قراءة في رواية أحلام بالحرية ل عائشة عودة



مي كمال أحمد هماش
2018 / 2 / 11

المقاومة والكتابة من الجسد في نص "أحلام بالحرية" لعائشة عودة
"وأعود للكتابة ربما لتأكيد أن تحويل التجربة العملية إلى وعي هو الأهم في التجربة ذاتها، لأنه زبدتها، ولأنه النسغ الذي يمنعها من الذبول والموت، ولأنه (هذا هو الأهم) لا يسمح للآخر بالاستمرار في السيطرة على رواية التاريخ وتصنيعه بما يتناسب مع أيديولوجيته العنصرية. ولأنه لا بد من محاسبة المجرم على جرائمه، ولا تقادم على جرائم الحرب. ولأقول أيضاً أن الرجال ليسوا أفضل من النساء، وأن النساء لسن أقل من الرجال، وأن الوطن والمستقبل والحرية والكرامة مسؤولية الجميع. وأن الصمود مجدي[1]".
بُني نص عائشة على مفهوم يتم تداوله بكثرة في العلوم الحديثة المتعلقة بالنظريات النسوية، وهو مفهوم "السياسة الجنسية"، الذي يُعرّف بأنه: "العلاقات المبنية على أساس السلطة والترتيبات، حيث تكمن في مجموعة من الأشخاص المُسيطر عليها من قبل مجموعة أخرى. بجمل أخرى، هي ترتيبات لحياة الإنسان على أساس مبادئ مقبولة، ومنطقية، والتي منها ينبغي إبعاد مفهوم السيطرة على الأخرين، وبناء عليه، على المرء أن يعترف بأن هذا ليس ما يشكل السياسي كما نعرفه. وعلى هذا ينبغي علينا أن نخاطب أنفسنا[2]".
في هذا، ستقوم هذه الورقة بمناقشة موضوعة مركزية في الكتابات الأنثوية، والنظريات النسوية المُعاصرة. وهي فكرة المقاومة من خلال الجسد والكتابة من منطقة الإختلاف كأُنثى. تقوم الورقة على مناقشة وضع المرأة داخل أجهزة الدولة الأيديولوجية، والسلطة التي تحكم موقعها كأنثى، مما يعزز فكرة المُستعمر عن الخطاب الاستشراقي اتجاه المُستعمَرين، ليستخدمه فيما بعد كوسيلة للتعذيب والضغط.
"عندما نتعلم تحمل ألفة إمعان النظر، والترعرع فيه، وعندما نتعلم استخدام نتاجات ذلك الاستقصاء من أجل القوة في معيشتنا، فإن تلك المخاوف التي تحكم حياتنا وتشكل صمتنا، تبدأ بفقدان سيطرتها علينا[3]" إن مرادفات هذه الكلمات كانت المرافقات لعائشة في مراحل التحقيق، التي حولت بدورها عبء الثقافة والمجتمع في جسدها إلى نقطة قوة تقاوم منه، كما وبنت من جسدها جسرا عاماً وطنياً، وصرحا للصراع كما يبنيه المجتمع في تصوره. واسترجاعاً لما فقده العرب من حق المقاومة والكرامة والوعي به.
من الواضح في قصة أحلام الحرية أن هنالك تكرار لامتهان الجسد، من خلال العبارات السلبية، سواء بمنادتها بها، أو تعنيفها لتنادي نفسها بها. فاستقبلها جنود الاحتلال بالتحقيق للمرة الأولى "تريدين أن تكوني شجاعة يا (..)" ، وفقدت وعيها من الصفع من أجل أن تُجبر على أن تنعت نفسها بهذا الوصف لعشر مرات متتالية. وكأن المرأة ليس لها أن تكون إلا هكذا! (ساقطة)، وفي هذه الصورة. والأسوء هو الإستغلال الثقافي لفكرة الفلسطيني أو الثقافة العربية بشكل عام عن الجنس، فمن جهة كان من المخاوف الأكثر تأثيرا في قلبها أن يتم المساس به، ومن جهة أخرى كان نقطة الضعف التي يستخدمها الإسرائيلي كساحة حرب استثنائية في مرحلة الاستجواب.
إن عملية الإنفصال عن الواقع، أو سيطرة التفاصيل الثانوية على متن النص، خلال عملية اختراقها نفسيا وجسديا وجنسيا، محاولة ذكية للهروب من الوضع نفسه؛ لتمنع نفسها من حق الشعور بالألم كإنسانة. وإن كان هذا المنع مُتجاوزا للحدود الإنسانية ولبُنيتها الأُنثوية إلا أنه كان الأفضل في تقليل الأثار النفسية المترتبة عليها بعد انتهاء الجريمة. بداية أثناء عملية اعتقالها، على الرغم من الحزن والقلق والخوف الذي شاهدته في عيون زوجة أخيها وأمها إلا أنها لم تُفكر فيه، انفصلت عن الحدث وأصبحت تتماهى مع الطبيعة وتتوحد بها، تتذكر منزلهم القديم بأدق تفاصيله، تماما كما لو أن هذا أخر موعد لها مع هذه الذكريات. ومع بدء إجراءات التحقيق، كانت قد شعرت بالضربات الأولى فقط، لتنسج لنفسها نماذج مستمدة من أفكارها الثقافية عن الرجال كمثال للصمود، وعند انهيار هذا النموذج باعتراف أحد الرفاق عليها بعد مَ ظهر عليه علامات التعذيب والإنهاك، أختارت أن تكون نموذج لنفسها وللأخرين، لحظة اعترافها عن نفسها، لقيت مبرر قويا في ذاك الفعل كنموذج إنساني وإن كانت الخيبة من ذاتها قد أكلت ما بداخلها، إلا أنها لم تستطع أن تترك رسمية تُشل مُقابل أسلحة قد عانوا الأمرين بُغية الحصول عليها. وفيما بعد، أثناء الاعتداء عليها جسديا وحنسيا انفصلت تماما عن جسدها. لقد شعرت بعملية اختراق رحمها بالعصا، لكنها شعرت بأن هذا الرحم تحول من منطقة الخاص إلى العام. فهو لا يختلف بالمطلق عن اختراق منزلها وقريتها وانتهاكها، وعملية التماهي هذه جعلتها تخفف من ألم إنتهاك الجسد كنقطة استثناء إلى انخراطها بالميدان العام. انتهاءاً بالسجن مع الأُخريات في ذات الغرفة الصغيرة التي لا تسمح بالتوحد والإنزواء للبحث عن ذاتها بهدوء، فإنها تنفصل عن هذا الواقع بالجلوس في زاوية الزنزانة وتذكر مراحل حياتها، وأُمها التي كانت تفصيل ثانوي في يوم من الأيام وأصبحت فيما بعد جزء أساسي من بناء تفكيرها وذكرياتها.
في إشارة لحالة فقدانها وعيها أثناء عملية الإغتصاب بفعل وخزة دبوس اخترقت رأسها، أرى بأن هذا التفسير ليس مقنعا، أن فقد وعيها بسبب وخزة دبوس! هو حقا في قمة السخرية والإستهزاء, أعتقد بأن ما حدث فعليا معها هو أنها أثناء عملية إنفصالها عن جسدها وهو يتألم، وبعد الإنفصال تماما ليصيح الجسد جمادا مقاوماً، جاءت وخزة ادبوس كالكافيين المُنبه، الذي أعاد روحها إلى جسدها، لتشعر بألام ذلك الجسد كاملة، فلم تقدر على مواجهته تماما، وهذا ما ذهب بها إلى الإعياء.
عند الحديث عن الفعل الكتابي المُقاوم بمُقارنة بين سبيفاك[4] وترينمنها[5]، نرى بأن سبيفاك ترى أن من المهم معرفة من هو الكاتب أو المُتحدث، وما هو موقعه داخل النص وداخل الحدث، وفي هذا تتفق مع بومبارا، أما ترينمنها فهي لا تبحث في الموقعية، بل تذهب إلى فعل ممارسة الكتابة كبُنية ثورية ومُقاومة، تحطم الأُطر المُحيطة بالكاتب أو المتحدث. ونرى في نص عائشة أن السبب الأساسي كان وراء كتابة نصها بعد هذه المُدة، هو قراءتها نص أدبي لمناضل فلسطيني أستعرض تجربته عن الأسر، وأسرد في صفحة تجربة الأسيرات بصورة مقتضبة وغير مرضية وقلل من الوعي السياسي لديهنّ، وهذا كان دافعا لها نحو الكتابة:"شكّل ما كتبه هذا المناضل، صدمة حقيقية لي، فكيف له أن يكتب عن تجربة بينما هو يجهلها؟ ويكتب باستخفاف وعدم تقدير لتجربة عملاقة (حسب تقديري)! كيف تجرأ! ربما يعتقد، أن من لا يروي روايته بنفسه، فإنه يسمح لآخرين صياغتها على أهوائهم[6]" وهكذا، أعادة بناء موقعيتها كأُنثى صاحبة التجربة لتتحدث دون قيود مجتمعية أو سلطوية، حتى أن اللغة لم تعد عمودية كما كانت، لقد أصبحت أداة لكتابة تجربتها. وإن فعل الكتابة في هذا النص، لم يكن لمجرد الكتابة. بل كان نصاً مقاوماً يُشير إلى التفاصيل التي تُعد جريمة إنسانية وجريمة حرب، والجريمة الإنسانية هي السياسة الجنسية داخل المجتمع، وتشارك المجتمع لحياة الأُنثى وجسدها حتى أصبح جسدهم وحياتهم وهي المحارب والمدافع عنه. وجريمة الحرب هي تجاوز الحدود الإنسانية في التعذيب لكلا الجنسين، ومن كلا الجنسين المُستعمَر. لهذا كانت عملية الكتابة نفسها استحضار لكافة الأُطر والأَيدولوجيا التي تحكمها وحكمتها خلال تلك السنوات، وتهشيمها بفعل الكتابة، وقد لا يكون الهدف الأساسي من كتابة المقاومة هو الشفاء من ألم التجربة. ولكن يكفي أنه عرّى جيش الإحتلال الطاهر دُوليا أمام العالم.
إن فلسطين كغيرها من مناطق ما يسمى عنصريا ب "دول العالم الثالث" تُعاني من ضعف البنى التحتية بفعل الفعل الاستعماري واستمراره عليها، ولهذا فإن الضعف الإقتصادي والتبعية للنظام الاستعمار العالمي الاقتصادي جعل من عملية تقسيم العمل ودورها في تعزيز هيمنة الذكور على الإناث ساحة مناسبة لخلق حالة جدال مستمرة بين الجنسين، في ظل وجود احتلال يسعى جاهدا لتغييب همجيته بثقافة المجتمع الفلسطيني، ولكن، كان من الواضح أن هنالك وعي إلى حد ما بتراتبية الأولوية عند النساء وداخل المجتمع في تلك الفترة، بين تراتبية السياسة الجنسية أو السياسة الاستعمارية. وكان الجواب محصورا ب: "إن الإحتلال هو الشر المطلق، وما دون ذلك هو شر جزئي". وإن كان كما ظهر في نص عائشة يتم مقاومة الإناث للإستعمار من خلال منافسة نماذج الرجال إلا أنها تستحضر نفسها كأنثى وجزء من المجتمع الذي يساندها ولم يتخلى عنها، على الأقل تخييباُ لتوقعات المٌستعمِر.
في ما بخص النظام المعرفي ووجود مؤسسات تعليمية ومؤسسات مجتمع مدني ليست تابعة ولا بأي شكل للاستعمار، فهي بالتأكيد ستساعد بتشكيل ثقافة ووعي مُوجه وثوري اتجاه المُستعمر، وهذا كان مُفاجأً للسجانات بسعة العلم والمعرفة لدى السجينات حول الكثير من الرويات ونماذج المقاومة.
فكرة سيسو عن المقاومة، تتمثل في الدخول بالنظام والتخريب فيه من داخله، وهذا كان أُسلوب عائشة بالمقاومة السلبية، "والتي تقوم على أساس كيف يتصرف الفرد أثناء التحقيق فلا يتكلم حتى اسمه .. لا يأكل وعليهم أن يفتحوا فمه ويضعوا الأكل .. لا يذهب للحمّام ويمكن أن يفعلها في ملابسه ليضطروا لحمله .. لا ينتقل من مكان لآخر وإذا أرادوا نقله فعليهم أن يحملوه .. هكذا يحول نفسه إلى ورطة وعبء كبيرين لن يكونوا قادرين على تحمل تبعاته"[7]. وهذا ما حدث في الكبسولات عندما استحضرت نموذج الطفل الذي حوّل عملية العقاب بالوقوف بجانب سلة النفايات ووجهه للحائط إلى أسلوب مقاومة بالسُخرية، مما دفعها هي لتغير إشرافها على صف هذا الطفل، لأنه تغلب على سلطتها من داخل نظام السلطة، وعملت على ذات الفعل وذات الممارسة بأنها رفضت الوقوف مرفوعة اليدين والقدم، أي أن تعاقب نفسها بنفسها في حين الحيش والعسكر يؤدون وظائفهم الثانية. وإن كانت ستكون اسلوب عقاب فليعاقبوها هم، لا أن تُعاقب أنفسها. وهذا الوعي لا يقتصر على تلك الفترة. فقد خاض المُعتقلين الفلسطينيين معارك في كسر فكرة أن أخر فلسطيني يخرج من الزنزانة للفورة يغلق الباب، حتى وإن كان فلسطيني أخر بالزنزانة لا يرغب بالخروج، لأن هذا ليس من ضمن أدوارهم، وليس من المتوجب بناءها داخل وعيهم كعملية طبيعية. يجب أن تبقى الحدود بين المُستعمَر والمستعمِر واضحة.
في ذات السياق، كانت عائشة ذكية في إخفاء ألمها وتحمّله داخلها، فعدم صراخها والجميع فوقها يركلها وينعتها بأسوء المسميات، قام باستفزاز الاحتلال من فكرة عدم صراخها، ساعدها لاتخاذ هذه الوسيلة مقاومة لها. منه تشحذ بها ذاتها بالعزة والكبرياء، ومنه أسلوب مقاومة واستفزاز. لم تُسلم عقلها للحدث، على الرغم من الصدمات التي توالت عليها في ذات النهار، الإعتقال، والأشخاص الذي يتم التحقيق معهم، صديقاتها، أسلوب التحقيق. إلا أنها لم تفقد عقلها، وأبقت عليه في موضع إخضاع كل كلمة للنقد والتحليل والحوار الداخلي. هذا ساعدها لأن تكون رزينة ذكية في اختيار عن ماذا تريد التحدث ومتى، ولا تُساق في الحديث. بل عملت على توسيع حلقة الإستجواب والتحقيق لتسعها بدل من أن تضيق عليها.
"إن المشكلة التي تعكر صفو النساء هي ليست مشكلة فقدان الأنوثة، أو كثير من التعليم. الأمر أهم بكثير مما يدرك أي شخص، إنها المفتاح إلى هذه المشاكل القديمة والجديدة التي كانت تُعذب النساء وأولادهن وأزواجهن. وقد تكون هي المفتاح إلى مستقبل الأمة والثقافة، ولم يعد بالإمكان تجاهل ذلك الصوت داخل المرأة والذي يقول " أريد شيئا أكثر من زوجي وأولادي وبيتي[8]". كانت هذه النتيجة الأساسية التي توصلت إليها بيتي فريدان لمشكلة النساء التي لا اسم لها في أميركا حتى ستينات العقد المنصرم. ونرى في نص عائشة أنها أرادت من ذلك بكثير، بحثت عن ذاتها في الآخر الذكر المتفوق ثقافيا. والمُستعمِر الذي يحول دون الكرامة والحرية. للنقطة التي نسيت فيها التفكير بذاتها، داخلها، هل تريد الزواج والإنجاب، هل سيكون خيارها أن تُصبح معلمة أو سياسية .. إلخ. بالتأكيد في إطار بعيد عن الإحتلال ستكون الخيارات مختلفة، ولكن في ذات السياق أختارت عائشة السياق الذي يخفف من تراتبية السلطة، اختارت أن تكون هي فقط، كما تفكر اتجاه العالم. وتصور العالم ثقافياً عن موقعية الأُنثى، كان واضحا في مراحل التحقيق مع عائشة، "ما شأنكِ أنت بالساسية، بس الحق على الرجال يلي بورطوكم وهم بتخبوا". لكن هذا الحديث لو وُجه لإمرأة مُشبعة بثقافة المجتمع. كانت ستشعر بطريقة ما أن هذا المُستعمر هو المٌخلص الذي يفهم معاناتها، ولكن كان للعلم والوعي والثقافة دورا في مساعدة عائشة على إبراز تناقضهم كجبهة للمحاربة بها، وهي ردها على هذا السؤال "إذاَ لماذا تحارب نسائكم بالجيش، أما أن رجالكم مختبئين!" هذا الرد الواعي كان يزيد من القسوة والعنف على جسد عائشة.
إذا، ماذا ستفعل النساء، ينبغي على المرأة أن تعبر عن نفسها بالكتابة، بجب أن تكتب عن المرأة وأن تدفع النساء للكتابة، التي تم إبعادهن عنها بذات العنف الذي تم فيه إبعادهن عن أجسادهن - للأسباب ذاتها، وبموجب القانون ذاته، وبالهدف الحاسم ذاته. ينبغي على المرأة أن تضع نفسها في النص - وتضع نفسها في العالم وفي التاريخ - بالحركة الخاصة بها. يجب أن تعبر عن نفسها بالكتابة؛ لأن هذا هو الإختراع لكتابة متمردة ستتيح لها، عندما تأتي لحظة تحررها، القيام وبالإندفاعات والتحولات التي لا مناص منها في تاريخها. بشكل فردي، عن طريق التعبير عن نفسها بالكتابة، ستعود المرأة إلى جسدها الذس كان أكثر من مُصادر منها، والذي تحول إلى أجنبي غريب عند العرض - المعتل أو الشكل المميت، الذي كثير ما تبين أنه الرفيق البغيض، سبب ومكان الكبت. اخضعي الجسد للرقابة وستخضعين النفس والكلام للرقابة في الوقت ذاته. عبري عن نفسك بالكتابة، لا بد أن يُسمع جسدك، عندئد فقط ستنطلق القدرات الهائلة للوعي. سينتشر نفطنا، في جميع أنحاء العالم، بدون دولارات - سوداء أو ذهبية- والقيم غير المقدرة التي ستغير قواعد اللعبة القديمة. الكتابة عمل لن يعترف فقط بعلاقة المرأة غير الخاضعة للرقابة بجنسانيتها، وكينونتها المراوية، مانحا اياها قدرة على الوصول إلى قوتها الفطرية، وسيعيد لها ممتلكاتها الشخصية وملذاتها، وأعضائها، ومناطقها الجسدية الهائلة التي بقيت مغلقة بإحكام؛ وسينتزعها من بنية الأنا العليا التي شغلت بها المكان المحوري للمذنبات (مذنبات بكل شيء، مذنبات عند كل تحول، لامتلاكهن رغبات، ولعدم امتلاكهن أي رغبات، لكونهن باردات جنسيا، ولكونهن شهوانيات جدا، لعدك كونهن الأمرين معا في الوقت ذاته) [9].
إن ما سيشكل الإختلاف في تجربة عائشة، هو كتابتها من أكثر المناطق المظلمة المكبوتة والتمردة على الإطلاق خارج الزنزانة وداخلها، وهي الجسد، والرغبة، هي الرحم، والقلب. الكتابة من الألم. لقد كانت كتابة عائشة تحدي كبير لذاتها وللمجتمع بأجهزته الأيديولوجية كاملة وبنيته السلطوية. لقد كانت انتزاع لذاتها من هذه المفاهيم. إلا أن أصبحت ذاتها حقلا منفصلا لدراسة تجربته. "ويرتبط الأدب بلا وعي الكاتب، وعلى هذا الاعتبار، يرى لويس ألتوسير، أن الآثار الفنية هي أماكن تعبّر فيها الأيديولوجيا عن نفسها بدون أن يكون الكاتب على دراية ووعيّ بذلك. فهناك توتّرات أيديولوجية يعكسها النص لا يستطيع المؤلّف السيطرة عليها". [10] وكان التحليل النفسي عند ألتوسير بالغ الأهمية، فقد اقترح أنه لا يوجد "مركز" رئيسي للإنسان إلّا في الإدراك التخيلي الخاطئ "للأنا، أي في التشكيلات الأيديولوجيّة حيث يندلّ الأنا على ذاته، وهنا نعود لأجهزة الدولة القمعية التي تعتمد على الأجهزة الأيديولوجية الموجودة في الفن والأدب والنظام السياسي، إلخ.[11]
إن ما تخوفت منه عائشة، أمر طبيعي، الخوف من الجنون، من الهسترة والهلوسة، الخوف من الإغتصاب والإعتداء على جسدها، الخوف من صعقات الكهرباء، الخوف من الشلك. هذا شعور طبيعي مرافق للإنسان طالما هو حياً. لكن فكرة الخوف من الجنون هي الأكثر فظاعة على الإطلاق، هي ليست مخاوف، بل هي الشر المطلق بعينه. أن يفقدك أحد عقلك، وأن تخرج بذلك عن طبيعتك الإنسانية، عن صفاتك الواعية، أن تصبح مجنونا!.
الجنون لا أحد يُشارك صاحبه به، لا أحد يفهمه، أن يُصبح جماداً، بضع صعقات كهربائية لتهدئة جنونه المتفاقم، وسخرية وتسلاية الأخرين به بهدوءه. إنتزاع ما لا يمكن إعطاءه. فكرة في قمة العنف، كذلك طُرق التعذيب الأُخرى، هي مُجرّمة دوليا، كالإعتداء على الجسد بهذه الطريقة، حتى أن غالبية السجون والتي تقع في أكثر دول العالم قوة قد أغلقت سجونها التي تستخدم هذا الأُسلوب للتحقيق. وقد استخدم استخدام الاغتصاب المنهجي أثناء النزاعات المسلحة على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم. وقد صدرت العديد من الاتفاقيات والإعلانات الدولية للقضاء على هذا الفعل. وقد تمت محاكمة هذا الفعل لأول مرة في يوغوسلافيا (المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة) ورواندا (إكتر) لأن الاغتصاب حظي باهتمام وسائل الإعلام[12]. والأهم من ذلك، أن استخدام الاغتصاب المنهجي وغيره من الاعتداءات الجنسية خلال النزاعات المسلحة ليست مسألة رغبة أو جنسية، ولكن يمكن فهمها على أنها مسألة هيمنة. وفي الواقع، في حالة عائشة، كان الإغتصاب والإعتداء هو هيمنة ذكورية واستعمارية بحتة، وسيلة تعذيب متطرفة. تتحدى أحد أكثر الصفات الاساسية في توصيف الثقافة العربية ليس أكثر. من أجل أن تكون رادعاً لغيرها من الفتيات ولذويهنّ.
لقد كانت أساليب المقاومة تتطور وتتراجع بناءاً على اسلوب التحقيق المُتبع، فتارةً يجادلونها عقليا من خلال رجلاً رزينا يملك معرفة عن العرب أكثر من العرب أنفسهم، فتشعر بتفوقه عليها، وتشعر بانهيار طفيف في جبهتها الداخلية. ولكن، تناقضه لنفسه، في معرفته وأفكاره، وإنسانيتة اشتراكيته وعمله كمحقق لا يهمه إلا الاعتراف. فكانت المقاومة هنا بالحفاظ على التناقضات التي تلتقطها. وفي جانب أخر استخدام الرجال الجميلين ذوي العيون الملونة والبشرة البيضاء الجذابة "اللطيفين" للتحدث بإنسانية أن هنالك منفذ ومهرب، وأنهم للمساعدة ليس أكثر، وأنهم قد يكونوا مرحلة فاصلة وقاطعة مع إلتقاء عائشة "بالجنود الدروز المتوحشين". هذا مُهين لكل الفئات الفلسطينية، أن يتم استخدامنا لتمثيل صورة الوحش الخالي من الإنسانية اتجاه بعضنا البعض.
لقد تأخرت كثيراً عائشة في سرد تفاصيل ما تعرضت له، كان لها أن تعرض قضيتها وتحول جسدها المنتهك بساحة جرائم دولية مُحرمة، إلى قضية دولية، وقضية رأي عام. إنساني. لتضع حدا لما يُعانينه النساء والرجال على حد سوءا في المعتقلات الإسرائيلية. أحياناً وجود منهجية تقتل روح البحث، والبحث عن لُغة مناسبة لتختزن معاناتي يقتل روح المعاناة. كان عليها أن تبوح. تبوح فقط!
عند قراءتي للرواية شعرت كما لو أنني أقرأ أدبيا روسيا، كثير من التفاصيل غير المنطقية، التفاصيل التي تشكل هامش النص، كانت في طابعها مملة أكثر مما هو قدرة على وضع القارئ داخل النص الأدبي ليصبح جزء منها، على وجه الخصوص في جزءها الأول. إلا أنها فيما بعد شعرت أنها بدات تتحرر من قيود اللغة، ومن أشكال الكتابة الأوروبية والروسية وغيرها. لتكتب من موقعها هي، كفلسطينية وأمرأة، عربية، أسيرة. تكتب ما تشعر. يوجد صدق أكثر وألم وتجربة حقيقية دون الحاجة لتزيينها أو لتنقيتها من شوائب اللغة. قدمت المعاناة كما هي، كما لو أنها أرختها في بعد كل جلسة تحقيق. وهنا ظهرت القصة أكثر واقعية، أكثر إنسانية، أكثر إنثوية.
خاتمة
إن عملية تحويل اللاوعي، والإطار الأيديولوجي، والتجرية المبنية على تجاوز الحدود البُنيوية داخل المجتمع، سواء بالثقافة الذكورية، أو الإعتداء على الجسد "الشرف" إلى وعي كتابي هو عمل سياسي بامتياز. لأنه يحول موضع الهيمنة إلى مصدر قوة، وتُصبح هذه المناطق الأكثر تعتمياً في الوعي والإدراك، هي أكثر الأماكن التي يكتشف فيه الكاتب أناه وهو يبحث داخل لاوعيه.
إن عادة من يستطيع الحاجز الرفيع بين وعيه ولا وعيه، ويعود لداخله ويحاوره، هو أكثر الأشخاص قوة وجراءة. لأن هذه العملية هي شبيهة بتناول حبة فيل أزرق تأخذه جولة حول العالم ليستطلع فيها كل خفايا العالم، والمناطق المعتمة به. فلا يعود وعيه وعقله قادرين على استيعاب هذه الكثافة من المعلومات التي أصبحت في مقدمة الرأس، في أُفق البصيرة والعين، فمن الكُتَّاب من يتجاوز هذه المرحلة بالمشروبات التي تُشعره بالخفة، ومنهم من يبكي وينعزل، كمن يعود للماضي وهو في الحاضر، في حالة فُصام تعيد ذات مشاعر الألم التي شعرها أثناء الحدث والتجربة. وهذه أعظم مساوءها.
على النساء الكتابة، لأن فعل الكتابة مُقاومة مُستلبة منهنّ، بفعل هيمنة ذكورية ثقافية، وبفعل هيمنة لُغوية لا تخدم الإختلاف الإنثوي بالكتابة والتعبير، لذلك عليها أن تكتب كما هي، دون منظومة عالمية في فن الكتابة. فالكتابة هي ليست الفن. بهذه التراتبية، بل إن الفن هو الكتابة بأسلوب خاص، يعزز الإختلاف ويبرزه، لأنه يُضيف للمعرفة وللفنون. وهذا مأخذ على الكثير من الكتابات النسوية، أنها تبقى في إطار تقسيمة كتابات الذكور وكتابات الإناث، وكيف يمكن كسر هذه النمطية بإحداث التداخل بينهما، أو بالإلتزام بالكتابة ببُنية كتابية مُخالفة لنُنية كتابة الرجال. وهنا تبقى عالقة بكل الأحوال في قالب فن الكتابة.
استحضرتني عبارة لإدوارد سعيد في كتابه عن نقد الإستشراق، فيما يتعلق بضرورة كتابة تجربتنا لألا نُبقي فسحة الأمل للآخر بكتابة تاريخنا وقصتنا وفق تصوره:
{ لا يمكن صرف النظر بسهولة عن نص يزعم أنه يحتوي على معرفة شيء فعلي، أو أنه ينجم عن ظروف شبيهة بتلك التي تحدثت عنها قبل قليل، فالمهارة من صفاته. وثقل الأكاديميين والمؤسسات والحكومات يمكن أن تُضاف إليه، مما يجعله محاطا أكبر بهالة من الشرف، أكثر بكثير مما يستحقه نجاحه الفعلي. ولكن الأهم من ذلك هو أن هذه النصوص بإمكانها أن تخلق ليس فقط المعرفة بل الحقيقة التي تصفها. ومع مرور الوقت، فإن هذه المعرفة وهذه الحقيقة تُصبح تقليدا، أو ما يسميه ميشيل فوكو خطابا، يكون فيه مجرد وجودها المادي أو ثُقلها، وليس ابتكار كاتبها، هو المسؤول الحقيقي عن النصوص التي ستنشأ عنها}.
ختاماً، إن الجسد بتمثلاته كفعل مقاوم وكفعل كاتب، هو فعل بحد ذاته يتجاوز الحقيقة ويخلق إبداعاً، وهو أكثر الأدلة والشواهد صدقاً. وهذا ما يميزه عن اتنظير الذي يأخذ شكلاً من الرتابة والملل، وإمكانية إخضاعه برؤى مُختلفة. ولكن الكتابة من الألم والرغبة هي تجربة شخصية، تسمع فيها ذلك الصوت الذي لم يُكتب بعد، لأنه يفقد قيمته بالكتابة، فهو يُستشعر به بالتفاصيل التي يكون فيها الكاتب في ذروة لا وعيه، في اللحظة التي تترك فيها قراءة الرواية لتُصبح أنت الرواي والمتحدث والمقاوم.
عائشة تتحدث من الشارع، من الزنزانة، من العنف والإضهاد والإنتهاك. تتحدث من عمق الإغتراب الذي أنتجه الفلسطيني بكتابة رواية المرأة، في الوقت التي هي قادرة على الكتابة، وقادرة على التعبير.



[1] عائشة عودة. "أحلام بالحرية .. الجزء الأول من اعتقال فتاة فلسطينية". رام الله: مؤسسة مواطن المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية. (2004). ص204
[2] كيت ميليت. "نظرية السياسة الجنسية (من السياسة الجنسية). قراءات في النظرية النسوية. 1990. ص 183
[3] أودر لورد. "الشعر ليس رفاهية" برودسايد: ديترويت. (1977).ص37
[4] Spivak , Gyatari Charovorty.“Can the Subaltern Speak.” in Colonial Discourse and Post-Colonial Theory: A Reader. Edited by Patrick Williams and Laura Chrisman. New York: Columbia University Press, 1994. 66-111. -print-
[5] Trinh, Minh-ha, “Commitment from the Mirror Writing Box.” from Woman, Native, Other: Writing Postcoloniality and Feminism. Bloomington and Indianapolis: Indiana University Press. 1989.
[6] غائشة عودة . مصدر سابق . ص 199
[7] توفيق عابد. "يوميات السجينات .. معاركهن الصغيرة" . الإتحاد. (2013).
[8] بيتي فريدان. "المشكلة التي لا اسم لها (من كتاب الغموض الأنثوي). قراءات في النظرية النسوية. 1963. ص182

[9] هيلين سيكسو."ضحكة ميدوسا" . قراءات في النظرية النسوية. الجزء IV . 1963- 1975
[10] أرون وفيلا، سوسيولوجيا الأدب، 41-42.
[11] لويس ألتوسير، "الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية" (الجزء 1من2). ترجمة: عمر خيري.2014. المصدر:"لينين والفلسفة ومقالات أخرى".1970
[12] Lindsey Crider, “Rape as a War Crime and Crime against Humanity: The Effect of Rape in Bosnia-Herzegovina and Rwanda on International Law” (This paper was prepared for the Alabama Political Science Association Conference held at Auburn University, March 30-31, 2012) (Page 14).