سابق الريح .. قصة روسية للأطفال تؤكد عالمية القيم الإنسانية



صلاح شعير
2018 / 1 / 20

قصة "سابق الريح" هي قصة روسية للكاتب أوشينشكي، وتناسب المرحلة السنية من 9 : 12 سنة، وهي من ضمن القصص المنشورة بمجلة قطر الندى المصرية الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عدد يناير 2018م.

والقصة من ترجمة د. سامية توفيق، والتي تثبت لنا بحسن الصياغة أن الترجمة قبل أن تكون فنا من الفنون التطبيقية، أو علما من العلوم فهي أيضا موهبة وإبداعًا لا يقل عن الإبداع الأدبي، فالترجمة المتميزة ليست مجرد تحويل كلمات من لغة معينة الى لغة أخرى، اعتمادًا على المعاجم اللغوية، إنما هي عملية فنية، تظهر فيها روح المؤلف الخلاقة لتغلف النص بحياةٍ نابضة.

وقد أدي التمرس لدى الكاتبة في التعامل مع أدب الطفل الروسي إلى صقل الموهبة، ولذا تمكنت بجدارة من فك شفرات النص الأدبي، فمن خلال إتقان اللغة نقلت لنا تفاصيل النص على الورق كاملة، وكأن المؤلف عربيًا، حيث جاءت القصة مكتملة من الناحية الفنية، ودلل التماسك في بنية النص ووضوح المعنى وبساطة الأسلوب على كل ذلك، ومن ثَمَّ كانت الصورة السردية شديدة الوضوح.

ملخص القصة:

تدور أحداث قصة "سابق الريح" في مدينة روسية اسمها "فينيتا" ، حيث تعيش هذه المدينة بدون حاكم، وتخضع للعرف الشعبي عند ظهور أي مشكلة، وفي أي وقت من أوقات الأزمات يقرع الجرس الكبير فيتجمع الناس للبت في الأمر.

يوجد بالمدينة تاجر يدعى "أوسيد" يمتلك حصانًا قويًا سريعًا،شجاعًا اسمه "سابق الريح" وكان يصطحب هذا الحصان في كل مكان يذهب إليه، وفي ذات يوم هجم اللصوص على "أوسيد" وكادوا أن يقتلونه، فإذا بالحصان يخلصه من الأسر، ويواجه رماح القراصنة مستهينًا بالموت، ويضربهم بحوافره القوية فيسقط نصفهم على الأرض ويصاب الباقين بالذعر فيفرون، بيد أن هذه المعركة أدت إلى إصابة "سابق الريح" إصابات خطيرة، وعاد "أوسيد" سالمًا، وتعهد للحصان بأن يراعاه طوال حياته، ولكنه ترك رعياته للعامل فأهمل علاجه، وبعد أن أصيب الحصان بالعمى بسبب جروح المعركة حنث بوعده، وطرده من الأسطبل، فخرج شريدا، وظل يبحث عن الطعام من شدة الجوع، وعندما اقترب من حبل الجرس الكبير؛ ظنه مربوطًا بحزمة القش، فأخذ يجذبه بشدة، فخرج أهل المدينة على دقاته العالية، وعرفوا الخبر، فحكموا على "أوسيد" بضرورة الوفاء بالعهد، وعينوا شخصًا على نفقته لرعاية الحصان طوال حياته.

يتضح لنا من هذا العرض أن القصة تراعي خصائص الطفولة، وتتدرج في السرد الدرامي بهدف الولوج إلى ذروة الحدث، وسوف تُشبع الحبكة المحكمة احتياجات الطفل في المعرفة في إطار مغلف بالمثل، والقيم.

وعبر طرح النماذج السلوكية المتناقضة، والمتأرجحة بين الخير، والشر، سوف يستخلص الطفل بنفسه النتائج دون شرح، أو تفسير، ومن ثَمَّ يسهل عليه تكوين الانطباعات الإيجابية، أو السلبية بنفسه، وهذا الأسلوب يجعل الصغار يتعلمون بالمحاكاة، لينحازون في النهاية نحو كل ما هو نبيل، وينفرون من كل ما هو قبيح، ويمكن لنا سويًا أن نستخرج بعضًا من المعايير الأخلاقية، والدينية، والاجتماعية من داخل النص الأدبي كما يلي:

1- قيمة التعاون:

تُعد هذه القيمة من القيم الاجتماعية الهامة، وقد تمثلت ثمرة التعاون في سرعة تجمع أهل المدينة عند الخطر؛ لنجدة الملهوف؛ لأن النمط السائد في مجتمع القصة هو حل المشاكل الاجتماعية عبر قواعد عرفية نافذة، تحكم سلوكيات أهل المدينة بحزم، فقد أخبرنا التاريخ أن العرف كان من مصادر التشريع الرئيسة قبل ظهور عصر القانون، وإن كانت منظومة الأعراف الاجتماعية قد تراجعت حاليًا كمصدر ثانوي للتشريع، إلا أنها مازالت قائمة من الناحية العملية، ولها تأثير كبير في مواجهة المشاكل، ومن أبرز الأدوار للعرف هو التصدى للنزاعات، والخصومات بين البشر، من إجل إقناع المعتدي بالتراجع عن ظلمه، وعادة ما يستجيب الأفراد للقواعد العرفية، لأن التعاون من أجل تحقيق الأمن الاجتماعي هو الضمان الوحيد للاستقرار بين الجميع، وهذا التعاون الشعبي ظهر بالقصة عندما أقنع الجميع "أوسيد" بضروة رعاية الحصان طوال الحياة، على اعتبار أن جزاء الإحسان هو الإحسان.

2- الوفاء بالعهد:

تناولت القصة فكرة الوفاء بالعهد عبر إبراز النقيض، المتمثل في النكران، فلم يقابل التاجر "أوسيد" حصانه الوفي بالعرفان، حيث تنكر لفكرة رد الجميل، وإذا كان الوفاء بالعهود قد استقر في وجدان المجتمع على أنه من الصفات الأخلاقية والإنسانية المحببة للنفس، فإن السلوك المُشين الذي قام به التاجر كان عكس منظومة الأنساق الحاكمة لمجتمع مدينة "فينيتا" البدائية، أو من منظور الدولة الحديثة حاليا، وأيضًا ضد تعليمات الأديان بصفة عامة، لقد تم عرض قيمة الوفاء في القصة بطريقة غير مباشرة، عن طريق إبراز السلوك المُختل للتاجر، وعبر صورة تثير التعاطف مع المظلوم نجحت القصة في إيصال المعنى، وهذا من شأنه تقوية إيمان المتلقي الصغير بفكرة الوفاء بالعهد كقيمة، وبالتأكيد سوف ينعكس ذلك على بناء ثقافة الصدق، واحترام الكلمة، وسوف تسفر النتائج حال شيوع هذه الثقافة عن تقوية الروابط الإيجابية بين البشر، وهذه المعاني من أفضل أدوار أدب الطفل في بناء شخصية الإنسان فوق ظهر الأرض.

3- الرفق بالحيوان:

طرحت القصة قيمة الرفق بالحيوان، وهي قيمة دينية كبرى، والدين الإسلامي الحنيف من الأديان السماوية التي حثت البشر على الرفق بالحيوان، وجاء ذلك في نصوص القرآن الكريم في قوله تعالى: "الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّىٰ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَىٰ"( سورة طه: آية 54).

تستحق الحيوانات ككائنات حية سخرها الله لخدمة بني آدم كل الرعاية، وأيضًا في السنة النبوية الشريفة، قد نهى الرسول الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- عن ضرب الحيوانات، وإيذاءها، وتحريم تعذيبها، ونهى عن تحميلها بما يفوق قدرتها، أو استخدامها هدفاً للصيد بهدف قتلها فقط، وقد بشرت السنة المطهرة الإنسان الذي يحسن معاملة الحيوانات ويرفق بها، ويحسن إليها، ويعتني بها، ويطعمها ويسقيها، ويحفظ حقوقها، بعظيم الأجر، وحسن الثواب.

لقد كان الواقع العملي في فناء القصة بعيدًا عن تعاليم الأديان، ومنطق الرحمة، فقد قام التاجر الباغي بظلم الحصان بالتدرج، في البداية أهمل علاجه، عندما أُوكل إلى عامل كسول مهمة الرعاية، ثم قام بعد ذلك بتخفض الطعام من ثلاث وجبات إلى وجبة واحدة، ثم حرمان الحصان من الطعام، ثم طرده، وكل هذا ضد فكرة الرفق بالحيون.

4- العدالة الناجزة:

لا يمكن لمجتمع ما أن يستقر دون أن تتحقق العدالة؛ لأن الفطرة الحياتية تدعم هذه القيمة، فبينما كان الحصان طريدًا لا يري بعد أن أصابه العمى، تحرك يطلب الحياة من رب الكون معتمدًا على ذاته، فلم تمنعه العاهة المستديمة التي ألمت ببصره عن العمل، والبحث عن الرزق، فمن أجل استمرار الحياة عليه أن يسعى، فالكل فوق هذا الكوكي مطالبًا بالسعي على الرزق بعيدًا عن ثقافة التواكل، ولذا خرج "سابق الريح" يطلب الحياة بالعمل، وعلى قدر طاقته المحدودة أخذ يتحسس كل ما فوق الأرض لعله يجد ما يقتات به، ونظرًا لفقدان الرؤية فقد ظن الحبل المربوط بجرس المدينة الكبير هو رباط موصول بحزمة القش، فجذبه بقوة حتى يهرب من الجوع الشديد بالتهامها، وبقدر هذه القوة كانت أصوات الجرس عالية، ولم تفزعه الأصوات المتتالية، لأن صوت الموت القادم من خلف الجوع يدفعه للتمسك بالحياة، كانت قضيته هي الطعام، ولم يهدأ إلا على تجمع أهل المدينة يُنصبون أنفسهم كقضاة فوق منصة العدالة الفطرية، فحق الطعام مكفول لكل الأحياء، وعدم الوفاء بالعهد خسة تتنافي مع قيم العدل السامية؛ فجاء الحكم ملزمًا ومشمولًا بالتنفيذ العاجل، حيث ألزمت الجماعة بمدينة "فينينا" المارق نحو الجور إلى الرجوع نحو العدل.

5- وحدة القيم الأنسانية:

يتضح مما سبق عرضه أن القصة تسير في اتجاه الأدب النظيف شأنها في ذلك شأن أدب الطفل بصفة عامة، حيث يتميز هذا النوع من فنون الكلمة المكتوبة، أو القول بكل ما هو إيجابي، حيث يتم صياغة الألوان الأدبية الموجهة للصغار عبر بوابة المتعة والقيمة، وهذا التلازم كسمة بارزة في أدب الطفل يؤكد أن منظومة القيم الإنسانية واحدة في كل بقاع العالم.