الحبّ في قصص الحبّ



نادية خلوف
2017 / 12 / 22

أجمل قصص الحبّ تلك التي لا تنتهي بالزواج. تنتهي لأنّ الظروف المحيطة بها قد انتهت، مثل حبّ المراهقة، والحبّ الأوّل، وفيما عدا ذلك فلتسقط كلّ قصص الحبّ، لأنّها مجموعة من التطبيق من هذا الطرف أو ذاك تحت هذا الاسم الجميل.
بحثت في المعجم عن معنى الحب، الله، الوطن، السّعادة، والسّلام، وكلّ تفسير وجدته يحتاج إلى تفسير آخر. عقلي لا يستوعب إلا الأشياء الحسّية، فإن قلت لي وردة حمراء قد أستحضر وردة جورية، أو شقائق النعمان. الحبّ شيء غير ملموس، وهي تلك العاطفة البكر التي لا تتكرّر أكثر من مرّة في الحياة عندما تلتصق روحان وتصبحان توءماً سيامياً لا يمكن فصلهما إلا بعمليّة جراحيّة قد لا تنجح. ذلك هو الحبّ الأوّل، وطعم القبلة الأولى، والعناق الأوّل، لا يحسب فيه حساب الجنس إلا من خلال ذلك الالتصاق الروحي الذي يعطي الإذن للجسد بالتحرّر من القيود حتى لو كانت النتيجة هي القتل تحت اسم جريمة الشّرف. إنّها حرية الروح، والجسد.
الحبّ عارض استثنائي. يأتي دون أن تشعر بالحاجة له، أو الرغبة فيه. لا يستأذن، ولكن لو انتهى الحبّ لا تنتهي الحاجات والرّغبات، نحن نحتاج الجنس كما نحتاج الطعام لذلك نبتكر أسماء لحاجاتنا تحت اسم الحبّ، وليس خطأ أن يكتب زوج لزوجته التي- ربما يتمنى لو لم تكن زوجته-، حبيبتي أنتِ إلى الأبد. هو فنّ المجاملة، وهو ضروري لاستمرار الحياة، لكنّه في الحقيقة لا يمتّ إلى الحبّ بصلة. هو علاقة أراد طرفاها لها الاستمرار بطريقة إيجابية، أو هو عادة ، وربما إدمان كالتدخين مثلاً.
سوف أستعرض مؤسسة الزّواج السّورية، وليس مهمّاً أن نقارنها بالمؤسسات الغربية أو العربية. لست معنيّة بالمقارنة. هي مؤسسة في أغلبها فاشلة سواء لطرف الحبّ، أو للمجاملة الودّية التي تدفع الحياة نحو الاستمرار، وإذا كان الطلاق قد وجد لحلّ مشكلة، فإنّ الطلاق في سوريّة يعقّد المشكلة الأساسيّة التي هي النفور العاطفي بين الزوجين، وبخاصة نفور الزوج من زوجته، ويجعل مصير الأطفال على كف عفريت، فالأطفال يحتاجون إلى أبوين، وليس إلى نفقة تقدّم لهم بالقطّارة فيما لو قدّمت.
أرغب أن أستشهد بحديث عن البخاري ومسلم نقلاه عن أبي هريرة، وسوف أستعمل بدل كلمة "تنكح" جملة" يتم الزواج"، لأنّ لفظ النّكاح يحمل الإهانة للمرأة، وعليه يكون حديث البخاري: " يتزوج الرّجل من المرأة لأربع: مالها ،وجمالها ،وحسبها ودينها"
ولا نعرف مدى صحّة الحديث بعد أن أفتي نعدم صحّة أحاديث البخاري ومسلم، والافتاء يأتي دائماً بهمس من السّلطان، كما أفتي مؤخراً، ومن السّعودية بأن الحجاب غير مفروض على المسلمات، وهو خاص بنساء النبي. أيّاً كان الإفتاء فإنّه يمكنننا اعتبار الحديث من الأدب الديني، أو على الأقل الأدب الشّعبي الذي هو حسب تعريفات متعدّدة :" هو أدب عامي تقليدي شفهي ،مجهول المؤلف ،المتوارث جيلا بعد جيل" وحتى عندما يكون صحيح البخاري ليس صحيحاً كمرجع ديني هو صحيح كمرجع أدبي لمرحلة من التّاريخ، وفق هذا الكلام. إن المقياس واضح، ويمكن تطبيقه على الحالة السّورية، وبخاصة الحالة التي تفصح عن نفسها أنها علمانيّة، وهي تطبّق هذا الأدب الشفوي في الزواج. وتكون الأولويّة فيه للمال.
أن هذه الأشياء هي مقاصد الناس في الزواج ، المال أوّلاً ،ومنهم من يطلب الحسب الذي يعني المال، ومنهم من يتزوج المرأة لدينها، وهذا الشخص غير موجود، فقد ثبت أنّه كلام لا ينطبق على الواقع، ولو استبدلنا كلمة الدين بالقيم، أو الأخلاق، فإنّ الكثير من الرّجال السوريين يتزوجون صاحبة الأخلاق، ويعشقون أخرى وفي الكثير من الحالات تكون من بنات الهوى.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي قال " فاظفر بذات الدين تربت يداك " أما معنى تربت يداك فلا أحد يعرف معناها. كما لم يعرف أحد معنى تعبير ويل أمّه! وأما أن يظفر بذات الدين فقد وضعت من أجل تعزية النساء اللواتي لا يملكن المال، ويتمسّكن بالأمير متناسين أن قصّة ساندريلا العالميّة لم تحدث على الواقع.
أغلب السّوريين من جميع الطوائف والملل يأخذون بهذا الحديث وحسب الترتيب الذي أتى به، فلو كان الزّواج تقليدياً. تتشاور العائلة حول فتاة تنتمي لعائلة غنيّة، وإن كان" حبّاً" فإنّ الرّجل يبحث عن صاحبّة المال، ويستمرّ الحبّ إلى أن تأخذ وراثتها بعد وفاة والدها، وتصرفها، وفيما بعد يكون له حديث آخر.
أرغب أن أورد مثالاً هنا عن قضّية دعوى نفقة، وحضانة. تنازلت المرأة عنها طوعاً:
كانت موكّلتي في الثانية و العشرين من عمرها عندما أحبّها رجل في الخامسة والعشرين. قالت قبل أن تبدأ بحديثها: أرغب أن أقول لك أنّني تزوجته على اسم عائلته فقد كان يقال عنها أنها غنيّة وأصيلة، لكن بعد الزواج لم يكن الأمر كما توقّعت " طلع اسم كبير على ضيعة خرابة" تصوّري أنّني لم أستلم مرّتبي ولا مرّة . هو كان يستلمه، وعندما أرغب في شراء شيء علي أن أتسوله منه. قد تسألين: ولماذا قبلت؟ وهو سؤال أمّي الدّائم. قبلت لأنّني لم أستطع الحصول على حقّي بالدّخل بالطرق السّلمية، ونحن في مجتمع صغير نراقب بعضنا البعض. خفت أن يتشفى الأقارب بي لو حدث طلاق، وقلت في نفسي: الأفضل أن يبقى ولو ظلاً ، وتحاشيته، واستمرّ في غيّه. أصبح يلقي عليّ نكتة الصّباح حيث يسخر كوني لا أضع العطور الفرنسية، ويمتدح من يعاشرهنّ من الداعرات فيقول رائحتهن لذيذة، وليست رائحة محشي، وأخيراً قال لي صراحة أنّه لا يرغب بي لأنني أحمل طاقة سلبية- ربما شاهد هذا المصطلح على التلفزيون. هو لا يقرأ ولا يكتب منذ أن أنهى الجامعة -، وأرسل لي ورقة طلاقي. إنّني نادمة لأنّني أهنت نفسي، فقد كنت أعتقد أن مصلحة أطفالي تقتضي أن يكون لهم أب يشعرهم بالأمان. أنا نادمة على شيء واحد. لماذا لم أفضحه حول الرّاتب، وحول علاقاته المشبوهة؟ صحيح أنه يوحي بأنّه إنسان نبيل لأنّي لم أتحدّث عنه بالسوء، لكن كان علي أن أهاتف أمّه وأخته وأشرح لهما عنه، مع أن العائلة متشابهة في الشّر.
قلت لها: توقّفي!
هل لديك قضّية؟
-لديّ قضايا. أرغب بتعويض عن شبابي، وجمالي ومالي.
-لكن لا وجه قانوني لهذا.
-هل تقصدين أنّ القانون لا يحمي المغفّلين، و كنت مغفّلة. كانت أمي تقول لي: مظهرك كمظهر الخادمات، لماذا تتساهلين بمالك؟ لماذا لا تشترين الثياب، والذهب.
-هل تحبينه؟
-أبداً. قبل أن أتزوجه لم أحبّه، وكنت أسميه "الخسيس" بيني وبين نفسي، لكنّني صراحة صعقت عندما أرسل لي ورقة الطّلاق، بصقت على نفسي قلت لها: أنت لا تحترمين نفسك يا هذه. كان عليك أن تطرديه منذ اللحظة الأولى.
نظرت إليّ وقد بدا عليّ الملل، لدي موعد علي ان أذهب إليه . خبرّتُ اعتذرت عن الموعد، شكرتني، وطلبت ان أستمع على قصّتها إلى النهاية، ولا جديد في قصتها. أغلب المطلقات اللواتي أتين إلي هنّ من النساء المنتجات، وأغلبهنّ فرّطن بالمال أمام إغراء الزوج وكلامه المعسول، إما استولى على المنزل، أو على الذّهب، أو على المهر، وأغلبهنّ جميلات.
أنهت حديثها بعد ساعتين من الزيارة، وقالت لي: سوف أدرّب ابنتي على أنّ الزواج ليس ضرورياً. يأتي من تلقاء نفسه في أيّ عمر، وسوف أدعها تجرّب الحياة، وتحترم نفسها.
قلت: لا تستطيعين. المدرسة، الشارع، التلفزيون، والمجتمع هم المعلم وابنتك هي ابنة البيئة أيضاً.
قالت: لن أبقى في هذا المكان. سوف أرحل إلى العاصمة، وقد قدمت طلب عمل في الإمارات.
نهضت عن الكرسي وقالت: لن أقيم دعوى نفقة. لديّ خطّة أخرى.
بعد خمس سنوات التقيت بها في الإمارات، كانت برفقة صديق يبدو عليه ليس عربياً. عرّفتني عليه وقالت أنه إيرلندي. سألتها: هل سوف تتزوجينه؟
قالت :هل جننتُ؟ وماذا يلزمني الزّواج؟ أنجبت الأطفال، وربيتهم، ورحل والدهم "أمير موناكو" إلى المزبلة، ولا أؤمن أن ذلك العقد في المحكمة سوف يعطي الشرعية لعلاقة نقيمها. مازحتني قائلة: أعرف أنّك لا توافقين على رأيي. تحتاجين لغسل دماغ كي تكتمل حريتك. أنت من النوع المحافظ. على كل حال سوف أرى إن كنت سوف أتزوجه عندما أزوره في إيرلندة.
-وكيف سوف تحلين موضوع الدّيانة؟
-سوف أذهب معه إلى الكنيسة، وعندما يكفّ عن حبّي سوف أتزوج بيهودي، وأذهب معه إلى الكنيس.
لم أعد أعرف عن المرأة شيئاً، ولا أعرف ما جرى معها، لكنني أفكّر دائماً بما قالته لي بأنّني أحتاج لغسل دماغ، وجميع موكلاتي الذين نصحتهم بعدم المساهمة في دمار العائلة كنّ يستغربن كلامي، وقد نصحت إحدى القريبات بعدم الطّلاق، فأثارها كلامي، ولم أكن أعرف أن زوجها هو الذي تخلى عنها. كانت تشيع أنها هي من تخلى عنه. نعم هي على صواب، فأنا متحرّرة في المظهر، ولكن أوصي أولادي أن يحافظوا على الحياة الزوجية، يبدو أن الأمر عبثي. عندما يرغب الرجل السوري بالمغادرة يفتعل الخلاف ويخلق المبرّر، ولا زلت أعتقد أنه ربما يمكن حلّ الأمر بالإقناع والحوار، مع أنّ التّجربة العمليّة أثبتت عكس ذلك، ربما تكون هذه بساطة أقع فيها دائماً، أو أنّني أخلط بين الأمنية والحقيقة، لأنّ كل القصص التي مرّت عليّ كان الزوج قد وجد امرأة خائنة مثله، وفيما بعد افتعل الخلاف.
وفي إحدى المرات وبعد المأساة السّوريّة .كنا نشاهد صوراً مباشرة للمهاجرين على فضائية. كانوا يمشون على الأقدام من اليونان إلى أوروبا. قالت ابنتي: انظري. لقد ألبس الرّجل حذاءه لزوجته وحمل الطّفل، وأعطاها سترته أيضاً. أتمنى لو كنت التقيت برجل كهذا. قلت لها كيف تقولين ذلك وأنت متزوّجة؟ قالت أقول رأيي. تزوجت من أجلك، ومن أجل المجتمع ، وبغضّ النظر. هل رأيت مظهراً إنسانياً معبّراً أكثر من ذلك؟
حتى أنت يا ابنتي تعتقدين أنّني أحتاج لغسل الدّماغ!
نعود إلى الحبّ الذي خرجنا عن موضوعه، والذي يتلخص في موقف ذلك الرجل من زوجته وأولاده، فهو في النهاية قدّم على الملأ حالة إنسانية عميقة. حالة التعاطف الإنساني، أؤيد ابنتي. ليتني التقيت أنا أيضاً برجل يعمل طوال النهار ليؤمن رغيف الخبز، يتعاطف معي عندما يعود إلى المنزل. الحبّ ليس بدلة رسميّة وربطة عنق، ولا ألقاب، ولا شهادة جامعيّة. هو تلك اللحظة التي يكبرفيها الرجل في عينيّ الأنثى وقلبها، وتعطي حياتها مقابل لحظة كهذه، ولكن هل أحتاج إلى غسيل دماغ؟ بالطّبع نعم، فثقافتي من ضمن ثقافة العامّة، واستسلامي للقدر في بعض الحيان كان مريعاً، وذلك الخوف الذي كبّلني بقيوده أعمى بصيرتي عن بعض الأمور. ليس أنا فقط من يحتاج إلى غسيل دماغ. الكثير، والكثير جداً، من النّساء، والرّجال، فهناك أدران ترسّبت فينا نقدّسها كقيم . علينا أن لانغسل دماغنا بالماء فقط، بل لابأس أن نستعمل البرسيل أيضاً.