اصلاح المجتمع وفقا لفلسفة عقيدة الحياة لمعاصرة / الجزء الرابع



رياض العصري
2018 / 3 / 6

من المعلوم في علم سلوك الانسان ان هناك انماط سلوكية مكتسبة وهناك انماط سلوكية موروثة ، وان الانماط السلوكية التي يكتسبها الانسان من خلال تأثيرات بيئته الاجتماعية وكذلك الانماط السلوكية التي يرثها الانسان من والديه وفقا لقوانين الوراثة هما اللذان يشكلان معا ملامح شخصيته ان كانت ايجابية أم سلبية ، والفرد عادة يخضع لهذه الانماط بطريقة لا إرادية ، وحيث ان كل بيئة اجتماعية تخضع لنظام اجتماعي يحكم العلاقات بين البشر المقيمين في هذه البيئة ويشكل انماط افعالهم و ردود افعالهم ، بالتالي فان النظام الاجتماعي المنتج لقوانين البيئة الاجتماعية هو العامل الرئيسي في تشكيل السلوك الاجتماعي العام او ما يسمى بالسلوك الجمعي وفي تشكيل الثقافة العامة ، ووفقا لهذا المفهوم فان انتشار مظاهر الظلم الاجتماعي في اي مجتمع انما هو دليل على فساد البيئة الاجتماعية وسوء النظام الاجتماعي وعدم صلاحيته ، ان الظلم عندما يتفشى في اي مجتمع ليصبح ظاهرة عامة فان ذلك سيؤدي بشكل مباشر او غير مباشر الى خلق بيئة مناسبة لنمو الصفات العدوانية والسلبية لدى غالبية افراد المجتمع ، ونفس السبب بالنسبة لظاهرة الغش والتضليل في النشاط الاقتصادي والتي هي تعبير عن تفشي الفساد وأكل المال بالباطل في المجتمع ، كما ان الحاكم الطاغية في اي مجتمع انما هو انعكاس لتفشي ظواهر العنف والارهاب والقسوة والكراهية بين افراد ذلك المجتمع ، وهذه الظواهر السلبية كلها نتاج اوضاع خاطئة لنظام اجتماعي خاطيء ، وهذا ما يجعلنا نعتقد بان الخارجين عن القانون انما هم وفقا لقواعد الحق والمنطق ضحايا مجتمع تسوده مفاهيم غير صالحة ، واذا كان تفشي الظلم في اي مجتمع نتيجة فساد البيئة الاجتماعية يؤدي الى انتاج مجرمين هم بالاصل ضحايا بيئتهم الفاسدة فانه ليس بالضرورة ان يتحول كل مظلوم الى مجرم ولا ان يكون كل مجرم بالاصل مظلوم لان ذلك يتطلب توفر الاستعداد الوراثي لدى هؤلاء للانحراف والجريمة من جراء مورثات او جينات رديئة ورثوها عن آباء سابقين عاشوا في هذه البيئة الاجتماعية الفاسدة وتطبعوا بطباعها ، فالبيئة تصبغ الجينات بصبغتها وتطبعها بطابعها مع تعاقب الاجيال ، وبناءا على هذه الحقائق فاننا عندما نحاسب ونعاقب المخطئين والخارجين عن القانون فانما نحن نعاقب أفرادا هم في الاساس ضحايا للظروف التي صنعتهم بحكم الوراثة و بحكم البيئة ، فكل انسان نتاج البذرة التي نشأ منها ، ونتاج التربة التي نبت فيها ، ونتاج البيئة التي ترعرع فيها بضغوطها وتحدياتها ، ونتاج الظروف المحيطة به من حيث الزمان والمكان ، وهذا الكلام ليس دفاعا عن الخاطئين ومنحهم البراءة والشرعية ، وانما تشخيصا للخلل الحقيقي وتعبيرا عن رغبة صادقة في معالجة المشكلة من جذورها لكي لا ينتقل الخطأ بالوراثة ولا بالاكتساب من جيل الى جيل ، فاذا اردنا تقويم سلوك الانسان الخاطيء ينبغي علينا قبل ذلك تقويم البيئة الاجتماعية التي يحيا فيها ، وتقويم النظام الاجتماعي العام في المجتمع ، فاذا صلح النظام الاجتماعي صلحت تبعا لذلك احوال الناس اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا ، اذ ان النظام الاجتماعي غير الصالح ينتج بيئة اجتماعية غير صالحة وبالتالي افرادا غير صالحين وهذه قاعدة عامة تنطبق على جميع الافراد في كل مكان وزمان ولا يشذ عنها إلا الأشخاص الذي تمنحهم الطبيعة وفقا لظروف الصدفة او العشوائية وبنسب متباينة ومتفاوتة صفات الحس المرهف والذكاء الفطري والرؤية الشمولية والارادة القوية فيتميزوا عن القاعدة العامة بقدرتهم على التحرر والانعتاق من سلطة النظام الاجتماعي الفاسد وعدم خضوعهم لقوانينه .
بالنسبة لصناعة السلوك الاجتماعي العام او الثقافة العامة فانها تسير وفق الآلية الاتية : الخصائص الجغرافية تضاريسا ومناخا لأي بيئة طبيعية تطبع ملامحها على طبيعة معيشة البشر الذين يحيون فيها ، ومن ثم على نمط تفكيرهم ، وبالتالي على طبيعة العقيدة التي يؤمنون بها ، اي ان نمط العقيدة نتاج عوامل الجغرافية والاقتصاد ... الجغرافية والاقتصاد ومعهم العقيدة يسهمون جميعا في تشكيل النظام الاجتماعي لأي مجموعة البشرية ، هذا النظام الاجتماعي يصنع بيئة اجتماعية تتوائم مع معطياته ، البيئة الاجتماعية تقوم بصناعة وتشكيل الانماط السلوكية للافراد وكذلك الثقافة العامة ، فاذا كانت وسائل معيشة البشر تتغير بشكل دائم مع تطور وسائل الحضارة المادية التي ابدعها العقل الانساني لتنعكس على مظاهر الحياة الاجتماعية ، فان المعتقدات والانماط السلوكية والثقافة العامة في المجتمعات يجب ان تخضع هي الاخرى لمنطق التغيير والتحديث باستمرار ، فاذا كان تطور وسائل الحضارة المادية يخضع لمنطق تطور قدرات العقل البشري وهو حتمية طبيعية ، لذا فان الثقافة العامة والمعتقدات يجب ان تخضع لنفس منطق التطور ، وان التحكم بهذا التطور يجب ان يخضع لارادة الانسان ، الانسان الحر الذي امتلك ارادة التغيير وتحرر من العبودية لتراث الاجداد ، ونحن كعقيدة اجتماعية معاصرة اخذنا بعين الاعتبار هذه الرؤية عند وضعنا لخارطة طريق لنظام اجتماعي صالح وسليم ، وآمنا بانه لن تتحسن احوالنا ولن تستقر اوضاعنا ولن يستقيم مسارنا حتى تتم اعادة تنظيم مجتمعاتنا وفق أسس علمية وعصرية من خلال معالجة الاخطاء في نظامنا الاجتماعي وتأسيس نظام اجتماعي حديث ، وان سعينا وجهدنا يتركز على تأسيس نظام اجتماعي يشيع ثقافة احترام كرامة الانسان واحترام حقوق الانسان في مجتمعاتنا المنكوبة بثقافة الظلم والكراهية وانتهاك الكرامة الانسانية ، وكنا قد ذكرنا سابقا ان السبب الحقيقي وراء مظاهر الانحطاط في مجتمعاتنا ـ والمتمثلة بتفشي الظلم والقهر والعنف والكراهية والفساد الاخلاقي والمالي والسلب والنهب للمال العام والغش والتزوير وأكل المال بالباطل وفساد السياسة وغيرها من المظاهر السلبية ـ انما هو راجع الى طبيعة النظام الاجتماعي ذاته القائم على أسس غير صحيحة ، وان بقاء النظام الاجتماعي السائد في مجتمعاتنا حاليا دون معالجة للأسس التي يقوم عليها سوف يؤدي الى بقاء مظاهر الانحطاط متفشية في مجتمعاتنا ، وستبقى شعوبنا جيلا بعد جيل تدفع الاثمان الباهضة عن هذه الاخطاء الجسيمة التي تكتنف نظامنا الاجتماعي ، و ستظل تعاني من سوء الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، ولو بحثنا عن مصدر الخلل في نظامنا الاجتماعي ، وسبب عدم صلاحية منظومة القيم والثقافة السائدة في مجتمعاتنا لوجدنا ان السبب يكمن في مرجعيته القديمة التي يستمد منها قوانينه واعرافه وقيمه ، فالبناء العقائدي لنظامنا الاجتماعي الحالي بكل ما يحتويه من اعراف وقيم وثقافة انما هو مستمد بشكل رئيسي من المعتقدات الدينية وبالتحديد الاسلامية التي تتحكم بحياتنا الاجتماعية منذ 1400 عام ، فاذا كنا عازمون على اصلاح نظامنا الاجتماعي اصلاحا شاملا وليس ترقيعيا فانه ينبغي ابعاد المعتقدات القديمة التي ورثناها عن الاجداد عن تنظيم حياتنا الاجتماعية وصياغة نظامنا الاجتماعي ، وفك ارتباط القوانين المنظمة لاوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في بلداننا بالشريعة الدينية ، نقولها وبكل ثقة من المستحيل اجراء اصلاح للنظام الاجتماعي في مجتمعاتنا في ظل هيمنة الشريعة الدينية على الدستور والقوانين واعتبارها المصدر الاول والاساسي للتشريع .
يتبع الجزء الخامس ....