الثقافة الشعبية المغربية وإنتاج التصورات: صورة المرأة نموذجًا



خليل الناجي
2018 / 1 / 23

لكل مثقف كيفما كان نوعه هدف واحد ووحيد، وهو أن يترك بصمته في العالم عن طريق ما قد نسميه بـــ:"إحداث الأثر". إحداث الأثر هذا لا بد أن يكون إيجاباً وإلا ما الفائدة من ذلك؟ التأثير على المجتمع، صقل الأفكار، وضع أنساق فكرية، أو غيرها من نواتج الثقافة. لكن قبل كل هذا لا بد أن يختار طريقته لتمرير أفكاره، والوسيلة الممكنة لتحقيق ذلك واحدة من الإثنتين: إما أن يكون مثقفا متعاليا ينظر من السماء لمن يعيشون في القاع المزدحم، أو أن ينزل من برجه ليقوم بملامسة معاناة جميع أفراد وطبقات المجتمع كاملة.

هنا بالتحديد، في مجال الخوض داخل الثقافة الشعبية، أختار نموذج الثقافة المغربية باعتباري جزءا منها. أعرف ما يحصل داخلها، أعرف ما يقال وما يسكت عنه، ما يظهر وما يخفى، ما يقدم نفسه باعتباره ضحية وما يراه المجتمع جلادا. ومن بين أهم الأمور التي نلاحظها في الثقافة الشعبية هي كونها محكومة بالشفهي أكثر من المكتوب وخير مثال لذلك: الحْلْقَة، الحكايات الشعبية، النكت، والأمثال ... ربما قد تبدو هذه الأمور ظاهرياً وكأنها "بريئة" تتوخى فقط التسلية، لكن في حقيقة الأمر يمكن عن طريقها تمرير العديد من القيم والمبادئ والأخلاق عبر تلك المقولات الشعبية المتوارثة. هذه القيم والمبادئ ذاتها تترسخ بفعل الحفظ والتكرار وتستبطن داخل اللاوعي لتصبح جزءا مهما يحدد لاحقا ما يمكن تسميته بــ"روح الشعب". إذ كيف يعقل بشعب تترسخ لديه قولة عبد الرحمان المجذوب:
"سوق النسا سوق مطيار يا الداخل رد بالك يوريوك من الرباح قنطار ويديو ليك راس مالك"
"كيد النسا كيداين ومن كيدهم ياحزوني راكبة على ظهر السبع وتقول الجديان ياكلوني"
"بـهت النسـاء بـهتيـن مـن بـهتهم جيت هارب يـتـحـزمـوا باللـفـاع ويتخللـوا بالعـقـارب"
"حديـث النسـاء يونـس ويعـلـم الفـهـامـة يديـروا شركة مـن الريـح ويحسنـوا ليـك بلا مـا"
"النسـا كيتهـم مـا تنسـى ومرقتهـم مـا تتحسـى وإذا حلـفـوا فـيـك غير اهـرب بـلا كسـا"

كيف له أن يتجه إلى المرأة بحسن نية؟
لن أركز في مقالي هذا على الثقافة الشعبية عموما، ولا على مواضيعها بشكل فج. سأتجه نحو محاولة تقديم الصورة التي تحملها المرأة داخل الثقافة الشعبية من خلال نموذج الأمثال والأقوال. لطالما شكلت المرأة مادة دسمة في الموروث الثقافي العربي، وحسبنا في ذلك عديد الأبيات الشعرية التي كُتبت حولها. سواء للتغني بالجمال، أو لمدح المحاسن والمفاتن، أو للتغزل والمغازلة. لكن هذا التغزل ينحو منحى آخر في الثقافة المغربية، بحيث نجد أن الأمثال الشعبية المغربية تقدم لنا المرأة بصورة ناقصة، كائن أدنى، وينظر إليها نظرة دونية .
فما هي الصورة التي ترسم الأمثال للمرأة؟ وما هي دلالات هذه الصورة وانعكاساتها على واقع المرأة في الأسرة والمجتمع؟ وهل تختلف هذه الصورة باختلاف وضعية المرأة ودورها وسنها، أم أنها صورة عامة تلازم المرأة، وتنطبق على جميع النساء بغض النظر عن الاختلافات القائمة بينهن؟

ومن بين عديد الباحثين الذي اتجهوا إلى دراسة صورة المرأة المغربية في خطاب الثقافة الشفهية نجد: فاطمة المرنيسي، وأستاذة علم اللغة فاطمة صديقي والكاتبة عائشة بلعربي والدكتورة نادية العشيري، وغيرهن من الباحثات والباحثين. وتكمن أهمية دراسة الثقافة الشعبية حسب فوزي بوخريص في إغناء هويتنا من خلال الانفتاح على الآخر والمختلف والهامشي داخل ثقافتنا. إضافة لفهم ذواتنا وعلاقاتنا داخل إطار المجتمع، على اعتبار أن المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ليست وحدها المتحكمة في واقعنا، وإنما هناك المتغير الثقافي، وخاصة ما يرتبط بالثقافة العفوية أو الشعبية.
إن دافع التوجه إلى دراسة هذا الموضوع حسب سامية علام هو محاولة رفع وتجاوز تلك الصورة الشعبية النمطية التي تأصل للتمايز بين الجنسين في المجتمع المغربي. بل الأكثر من ذلك فإن فاطمة الفدادي ترى بأن صور ة المرأة ارتبطت بالمكر والخداع والتحايل ويقول فوزي بأن الأمثال الشعبية المغربية هي أمثال ذكورية وموجهة للذكور. إذ تطغى عليها الصيغة البطريركية في صياغتها وتداولها، حتى حين تُقال باعتبارها صادرة عن امرأة، أي عندما ينطق المثل باسم امرأة فهو خطاب موجه من الرجل إلى الرجل. إنها رسالة تحذيرية من الرجل ذو الخبرة في الحياة، المتمرس العارف بخبايا الخداع والمكر النسائية. يوجه رسالته للشاب المقبل على الزواج، أو المقبل على بداية حياة سوف تلاقيه أكيد مع العديد من النساء في جميع مراحل حياته.
من بين الأمور التي تتحدد عن طريقها صورة المرأة داخل المجتمع المغربي، بل الأكثر من ذلك، تكسبها مكانة أفضل من قريناتها داخل المجتمع هي مسألة الزواج. وهنا يقول فوزي بأن صورة المرأة المرتبطة بالزواج هي صورة مضطربة وغير متناسقة البتة. فهي أحيانا تقدم لنا المرأة بصورة جميلة جيدة، باعتبارها الكائن الذي دونه لا تكتمل الحياة "البنات عمارة الدار"، وأحيانا اخرى باعتبار أن الرهان على المرأة هو رهان على الفراغ: "دار البنات خاوية".

على الطرف النقيض نجد صورة المرأة غير المتزوجة، وربما نستشف من تسميتها "بايرة" رسالة ضمنية قبل نظرتنا على الأمثال الشعبية. إن خلاص المرأة لا يكون إلا في الزواج، هو النهاية التي لا تكون بدونه سعادة "العاتق إلى بارت على سعدها دارت". إن الزواج بمنطق الأمثال الشعبية أهم من التعلم والعمل بكل تأكيد، وكلما كان الزواج مبكرا، كلما كان الأمر أفضل "الحرث بكري والزواج بكري"، "اللي يتزوج المرا صغيرة كيحوز الخير والتدبيرة".
لكن رغم هذا فالإقدام على الزواج يعتبر عملية تتطلب العديد من التحضيرات والتدابير، باعتباره هو ما يحدد المستقبل وكيفية سيره "زواج ليلة تدبيرو عام". يقول هنا فوزي بأن الزواج امتياز بالنسبة إلى المرأة، فالرجل وحده له الحق في اختيار شريكة حياته، أما المرأة فعليها أن تقبل بالرجل كيفما كان. إضافة لأن الرجل باعتباره صاحب الامتياز يضع المواصفات التي يريد أن تتوفر في زوجته، وهنا فإن الأمثال تنصحه وتشدد على النصيحة بوصف واحد هو أن يتزوج من المرأة ذات الأصل "خذ المرا الأصيلة ونم على الحصيرة" لأن المرأة ذات الأصول سند للرجل في الأيام العصيبة ومفخرة له أمام الآخرين "إلا تتزوج تزوج الأصول ما يجبر العدو ما يقول".

بعد الزواج والإنجاب تتحول الأمثال إلى التعامل مع المرأة باعتبارها أُما. وتعتبر خاصية الإنجاب خاصية مطلوبة لدى المرأة، بالرغم من أن المسؤولية يتحملها الزوجان معاً في مسألة الإنجاب من عدمه، إلا أنه في حالة عدم الإنجاب يُقال بأن "لمرا بلا ولاد بحال الخيمة بلا وتاد" أي أن المرأة العاقر لا تستطيع الصمود أمام تقلبات الزمن، فالأولاد مثل أوتاد الخيمة، ضمانة لاستقرارها، مهما كانت قوة الظروف المعاكسة. وانطلاقا مما سبق يتضح أن وجود المرأة في بيت الزوجية لا يعني شيئا دون إنجاب الأولاد.
لكن بعد هذا كله قد تفشل عملية الزواج، قد تنتهي وبذلك تتحول المرأة إلى مطلقة. وهنا يقول فوزي بأنه يُنظر إلى المرأة المطلقة نظرة سلبية على العموم، فالمرأة مهمشة لكونها امرأة، لكنها تتعرض لتهميش مضاعف في حالة طلاقها، حيث يُنظر لفشل تجربة الزواج بالنسبة إلى المرأة كما لو أنه نهاية لها أو موت رمزي. فإذا كانت نظرة المجتمع إلى المرأة تختزلها فقط في مجرد جسد، فإن هذا الأخير يفقد حيويته ونضارته بفعل الزواج، بل وتنتهي " صلاحيته" بمجرد الطلاق "لحم الهجالة مسوس وخا دير لو الملحة قلبي عافو" لكن في نهاية المطاف، نجد بأن المرأة غالبا هي من تتحمل وِزر الطلاق، وينظر إليها باعتبارها هي من سببته، ويظل ذلك وصمة عار على جبينها طيلة حياتها "الهجالة ربات اعجل ما فلح ربات كلب ما نبح" والسبيل الوحيد للتخلص من صفة "هجالة" وتلميع صورتها من جديد هي إن تزوجت مجدداً.

يخلص فوزي بوخريص في نهاية مقاله إلى أن صورة المرأة مضطربة كما سبق وأشرنا . فالأمثال تقدم لنا المرأة باعتبارها زوجة خدومة طائعة ذات صورة مشرقة، وباعتبارها أفعى ماكرة داهية تتحالف مع الشيطان تارة أخرى. وأحيانا في المثل الواحد نجد الصورتين. لكن الاستنتاج والخلاصة العامة هي أن الأمثال التي تقدم صورة إيجابية عن المرأة تظل محدودة وقليلة مقارنة مع نقيضاتها التي تشيطن المرأة وتهينها وتنظر إليها بدونية كبيرة. وباعتبارنا أنه من بين الأدوار التي تقوم بها هذه الأمثال هي التنشئة الاجتماعية، فإننا نرى بأن هذه التنشئة ليست جيدة مادامت مبنية على أمثال تكرس صورة سلبية للمرأة. لكن داخل الثقافة الشعبية باعتبارها آلة لإنتاج التصورات وتحديد المتخيل الشعبي، نجد طرق أخرى تمارَس بها هذه الأنواع من التمييز، مثل وسائل الإعلام، والتربية والتعليم وغيرها. هنا ينتهي دور الباحث الذي يقوم بجس النبض، يقوم بتشخيص المرض، ويبحث عن مكمن الخلل، ليبدأ دور المثقف الذي يجب أن يهتم بهذه الأمور الصغيرة ذات التفاصيل الكبيرة. وهنا عودة على بدء، أي أن المثقف يجب أن يراهن على كل ماهو شعبي يلمس المجتمع بشكل عملي فعلي، لأن صورة المرأة بهذه الطريقة السئة لم تنحتها كتب تنظيرية ولا مشاريع فكرية متعالية، بل فقط مجموعة أناس كانوا يتجولون في الأسواق ويخالطون الناس ويتحدثون بما أرادوا.


المراجع المعتمدة:

سامية علام،"المرأة أفعى ومتحزمة بإبليس" هكذا كرّست الأمثال المغربية التمييز ضد المرأة، مقال منشور بموقع رصيف 22، بتاريخ 17/03/2017
فوزي بوخريص، صورة المرأة في الأمثال الشعبية: المرأة في مؤسسة الزواج كنموذج، منشور بموقع الدكتور عابد الجابري (بدون تاريخ).
فاطمة الفدادي، صورة المرأة في الحكاية الشعبية المغربية، مقال منشور بموقع مقالتي، بتاريخ 2011/08/24