كتب اثرت فى حياتى تائهون فى استراليا



مارينا سوريال
2017 / 12 / 31

بعد عشر سنوات من الآن، ستجلس آغاثا بجوار سرير كارل في المستشفى وتشاهد أيامه الأخيرة في الحياة تنقضي أمام عينيها. وستكون ميلي في بلدٍ آخر، لذا سيفوتها كل هذا، ولكنها ستعود لتحضر جنازته. وفي تأبينها لها، ستقول: كارل هو صديقي الحميم، وستتعمد استخدام صيغة المضارع في كلامها. أما آغاثا، فستفارق الحياة بعد كارل بثلاثة أشهر. وستعثر عليها ميلي ميتةً على كنبتها. وستعتقد ميلي أنها تبدو حزينة وسعيدة في آن. وفي نهاية المطاف، ستموت ميلي أيضاً كما تموت كل الكائنات مخلفةً وراءها زوجاً سابقاً وولدين بالغين. سيأتي موتها جراء حادث مفاجئ وسريع. ولن تكوّن جملتها الأخيرة فكرةً حقيقيةً على الإطلاق... ولكنهم في هذه اللحظة لا يعرفون كل هذا بعد. لأن هؤلاء الثلاثة في الوقت الحاضر؛ ميلي وآغاثا وكارل، منطلقون في طريقهم للعودة أدراجهم من حيث أتوا

“أحيانًا تكون كلمة آسف هي الشيء الوحيد الباقي لنقوله”
“الجميع يعرفون كل شيء عن ولادة الإنسان، ولكن لا أحد يعرف شيئًا عن موته”
كان الكلب رامبو، كلب بطلة قصتنا ميلي، الكائن الأول الذي دونته في لائحة كائناتها الميتة. فعندما عثرت عليه إلى جانب الطريق صباح يومٍ غائمٍ مكفهرٍّ، بدت فيه السماء كأنها توشك أن تنطبق على الأرض والضباب يكتنف جسده المهشّم كالشبح، نظرت إليه ووجدت فكيه وعينيه مفتوحين على وسعهما كأنه يهم بالنباح. أما قائمته الخلفية اليسرى، فقد بدت ممدودةً في اتجاه غريب ليس من عادته أن يمدها إليه. راح الضباب يرتفع من حوله شيئاً فشيئاً، وتراكمت السحب في السماء، فتساءلت ميلي إنْ تحوّل كلبها إلى مطرٍ.

في اللحظة التي دخلت فيها إلى البيت وهي تجر رامبو الذي وضعته داخل حقيبتها المدرسية، خطر ببال والدتها أن تحدثها عن الطريقة التي تمضي بها هذه الحياة.

رفعت صوتها لتغطي على صوت المكنسة الكهربائية وهي تكنس غرفة الجلوس وقالت: لقد ذهب إلى مكانٍ أفضل.

- مكانٍ أفضل؟

ماذا؟ نعم، إلى النعيم، يا حبـي، ألم تسمعي به؟ ألا يعلمونكم أيّ شيء في تلك المدرسة اللعينة؟ ارفعي ساقيك! إنه نعيم الكلاب حيث يحصلون على بسكويت الكلاب إلى الأبد، ويمكنهم قضاء حاجتهم حيثما يريدون. حسناً، أنزلي ساقيك الآن. قلت لك أنزلي ساقيك! نعم، إنهم يقضون حاجتهم ويتناولون بسكويت الكلاب، وهذا كل ما يفعلونه، فهم يأكلون ويركضون في الأنحاء ويمرحون ويستمتعون بأوقاتهم.

استغرقت ميلي لحظةً لتستوعب مغزى الكلام، ثم سألت: لماذا إذاً يضيّعون وقتهم في العيش هنا؟

- ماذا؟ حسناً، يجب عليهم أن يستحقّوا هذا النعيم. ولا بدّ لهم من البقاء هنا فترةً من الزمن إلى أن يتم اختيارهم للانتقال إلى مكانٍ أفضل.

- إذاً، رامبو الآن انتقل إلى كوكب آخر؟

- حسناً، نعم، نوعاً ما. أعني... ألم تسمعي فعلاً عن النعيم؟

- هل يمكنني الوصول إلى كوكب رامبو الجديد؟

أطفأت أم ميلي المكنسة الكهربائية وأمعنت النظر إلى ابنتها، ثم قالت: فقط إن كنت تملكين مركبةً فضائية. هل لديك مركبةٌ فضائية؟

أطرقت ميلي، وأجابت: كلا.

- حسناً، إذاً لا يمكنك الوصول إلى كوكب رامبو الجديد.

بعد أيامٍ عدة، اكتشفت ميلي أن رامبو لا يعيش في كوكب جديد بكل تأكيد، بل إنه في الواقع قد دفن على عجلٍ في حديقتهم الخلفية تحت بعض أوراق الصحف. رفعت ميلي الصحيفة بحرص، ورأت رامبو وقد تحوّل جيفةً منكمشةً ومتآكلة، وبدأت تتسلّل إلى هناك كل ليلةٍ لتجلس إلى جانب جيفته بينما هو يتحلل شيئاً فشيئاً متحوِّلاً إلى لا شيء.

أما ثاني كائن من كائناتها الميتة، فقد كان رجلاً مسنًّا لقي حتفه بحادث تصادم. فبعد أن صدمته السيارة، نظرت إليه وهو يطير في الجو، وظنت أنها رأته يبتسم. سقطت قبعته على قمة شاخصة مرورية بينما تراقص عكّازه حول مصباح الشارع. وبعد ذلك، تصدّع جسده على السياج الحجري. شقت طريقها عبر سيقان الناس المتجمهرين حول الرجل وعلامات الاستفهام تعلو وجوههم، وركعت إلى جانب وجهه، ونظرت بعمقٍ إلى عينيه. فعاود الرجل النظر إليها بجمودٍ كأنه مجرّد رسمٍ بقلم الرصاص. مرّرت أصابعها على تجاعيد وجهه متسائلةً عن سبب وجودها.

بعد ذلك، رفعها أحدهم ليبعدها عنه، وطلب منها أن تغمض عينيْها لأنها مجرد طفلة. فسارت إلى البيت بمفردها كل الطريق وهي تفكر في أن الوقت ربما قد حان لتسأل والدها عن فردوس البشر.

هناك، يا قزمتي الصغيرة، فردوس، وهناك جحيم. فالجحيم هو المكان الذي يذهب إليه كل الأشرار مثل المجرمين وأفراد العصابات ومفتشي ركن السيارات. أما الفردوس، فهو المكان الذي يذهب إليه الطيبون مثلك ومثلي ومثل تلك الفتاة الشقراء الجميلة التي تظهر في برنامج الطبخ التلفزيوني ماستر شيف.

سألت ميلي والدها: إلى أين تذهب إن كنت صالحاً وسيئاً في الوقت نفسه؟

- ماذا؟ لا أعرف، ربما إلى متجر إيكيا؟

- هلا تساعدينني على صنع مركبة فضائية.

- انتظري، يا قزمتي الصغيرة. هل يمكننا أن ننهي هذا الحديث أثناء الفاصل الإعلاني التالي.

سرعان ما لاحظت ميلي أن كل شيء من حولها يموت. الحشرات والبرتقال وأشجار الزينة والبيوت وصناديق الرسائل والقطارات والشموع والمسنّون والشباب ومتوسطو الأعمار. ومع ذلك، فلم يدر في خُلْدِها أنها بعد أن سجلت سبعة وعشرين مخلوقاً في كتاب الأموات؛ عنكبوت وطير وجدّتها وقطة الجيران غيرترود من بين كائنات أخرى كثيرة، أن والدها سينضم إلى هذه المخلوقات الميتة أيضاً، وأنها ستدون اسمه إلى جانب الرقم ثمان وعشرين بأحرفٍ ضخمةٍ تحتل مساحة صفحتين: والدي، وأنها ستظل لبعض الوقت لا تعرف ما تفعل باستثناء التحديق إلى الأحرف، إلى أن تصبح عاجزة عن تذكّر ما تعنيه، وأنها ستفعل هذا على ضوء المصباح الكشاف جالسةً في الممر بجانب غرفة نوم أبويها وهي تصغي إلى صوت أمها التي تتظاهر أنها نائمة.

أول يوم من أيام الانتظار

عندما كانوا يلعبون لعبة «نقطة لنقطة»، تعوّدت ميلي دائماً أن تؤدّي دور النقطة الأولى بينما تؤدّي أمها دور النقطة الثانية وأبوها الثالثة. فكان هناك خط يخرج من بطن النقطة الأولى ويلف نفسه حول النقطة الثانية ثم الثالثة ثم يعود من جديد ليشكّل مثلّثاً. وكانت ميلي تجري في أنحاء البيت وخصلات شعرها الحمراء المجعّدة تتقافز حول رأسها، بينما يتخذ المثلّث بينها وبين والدها طريقاً لولبياً حول الأثاث. فإنْ قالت لها أمها: هلا تكفّين عن هذا، يا ميليسينت. زمجر المثلّث متحوّلاً إلى ديناصورٍ عملاق. وإنْ قال لها أبوها: تعالي واجلسي بجانبـي، يا قزمتي، التفّ المثلّث على شكل قلبٍ ضخمٍ نابض: بااااا بوووم باااا بوووم، هكذا كانت تهمس وهي تتحرك بارتباك على نغمته ثم تندس بين النقطة الثانية والثالثة على الأريكة. ويمسك النقطة الثالثة بيد النقطة الأولى ويغمز لها بعينه بينما تضيء الصور التي تومض من جهاز التلفزيون وجهه.

في يومها الأول من أيام الانتظار، تقف ميلي حيث تشير لها والدتها إلى جانب رفّ الملابس الداخلية النسائية مقابل مانيكان يرتدي قميص هاواي مزركشاً. تقول أمها: سأعود في الحال، فتصدّقها ميلي، ترتدي النقطة الثانية حذاءها الذهبـي، ذلك الذي يجعل صوت وقع خطواتها كدوي الانفجارات. فتمشي نحو قسم العطور وتتخطّى الملابس الرجالية ثم تتوارى عن الأنظار. وينشدُّ الخط بين النقطة الأولى والثانية، فتراقبه ميلي وهو يصبح أرفع وأرفع إلى أن يتحول إلى مجرد خدشٍ صغيرٍ في الهواء.

من الآن فصاعداً، ستنطبع في ذاكرة ميلي صورة أمها التي تبتعد وتصبح أصغر فأصغر. وستعاود هذه الصورة الظهور في مخيّلتها في أوقاتٍ مختلفةٍ عبر مسار حياتها: عندما تقول شخصية في أحد الأفلام: سأعود في الحال، وعندما تنظر إلى يديها وهي في العقد الرابع من عمرها ولا تعود تميّز أنهما جزء منها، وعندما يكون لديها سؤال غبـي ولا تستطيع أن تفكر بأي شخص في العالم لتطرحه عليه، وعندما تبكي، وعندما تضحك، وعندما تأمل حدوث شيء ما، وعندما تتأمّل الشمس وهي تختفي داخل الماء، سيتملّكها شيء من الفزع من دون أن تدرك السبب في ذلك. وستجعلها الأبواب الأوتوماتيكية لمراكز التسوّق دائمة القلق. وعندما يلمسها صبـي بشكل ملائم للمرة الأولى في حياتها، ستتخيّله يتلاشى في الأفق بعيداً، بعيداً عن متناول يدها. ولكنها لا تعرف أيًّا من هذه الأمور بعد
اننا ضائعون فى تلك البقعة من الارض احيانا كثيرة لاهم اسماء المدن التى نحيا فيها فالكل يعيش نفس الخواء ولا يدرى لما كل هذا ..