اصلاح المجتمع وفقا لفلسفة عقيدة الحياة لمعاصرة الجزء الثاني



رياض العصري
2018 / 2 / 27

ظهرت العقائد الدينية منذ عصور بعيدة جدا ، كان فيها الفكر المعرفي الانساني بدائيا وفي مرحلة التشكل الاولي ، وكان الغرض منها اصلاح المجتمعات حسب رؤية واضعي تلك العقائد ، وقد كان اسلوب الفكر الديني في معالجة المشاكل الاجتماعية في تلك العصور هو في اعتماد الاساليب النفسية فقط من خلال الترهيب بالعذاب والترغيب بالثواب في عالم ما بعد الموت والذي هو عالم مجهول لبني البشر وبالتالي فهو افضل الوسائل لاخضاعهم ، لجأ مؤسسو الاديان الى الاستعانة بالوسائل المعنوية التي تستهدف اثارة العواطف ومناشدة الضمائر عبر معادلة الثواب والعقاب لغرض تحقيق رسالتهم في اصلاح مجتمعاتهم ، ولكن مع الاسف لم تنجح هذه الوسائل الا بشكل جزئي ولزمن قصير وبقيت المجتمعات المؤمنة بالمعتقدات الدينية حالها كحال المجتمعات اللادينية تعاني من الظلم والعدوان ويرتع في جنباتها البؤس والحرمان ، ومعلوم ان الوسائل المعنوية تتصف بالنسبية لكونها تختلف من بيئة لأخرى ومن زمن لآخر على عكس الاساليب العلمية التي تتصف بالثبات والديمومة ، فبقي هناك فراغ او فجوة كبيرة تتوسع باضطراد بين الدين والواقع ، نعم ان القيم الانسانية العليا ثابتة ولن تتبدل .. الا ان الوسائل لبلوغ هذه القيم وتحقيقها في المجتمع يتطلب مراجعتها باستمرار مع تغير الظروف والاحوال المعيشية ، لان هناك ترابطا وثيقا بين قوة القيم العليا في المجتمع وبين المستوى المعيشي لافراد المجتمع الذي يكون مرتبطا بالاوضاع الاقتصادية المتغيرة باستمرار ، الفضيلة ترتكز على الاقتصاد وعندما ينهار الاقتصاد تنهار الفضيلة ، الحق يبقى حق والعدل يبقى عدل مهما تتغير الظروف والاحوال ، ولكن من يطلب الحق والعدل عليه ان يجدد ويطور اساليبه لبلوغ غايته ، والانسان في عصرنا الحالي رغم انتشار مظاهر التدين سيظل يعاني من ضيق العيش وقلة الموارد واشتداد الحاجة الى المال للعيش بكرامة في مأكله وملبسه ومسكنه ، وهذه المطالب تمثل قوة ضغط على الانسان اقوى من قوة ضغط الفروض الدينية ، ومن يعتقد بان تفشي الظلم والفساد في مجتمعاتنا سببه ابتعادنا عن جوهر الدين الاسلامي وعن اصوله الحقيقية فانه مخطيء في اعتقاده ، وواهم في تصوراته ، والحقيقة ان السبب يكمن في الدين ذاته لانه صاغ لنا نظرية غير كفوءة في مكافحة الظلم والفساد ، وهذه النظرية غير قابلة للتعديل او التغيير لان واضعها منحها صفة القدسية وكتب عليها وصفة الصلاحية في كل مكان وزمان ، ثم اغلق الابواب خلفه ورحل ، وبقي اتباعه خارج الابواب ينتظرون الخلاص ويتخبطون على غير هدى منذ 1400 سنة وما زالوا ، وبالنسبة لقضية انتشار مظاهر التدين في مجتمعاتنا وهذا المد الديني الذي يبدو للناظرين والمتابعين وكأنه صحوة اسلامية من بعد غفوة طويلة ، فان هذا المد كما نراه ونستشف آفاقه ليس الا ظاهرة مؤقتة برزت الى السطح بفعل ظروف ومصالح ، ولكنها لن تدوم لان الظروف ستتغير حتما لتتغير من بعدها المصالح وبالتالي تنتهي هذه الظاهرة ، الحقائق العلمية اقوى من النظريات الدينية وهي فقط الباقية وكل ما عداها الى زوال ، اما رجال الدين في عصرنا الحالي فانهم دفاعا عن مصالحهم الذاتية يسعون حثيثا لتجميل صورة هذه المعتقدات التي مضى زمنها وانقضى عهدها وانتهت صلاحيتها ، والناس مع الاسف يتبعونهم عن جهل وعجز في التفكير، هؤلاء رجال الدين التقليديين وهم الاغلبية يُجيدون فن مخاطبة الجمهور واستدرار عواطفهم من خلال نقدهم للواقع السيء واظهار تعاطفهم مع المظلومين والمتعبين والمحرومين في المجتمع ، ولكنهم في الحقيقة عاجزون عن رفع الظلم وازالة الشر والفساد وسيبقون عاجزين كما عجز الذين من قبلهم ، بل لعلنا لا نكون مغالطين للواقع اذا قلنا ان هؤلاء يجدون في استمرار الظلم والفساد في المجتمع استمرار لتعلق الناس بالدين وبرجال الدين وهذا هو مبتغاهم ، لان زوال الظلم والحرمان وسيادة مباديء الحق والعدل ستؤدي الى استقرار نفوس البشر وشعورها بالرضا والارتياح ، فيقبلون على الحياة بواقعية ويبتعدون عن النظريات الخيالية في طلب العدالة في العالم الاخر، الانسان بطبعه عندما يعجز عن الحصول على حاجته من الواقع المحيط به يلجأ الى طلبها في الخيال ، فيعالج حرمانه برسم حاجته في خياله كما يشتهي ، وقد استغل مؤسسي الاديان حالة الحرمان لصنع عالم في الخيال لمن يعاني في حياته من الظلم والحرمان ، ان معيار الاصلاح ليس في الخطابات وحسن التمنيات وانما في الافعال واصلاح الحال ، هؤلاء رجال الدين الذين ملؤوا الاسماع ضجيجا وصخبا في خطبهم الدينية .. الناقدون للاوضاع الاقتصادية .. يلقون بأسباب الفقر والظلم في المجتمع على عاتق الحكومة والسياسيين وينسون او يتجاهلون ان الحكام الظالمين والسياسيين الفاسدين انما هم نتاج بيئة اجتماعية يشيع فيها الظلم والفساد ، فلينظروا في البيئة ذاتها ويعالجوها قبل ان يتشكوا من منتجات البيئة ، بيئتنا الاجتماعية تتحكم بها قوانين غير صالحة نتاج عقيدة غير صالحة والتي انتجت كافة انواع المظالم ، هذه المظالم والمفاسد والشرور التي شاعت في مجتمعاتنا جعلت ضحاياها من المظلومين والمحرومين يحيون كغرباء لا وطن لهم ، فقد ماتت الضمائر والاحاسيس الانسانية واصبح مبدأ الصراع من اجل المال هو غاية كل انسان ولتسحق من اجل هذا المال كرامة الانسان في هذا الزمان ، اننا في (عقيدة الحياة المعاصرة) وعلى الرغم من عدم ايماننا بالفكر الديني الا اننا لا نحاربه ، لان كل انسان حر في ما يؤمن وما يعتقد ، نؤمن بان حرية المعتقد هي حق لكل انسان بغض النظر عن نوع معتقده ، وان معتقدات الشخص تعكس قناعته الشخصية دون ان تكون هذه القناعة فرضا على الجميع ، نحن ننظر الى الفكر الديني على انه نتاج بشري ويمثل من الناحية التاريخية مرحلة مهمة وكبيرة وضرورية في تاريخ تطور الفكر البشري والحضارة الانسانية ، ولكننا نعتقد ان هذه المرحلة قد انتهت منذ مطلع القرن العشرين حيث انطلقت البشرية في عصر جديد وعهد جديد ، نحترم ونقدر الجهود العظيمة والتضحيات الجسيمة التي بذلها مؤسسوا الاديان جميعا في سبيل نشر مشاريعهم الدينية ، ولكننا نرى بان الاحترام والتقدير لا يعني الاقتداء والتقليد ، فلكل زمن متطلباته ولكل ظرف مستلزماته ، نحن نحيا في عصر يختلف اختلافا كبيرا عن عصور نشأة الاديان ، المجتمعات تغيرت ومعيشة البشر تغيرت وطريقة تفكيرهم تغيرت ، في هذه الحياة كل شيء فيها يخضع لقاعدة التغيير ، حتى الجينات الوراثية التي تنقل الصفات الوراثية من جيل الى جيل تتعرض للتغيير عبر الزمن لتنتج اجيالا جديدة لها خصائص تختلف عن خصائص الاجيال السابقة من حيث طريقة التفكير والمزاج و الرؤية وحتى طريقة العيش ، فالتبدل والتغير في الفكر والرؤية هو من سنّة الحياة وهو من قوانين الطبيعة ، هذا وان المقالات العديدة التي نشرناها في نقد الفكر الديني لم تكن غايتنا منها الاساءة الى الفكر الديني ولا التقليل من شأنه ، وانما غايتنا بيان وجهة نظرنا في ضرورة استبعاد الفكر الديني عن التدخل في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في حياتنا اليومية وذلك لعدم صلاحيته لعصرنا الحالي ، وحصره في طقوس العبادات فقط لتعكس علاقة الانسان بالاله الذي يؤمن به ويعبده وفي اطار الحريات الشخصية من غير فرض هذه الطقوس على الناس .
يتبع الجزء الثالث ....