 12 / 20

قد أبدأ الحديث عنّي حيث أقف محتارة أمامي وأسأل: هل أنا على صواب؟ أجيبني أحياناً بلا. غيّري الطّريق. أستجيب لندائي، وقد استجبت عندما طلبت منّي أن أكفّ عن كتابة المقالات السياسية، والتّحول إلى الاجتماعية والأدبية. أحاول أن أتغير بأن أرى العالم كما هو في الحقيقة، وليس كما أتصوّره. تسبب هذا بخسارتي للكثير من الأصدقاء، وبعضهم أصدقاء حقيقيين ،أو أقارب. الأمر ليس مزحة. عندما تخسر دائرة اجتماعية، أو حزبية تشعر كأنّك سجين، وتلك المعاناة اختبرها المنتمون إلى التنظيمات السياسية من جيل الخمسينيات وما قبله. حيث يصبح الإنسان عندما يترك الحزب أو يطرد منه في عزلة تشبه الموت المدني. ليس صحيحاً أننا لا نحزن لأن البعض يعادينا، فعندما ترى أقرب الناس إليك يعادونك لأنّك كتبت رأياً ما فهي مشكلة اجتماعية كبيرة، وهي موجودة قبل الأنترنت حيث لا يتعاطف النّاس معك إلا عندما تصاب، أو تصبح صاحب منصب. ومع هذا فإنّ لكلّ شيء ثمن، وعلينا أن ندفع ثمن ما نؤمن به، وأنا مستمرّة في الدّفع، لم أصل إلى مرحلة أفهم نفسي بها، أحياناً أشبهها بالخروف. هذا الحديث يوصل إلى حديث أهم، وهو أنّ البعض يدفع ثمن مواقفه، والبعض الآخر يقبض ثمنها، ما دمت تقبض ثمن موقف ما، فأنت معروض للبيع، و هل يختلف بيع الجسد أو ما يدعى الدّعارة عن بيع الفكر مثلاً؟ وهذا ما أرغب في الإضاءة عليه.
بدأت حملة -مي تو- في أمريكا بامرأة واحدة، ثم تفاعلت إلى درجة أن بعض المعتدين الجنسيين انتحروا، وبعضهم وزراء وشخصيات هامة، ومن نتائج تلك الحملة البدء بتغيير القوانين في الغرب، والبحث عن السّبب، حيث تبين أن التّحرش يأتي في أغلب الحالات من شخص صاحب سلطة، تجاه شخص أضعف. لا أعتقد أن أغلبنا في الوطن العربي يفرّق بين التّحرّش الجنسي، والإعجاب، فهناك رجال نجوم في سهرات المجتمع، وكلّ نكاتهم هي نوع من التحرّش، وبعض النساء لا تهنأ إن لم يتحرّش بها رجل، وهذا بحث يطول الحديث عنه حيث تعرّض ربما الكثير منّا في طفولته إلى التحرّش، وصمت على الأمر بسبب الخوف، وثقافة العار.
السؤال الذي أبحث عن إجابة له هو: هل تبيع المرأة الجنس، أو تقايضه في سبيل الوصول إلى منصب ما، أو جائزة ما في الوطن العربي عامة وفي سورية بشكل خاص؟ أم تبيع الفكر؟ وهل تملك الفكر الحرّ؟
أتحدّث عن النساء فقط. من المفيد من أجل عدم التّعميم التنويه إلى أنّ آلاف المبدعين والمبدعات في الوطن العربي لم تتح لهم الفرصة لتطوير أنفسهم، فقد اعتمدوا في حياتهم الشخصيّة القيم الحقيقية للإنسانية، والمثابرة والجد، اعتقاداً منهم بمقولة المجتمع" لكلّ مجتهد نصيب" وهذه الجملة الحكيمة تشبه جرعة مخدر، لأنّ الأمر لا علاقة له بالاجتهاد، وهؤلاء المجتهدون لن يتجاوزوا بيئتهم المحليّة مهما اجتهدوا، فللنجومية طريقة أخرى، ويمكن القول باختصار أن الإبداع لا يكفي لإطعام الخبز، فلا بد من الشهرة، والشهرة تعني تسويق الإبداع ، وهذا يحتاج إلى السّلطة والمال، أو الدخول في لعبة السياسة من بابها العريض، ومن الدّاعم الأول: الرئيس، وأعوانه الأمنيين ،فقد كان الشعراء والفنانين في الماضي القريب يدعمون من المنظمات الفلسطينية، أو الأحزاب، أو رؤساء الدول كالقذافي والأسد، وصدام حسين، وحتى علي عبد الله صالح، ولم يخرج أحد منهم عن ذلك في ذلك الزمن العربي اللئيم. بل إن بعضهم تنقل بين الجميع. لكن ذلك الجيل لم يعد موجوداً . إنه جيل آخر أتى بعده، يتغنى بشعره ، وهو يقود المرحلة اليوم.
تخضع الشهرة والانتشار في أوساط النساء بالدرجة الأولى لمقياس الذّكورة حيث لاتزال المرأة عورة مشتهاة، ويمكن أن تستعمل جسدها من أجل الوصول للشهرة الفنية، والأدبية، والسياسيّة، وبعدها قد لا تجد وقتاً لديها للحضور حتى على الفضائيات، وقد تتحول إلى عربيّة، ثم يتمّ تدويلها. أتحدّث عن المرأة التي تملك بعض السّلطة والمال، ودخلت لعبة الوصول، أما المرأة من البيئات الفقيرة فحتى لو فكرت بذلك سيكون مكانها بيوت الدعارة أو عبودية الجنس في أماكن تديرها الأجهزة الأمنية في سورية مثلاً.
أتابع أعمال الكاتبات النّساء كي أفهم نفسي بالدّرجة الأولى، وكي أعرف أين وصلن في مقياس تطور المرأة، وربما أصل لنتيجة لو قمت باستعراض حالات عربية وسوريّة:
-أرادت إحدى السوريات أن تنتشر على الفيس بوك، وكانت تكتب شعراً حرّاً مرفقاً بصورتها في أوضاع مختلفة، كانت صديقة للمؤيدين والمعارضين للنّظام. لكن من يتابع كتاباتها على الفيس يعرف هدفها. ترغب في الانتشار خارج الفيس وضمن وسط النّظام، وهذا ما حصل فعلاً. عملت مقابلة حول شعرها -الفيسبوكي-في قناة سما، ومن ثم نشرت ديوانها الأول، وأصبح اسمها شاعرة، ولا زالت تحظى بتأييد الموالين، والمعارضين، فصورها متنوعة وتوحي بأمور كثيرة، وهي حالة سورية طموحها لا يتجاوز حدّ معين، ولم تبع سوى مقابلاتها مع محطة سما التي لا تدفع.
- من خلال قراءاتي المتنوعة لأعمال الكتّاب والكاتبات، ومتابعة تصريحاتهم، رأيت أنّ الحالة المصريّة أكثر تعقيداً، وقد كنت أستمع إلى بعض المحللين المصريين، وعندما سمعته يتحدّث حول معاناة الشعب السّوري . ظننته جادّاً حتى قال جملته الأخيرة ، وهي أنّ اللبنانيين قالوا له: "كلّ ذلك لأنه ليس لدينا سيسي مثلكم". إحدى هؤلاء الكاتبات المصريات تستطيع بيعك في السوق السوداء، ثم شراءك ثانية . لديها موهبة مصرية، على طريقة موهبة" أبو لمعة" عندما تبدأ بقراءة مقال لها تتمتّع في البدء، مثلما تمتّعتُ بكلام الرًجل الذي تحدّث عن معاناة السّوريين وما إن تصل إلى منتصف المقال حتى تغادره قائلاً لنفسك: إذن كان هذا هو الهدف!
تلك الكاتبة تستطيع أن تمدح اليوم حكّام الإمارات، وقد فعلت ذلك طبعاً عندما كانت تحلّ ضيفة عزيزة على مؤيدي مبارك هناك، ثم صمتت عن مديحهم، ولن أستبعد أن تذمهم اليوم لو كان هذا يخدم ما تصبو إليه. لقد غيّرت لهجتها تجاههم وتناستهم، تتنقل الآن بين السيسي، وبعض الإعلاميين المؤيدين له، وتدّعي أنها تدافع عن الأقباط عن طريق شتم الإرهاب ، وفعلاً أصبح بعض الذين يحتاجون من الأقباط لكلمة مواساة مقتنعين بها، فليس لدى إنسان بسيط سوى أن يقبل بمن يقول له: أتعاطف معك، ولن يبحث عن الهدف وراء هذا القول، ليس هذا فقط، بل أصبح لها منتدى في - مصر التي تمثل حرية السيسي- وحسب ما تقول أنه يأخذ بندائها-أعني السيسي-، ويمكننا متابعة نضالها وأخبارها، ومسرحية تكفيرها، وصفحتها التي تتحدث عن عظمتها.
- تابعنا في سورية مواقف إحدى صحفيات النظام من اللواتي غادرنه بمقابل مادي، أي قبضت ثمن موقفها بعد أن تخرجت من مدرسة الأب القائد حسب قولها، وأخلصت له طوال حياتها لأنّه منحها العمل، والمكانة، والمستوى الاجتماعي اللائق، لكنّها تعلّمت من السلطة أيضاً طريقة التربح، قبضت الثمن وتوّلت منصباً رائداً على الضفة الأخرى يدفع بالدّولار وليس بالليرة السورية، وطوّرت مقالاتها بحيث تستطيع أن تجعل رصيدها الشعبي أكبر كي تستطيع التّكسب أكثر، كتبت مقالاً عن حق الأكراد -الذي لا تؤمن به إلا من أجل زيادة رصيدها المادي من خلال زيادة رصيدها المعنوي- تصدرت مقالتها الصفحات الكردية على وسائل التّواصل، أصبحت فجأة من مذيعة غطت أخبار قتلهم إلى صديقة و أيقونة.
وهذا ما جرى مع الكاتبة المصرية. أصبحت أيقونة عند أنصار السيسي، والإعلاميين الموالين له، واعتبرت شخصيّة هامة مهدّدة من القضاء المصري بالسجن لازدراء الأديان، ثم تتحدى ذلك القضاء وتدخل مصر مرفوعة الرأس، ولو جرى ذلك في فيلم هندي يمكن أن نصدقه أكثر.هي لم تخطئ. هي تبيع أما من يتابعها ويكيل لها المديح من السوريين ، فهو الذي يخطئ، يسير وراء رّائحة العنصرية المبطّنة ضد أبناء الشعب السوري، فما دام الأمر ضدّ الإرهاب، وليس ضد النّظام، سيكون أصحاب المؤسسات السّورية في الخارج، والذين تربطهم مصالح اقتصادية بدمشق من الباحثين عن تلك الأيقونات، والذين لا يخرجون عن رأي ممثلي النّظام في أماكن مصالحهم في دمشق ، يشيدون بنضالها وتعرضها للمساءلة- في المسرحية العبثية عن مقاضاتها-، فالقلم السّوري أصبح مخصّصاً اليوم للتبعيّة حسب الحالة الرّاهنة في المعارضة، والموالاة، ومن يدّعون الحياد.
- ينتشر في الوطن العربي اليوم كتّاب البلاط الحاكم، أو البلاط المعارض، وكلا هما له دوائر لا ينفذ لها ذوو الموهبة، وللنساء في هذا شأن خاص، فهناك كاتبة جزائرية كان لها تماس مباشر مع السّلطة، ومع الكتّاب العرب الذين يشربون نخب أنثى متحرّرة في جلسة مسائية، ويرفعون شأنها. استطاعت تلك الكاتبة حتى الآن أن تكون أكثر شهرة وانتشاراً. تحاول أن تتخصص في الكتابة عن المرأة وعذاباتها، وتتحدث بالحقيقة أحياناً، هذا بعد انتشارها، ويمكن أن تقرأ لها مقالاً حتى نهايته، فكما يبدو أنّ لها تجربة مع المعاناة. ومع ذلك لا تمانع أن تكتب عن واجبات المرأة المسلمة تجاه زوجها في رمضان في صحيفة خليجية تدفع لها بالقطعة، وعندما تقرأ لها هذا الوجه من المقالات ،ينهزم وجه المرأة المتحرّرة من أمامك. المهمّ في الانتشار هو الربح المادي ثم المناصب، ثم الغرب، ثم الجائزة.
أتحدّث عن جيل الشباب من الكاتبات الذي لم يصل إلى الستين، والذي تربى في ظل الأنظمة القمعية، والمجتمع الذّكوري الذي يعجب بأنثى تعطيه جسدها ليرفعها، وفي هذه المناسبة فإن ذكورية المجتمع موجودة حتى في الغرب. أستشهد بسيلفيا بلاث الشاعرة الأمريكية والروائية وكاتبة القصص القصيرة، والتي كان من أهم أسباب انتحارها انفصالها عن زوجها الشّاعر تيد هيوز الذي كان يخونها مع طالباتها، ولم تتحمّل ذلك فانتحرت. كان هو شاعر البلاط، واعتبرته التايمز رابع كاتب من بين خمسين كاتباً كبيراً في إنكلترا. لقد كرّمت بعد موتها، بينما كرّم هو من البلاط حيث خصصت الملكة جائزة باسمه، وهو مسؤول عن جريمة أخلاقية بحقّ امرأة قتلها دون قصد. الذكورة ليست نظرة اجتماعية فقط بل موقف شخصي أيضاً.
حتى تصبح المرأة كاتبة، أو فنانة ، أو سياسية في الوطن العربي عليها أن تبيع شيئاً، قد يكون عقلها، وليس جسدها، لكنّ الذي يبيع هو ابن السّوق، ويتعوّد على البيع، ويجد له طرقاً تجعله محقّ، فمثلاً تزوجت إحدى الكاتبات المصريات ليوم واحد من رجل ثريّ، وكانت العصمة بيدها، وطلّقت في اليوم التالي بعد أن نالت كل الأموال المكتوبة في العقد، وقالت أنها خلال اليوم الذي تزوجته فيه. اكتشفت أنه نصّاب، وكان فريق من الرّجال يصفّق لها، فهم يحبون المرأة الجارية، العارية، بائعة الهوى. لا يمكن أن يثبت الرجل ذكورته إلا أمام امرأة تبيع.
قد يعترض البعض على هذا الكلام، ويسأل: ماذا عن حرية المرأة؟ هل يجب أن تكون ناسكة؟
بالطبع لا. فلتكن حرّة حتى بطريقة الغرب الذي يعتمد الحرية في ممارسة الجنس، وهذا مختلف تماماً عن بيع الجنس أو مقايضته، وحملة "مي تو" عرّت المجتمع الغربي ، وبدأت بوضع قوانينه على المحك، لكنّ الوضع لدينا مختلف، فالتحرّش هو حق مشروع للرّجل، وإذا كان الرّجل مديراً، فعلى الموظفة أن تبتسم له إن تحدث لها عن جمال صدرها، أو مؤخرتها، هي ترغب أن تعيش، ولو بقي الأمر عند هذا الحدّ قد يبدو طبيعياً، لكن لو تطوّر أكثر قد تصبح الموظفة نائبة المدير، وصديقة الزوجة، والأطفال.
لم أكتب هذا الموضوع عبثاً. أرغب في لفت النّظر إلى الثقافة التي جعلت قيمنا تنهار، فعندما يسيطر على الأعمال الفنيّة والأدبية أشخاصاً وصلوا ببيع جسدهم ، أو فكرهم، أو عن طريق سلطتهم، وأموالهم فإن انهيار ذلك المجتمع لا يكون مفاجئاً، وهذا هو الحال في سورية اليوم. انهار المجتمع بانهيار القيم التي تحكم الفئة التي تسيّر المجتمع، مما أصاب الشباب بازدواجية ، يسألون أنفسهم: هل قيم أهلنا تتناسب مع العصر؟ وما المانع أن نصل، ولو عن طريق البيع؟ ألا يمكن أن تكون القيم الإنسانيّة قد تغيّرت؟