المرأة التي تعشق جلادها



عايدة الجوهري
2018 / 3 / 12

ثمّة صورتان صارختان متعارضتان تداولتهما وسائل التواصل الاجتماعي أواخر العام المنصرم، تفترضان مجدّدًا أنّ التغيير في واقع النساء يبدأ أولاً وأخيرًا في تعديل نظرتهنّ إلى ذواتهنّ، وإنّ كلّ المؤتمرات والخطابات والقوانين والأوراق تبقى حبرًا على ورق، وأحيانًا فرص التعليم، والتعليم والعمل، ما لم تنظر المرأة إلى نفسها ككائن بشريّ، غير ناقص، وذي عقل، ووجدان، وإرادة، وحرّ، ومستطيع.
الأولى: وهي صورة ويدا موحد (31 عامًا)، التي خلعت حجابها وراحت تلوّح به على عصا، واقفةً على منصّة حجرية، في شارع «إنقلاب» وسط العاصمة الإيرانية، إبان المظاهرات التي عمّت المدن الإيرانية أواخر العام الماضي، شوقًا إلى التغيير، ورفضًا للاستبداد، واحتجاجًا على تردّي الأحوال المعيشية واستشراء الفساد في دوائر الدولة.
سرعان ما هرعت قوى النظام إلى اعتقال ويدا موحد وستّ فتيات إيرانيات حذونَ حذوَها، بتهمة الإخلال بالأمن الاجتماعي.
ومنذئذٍ، تحوّل المكان الذي خلعت فيه ويدا حجابها إلى بقعة رمزية بالنسبة إلى المتظاهرين، ينثرون فيه الورود، وتحوّلت ويدا التي شغلت صورتها العالم، إلى نموذج مُلهم للاعتراض السلمي، ويتناوب وحتى الآن، على الوقوف على المنصة الحجرية التي اعتلتها، نساء ورجال يلوّحون بمناديل بيضاء، ربطوها بعصي طويلة، محوّلين هذا المكان إلى مزار على مدار الساعة لمعارضي قوانين تقييد الحريات، كما تشهد مساحات وأماكن أخرى في العاصمة مظاهر تأييد ودعم للحملة، من قبل شبّان يحملون منديلاً في يد، وفي اليد الاخرى لافتة كُتب عليها «لستن وحدكن»، وراجت بالتوازي صور لرجال ليبراليين يرتدون الحجاب ونساؤهم سافرات.
وبالتالي، أشعلت ويدا موحد عصيانًا مدنيًّا ضدّ الحجاب، وتحوّلت إلى أيقونة الانتفاضة مثلها مثل الذين هتفوا بإسقاط نظام الملالي، وواجهوا بصدورهم نيران النظام.
الثانية: وتمثّل ثلاث نساء مسلمات منقبات، يرفعنَ في شوارع النمسا شارة النصر ضدّ القانون الذي أصدرته الحكومة النمساوية، شهر أكتوبر 2017، والآيل إلى منع ارتداء النقاب في الأماكن العامة.
نحن أمام نمطين من النساء، الأول يُحيل إلى حجم وعي المرأة الإيرانية لذاتها رغم الحصار الأيديولوجي والقانوني والعقابي المفروض عليها، منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979، والثاني إلى نمطٍ آخر مضاد، يُعلن استساغته لحالة الحجر والعزلة التي يعيشها، متباهيًا بتحديه للحضارة التي يرتع فيها، ضاربًا عرض الحائط قيمها العلمانية والمدنية، وإجلالها لحقوق المرأة.
خلعت المرأة الإيرانية حجابها وراحت تلوّح به، مدركةً في قرارة نفسها أنّ علم النظام يهتزّ إن اهتزّ حجابها، وكأنّنا بها تقول إنّ في تطويعها يكمن سرّ النظام، وسرّ التطويع المعمم، وفهم المتنورون هذه الرسالة المزدوجة، فأسفروا عن تضامنهم المطلق مع المحجبات على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الساحات.
أعلنت الفتاة الإيرانية أمام الجموع، وأمام النظام، وأمام وسائل الإعلام العالمية، أنّه لا يحقّ للنظام التصرُّف بجسدها على سجيته، وأنّها سيدة هذا الجسد، وأن تدخُّلَه السافر في هيئتها، ما هو إلاّ انتهاك لكرامتها الإنسانية، وكرامة المجتمع بأسره.
وفي الضفّة المقابلة، تُعلن المرأة المسلمة، وفي عرين أوروبا، قَبولها لما فُرض عليها من أغلال مادية ورمزية، وتغرغرها به، وخوضها معركة الرجل من أجل ترسيخ ما شاءه عبر التاريخ.
إنّه، من جهة الإيرانيات الثائرات، ومنذ فجر المجتمع الأبوي، سعي المرأة الدؤوب إلى مقاومة آليات تبخيسها وتحجيهمها وتشييئها، إن بالتمرُّد والثورة، أو بالتحايل والمواربة والحيلة والكذب والكيد، وليس كيد النساء إلاّ وسيلتهنّ للتملُّص من الأغلال المفروضة عليهنّ.
إنّ مبادرة الفتاة الإيرانية الجسورة، ليست سوى مبادرة منطقية، تقوم بها الكائنات البشرية المُدركة هوانها، والواعية لذاتها، من أجل جعْل الحياة أكثر معقوليةً، ومقبوليةً، إلاّ أنّ ما يستفزّ العقل والمنطق، والتاريخ، هو قبول المنقبات الملتفّات بعباءة سوداء مظلمة، بواقعهن، وتمجيدهنّ له، وتغرغرهنّ بالحجْر عليهنّ وعلى أجسادهن.
إنّنا أمام ظاهرة العبد الذي يتواطأ مع سيّده، والضحية التي تعشق جلادها، وتُبرّر له أفعاله، وأقواله، واستراتيجياته، وتدعمه في ترسيخها.
هنّ لسنَ الوحيدات اللواتي ينخرطنَ في رؤية الرجل الذكوري، لكينونتهنّ وأدوارهنّ، ويسوّغنها، ويُبرّرنَها، فيطيب لهنّ الدخول في فقص الدونية الرمزية، العقلية، والأخلاقية، والفيزيقية، ويتلبسهنّ الشعور بالنقصان، والإثم، لدرجة أنّ من تعتلي منهنّ منصّة القول والتنظير والفعل والتشريع، لا تتوانى عن اتخاذ قرارات ضدّ بنات جنسها.
إنّ الحديث عن النساء الذكوريات المؤمنات بمركزية الرجل قياسًا للمرأة، ليس حديثًا جديدًا، ونجد هذا النمط من النساء كيفما اتّجهنا. نجدهنّ في بيّنة الأسرة ذاتها، هنّ أحيانًا، الأمهات، والأخوات، والجدّات، والخالات، والعمّات، أو الجارات أو زميلات العمل، أو مديراته، ونجد بعض النساء الذكوريات، في أبشع المواقف والوضعيات، محرّضات على العنف، على ضرب المرأة، وإن استلزم الأمر قتلها، دفاعًا عن «شرف العائلة»، أو محرّضات على ختان الفتيات درءًا للعار والفضيحة، والختان هو بحدّ ذاته شكلاً من أشكال القتل والإماتة. يبقى سرّ هذه الآلية التي تجعل المرأة تتولّى أمر تبخيس نفسها بنفسها، وتبخيس سائر النساء، وكرههنّ، والتي تُحيلنا إلى آليات نفسية عقلية تجعل منهنّ ضحايا وجلادات.
وبعض الذكوريات يشكّلنَ تهديدًا عامًّا باستخدامهنّ السلطة السياسية أو المعرفية الممنوحة لهنّ في أجل خدمة الأغراض الذكورية.
- أمثلة إضافية:
وليس من المبالغة في شيء أن نقرّر أنّ ذوات المصلحة الأساسية في التغيير وفي الخروج من هذا التخلّف يشكّلون في مرحلة ما، لا بل في كلّ المراحل العقبات الأساسية أمام هذا التغيير، بسبب ما تعرّضوا له من استلاب لإنسانيتهنّ.
وآخر هذه الأدلة هو دعوة الوزيرة العراقية جميلة العبيدي، في البرلمان العراقي، إلى إقرار قانون يُبيح تعدُّد الزوجات رفقًا بما أسمته «أبطال العراق» وتقديمها مقترح قانون يشجّع على التعدُّد، محوِّلةً النساء إلى نوع من المكافأة، والدليل الآخر هو عدم وقوف هذه الوزيرة ضدّ قانون خفض سنّ زواج الفتيات العراقيات، إلى 9 سنوات، والذي أُقرّ مؤخّرًا، ومثلها مثل جميلة العبيدي، التي كانت إحدى الوزيرات التونسيات إبان حكم حزب النهضة، قد دعت إلى إحياء قانون تعدُّد الزوجات، والإطاحة ببند أساسي من بنود قانون الأحوال الشخصية التونسي، والذي ينصّ صراحةً على منع تعدُّد الزوجات ويُرتّب على مخالفة هذا القانون عقوبات جسدية ومالية حسب الفقرة الثانية منه. وإحدى الكاتبات التونسيات وتدعى «رانية الهاشم»، أصدرت مؤخّرًا كتابًا تحت عنوان «التعدد شرع ورحمة». ولا يفوتنا دفاع الأستاذة المصرية سعاد صالح، عن مبدأ سبي النساء، وحق التمتُّع بهنّ، في الحروب المعاصرة، الدائرة في «ديار الاإسلام»، مستندةً في فتواها إلى أحكام فقهية مفوتة.
تُحيلنا هذه الممارسات المفارقة والمثيرة للعجب، والتي تصدر عن نساء غير واثقات من قدراتهنّ على الاستحواذ، بمفردهنّ، على اهتمام ومحبّة واحترام الرجل، والمستخفّات بكرامة المرأة وإنسانيتها وإباحة السبي مثالاً على هذا الاستخفاف، إلى أولية نفسية، عقلية، عابرة للجنس، تؤدّي إلى استبطان الضحية رؤية جلاّدها لها، وتحوّلها تدريجيًّا إلى جلاد مثيلاتها، فما هي خاصيات هذه الأولية الدفاعية التي يستوي أمامها الرجال والنساء، الذين يطغى عليهم وعليهنّ الشعور بالعجز والضعف وانعدام القيمة، ويخشون ويخشين مترتبات التمرّد والمواجهة. ولكن، وبما أنّ موضوعنا الآن وهنا المرأة المستسلمة لمصيرها والمتماهية بجلادها أو جلاديها، سنستعمل تاء التأنيت.
- اجتياف عملية التبخيس:
تتواطأ المرأة الضحية مع الجلاد لاجتيافها عملية التبخيس التي تخضع لها، والتي تتضافر لتكريسها الأسرة ووسائل الإعلام والقوانين والمؤسسات الأمنية والرياضية والسياسية وغيرها، معتبرةً دونيتها جزءًا لا يتجزأ من طبيعتها وتروح تختزن مشاعر الإثم والدونية، وتزدري ذاتها وبالكمّ نفسه نظيراتها، وتقوم بينها وبينهنّ علاقة ازدراء ضمني لأنهنّ يعكسنَ لها مأساتها وعارها، فازدراء الذات، وانهيارها، يفجّر قلقًا لا بدّ من إفراغه على الخارج، على العناصر الأضعف والأقلّ حظًّا، إنّه نوع من التكيُّف السلبي مع وضعية استلابية.
إنّ المرأة التي تتواطأ مع جلادها، إنّما تهدف إلى التأقلم والتلاؤم مع الوضعية الراهنة بشكل يُخفّف من وطأتها، ويكفل شيئًا من الانسجام الوجودي، كما يكفل نوعًا من تحقيق الذات الظاهري، بالمحاكاة الموميائية لنظرة المجتمع الذكوري إليها.
يذوب المرء في الآخر أو في الجماعة، كلّما تعاظم الإحساس بالتهديد للذات والمصير، فكلّما ازداد الشعور بالقوة عند الكائن، نراه يميل إلى الفردية والاستقلال، وكلّما ازداد الشعور بالضعف فقد الفرد استقلاليته وحريته، وبتماهيها مع القوي، تفقد المرأة هويتها الذاتية، ولا يعود لها من هوية سوى هوية الرجل الذي تتماهى معه، ويرتفع منسوب التماهي بالرجل بما يتناسب مع مستوى الإحساس بالضعف والعجز وانعدام القيمة.
وينظر علم النفس التحليلي إلى تماهي الفرد أو الكائن، مع المتسلّط كأولية دفاعية، كوسيلة نضال ضدّ الموضوعات الخارجية المولّدة للقلق، وكتعبير عن الرغبة في الحلول مكانه.
تتواطأ المرأة مع جلادها، فتتبنّى مفاهيمه وقيمه واستراتيجياته بإتقان المتعلّم النجيب، الذي لم يتمرّد على معلّمه يومًا، ويُمثّل تواطؤها مع الجلاد نوعًا من الأوليات الدفاعية التي يقوم بها المقهور للتكيّف مع واقعه، وقبوله، ونبذ كلّ ما يُغريه بالتمرُّد والمواجهة والقطع.
ويغدو الآخر الشبيه هو المذنب، هو المقصّر، وهو بالتالي الذي يستحقّ الكبح والإدانة والتحطيم.
وتمسُّك المرأة بالتقاليد واحترام الأعراف ومراعاة العادات، يُعاش كمصدر للاعتبار الذاتي نظرًا إلى ما يتضمّنه من قبول اجتماعي، إنّ المرأة المبرمجة التي لا مكانة اجتماعية لها، تتّخذ من تمثّل التقاليد والأعراف ومراعاة العادات مصدرًا للشرف والاعتبار. وهي تتّخذ من قدرتها على مراعاة المعايير السائدة مصدرًا للكبرياء، والرضى عن الذات، ويتناسب هذا الأمر عادةً مع مقدار العجز الداخلي عن التصدّي والمجابهة، ومقدار الخوف من التمرُّد والتغيير. فهي تتوهّم تحقيق ذاتها من خلال الامتثال للنماذج والأدوار الجندرية التي تفرضها الأعراف والتقاليد والمقولات الدينية المقدِّسة لدورها وهويتها ووظيفتها.
ومن أجل تسويغ هذه الاستراتيجيات يختلط مفهوم العرف بالقانون، العيب بمفهوم الحرام، والزمني بالمقدس، ولن يعجز أرباب هذه الاستراتيجية عن إيجاد مسوغات ومستندات دينية فقهية، لتدابيرهم تجعلها غير قابلة للنقاش.
إنّه الخوف المكين، المتجذّر، من المسؤولية الذاتية والتحدّي والمواجهة والتمرُّد، والخروج عن المألوف، الذي يتغذّى من غياب ثقافة بديلة أو منظومة رموز ومعاني بديلة، فضلاً عن ندرة النماذج التي تتقن السيطرة على هذه الثقافة البديلة، وتجسدها قولاً وسلوكًا.
إنّ الوعي بالذات الآيل إلى السؤال والتمرُّد والمواجهة، لا يُمكن أن يولدَ إلاّ حين يكون للمضطهدين نظام بديل، لنظام الرمز والمعنى الخاص بأولئك الذين يُهيمنون عليهم، أي حين يُبدعون رموزهم الخاصة وطقوسهم الخاصة، ومعانيهم الخاصة، وتعريفاتهم الخاصة، وحين يتماهون مع إناث وذكور جسّدوا هذه الثقافة البديلة. ثمّة سؤال يطرح نفسه عن إمكانية تغيير صورة المرأة عن ذاتها أمام هذا الوابل من الأدلجة والتطويع.
- الثقافة البديلة:
على الضدّ من الافتراضات القائلة بأنّ الوعي بالذات عملية طويلة لانغراس البنى التمييزية من قاع اللاوعي في الصور والتمثّلات والاستعدادات Habitus التي تختزنها الأجساد وتعمل وفق آليات داخلية معقّدة، تكون حدود النسق، وتشكّله. ويعرف بيار بورديو الـHabitus، بوصفه أنساق من الاستعدادات المستدامة والقابلة للنقل، أنّها بنى مبنية، قابلة مسبقًا للاشتغال، أي باعتبارها مبادئ مولّدة ومنظّمة لممارسات وتمثّلات، من دون افتراض رؤية واعية للغايات والتحكّم الصريح في العمليات الضرورية من أجل بلوغها.
على ضدّ من هذه الرؤية، تقول رؤية أخرى إنّ العمليات المعرفية ليست طبيعية وغير قابلة للتعديل، وكأنّها قدر، لا بل إنّها تؤكّد أنّ الترسيمات والتمثّلات والأفكار المسبقة، واللاوعية، قابلة للتعديل وللكبح.
والتصورات حول أدوار النساء، والرجال، مثلهم مثل أدوار الأسياد والعبيد، ليست أمرًا يفرضه المجتمع على الفرد، ولا هي سمة تُعزى إلى تكوينه الفطري، بل إنّ النساء والرجال هم الذين يصنعون التمييز، وهم يقومون بذلك حين يختارون التصرّف بهذه الطريقة أو تلك، بطريقة دون أخرى، مقاومين بذلك موروثاتهم، وبصمات تنشئتهم والتواءاتها، ومقاومين كذلك ما ترسب في قاع لاوعيهم.
بمعنى آخر، إنّ غلبة الخطاب الذكوري، أكان دينيًّا او زمنيًّا، ومترتباته، على أي خطاب آخر، إنسانوي، حقوقي ، مساواتي، على عقول النساء ووجدانهم، وكذلك غلبة صور وتمثّلات أحادية ذكورية على صور وتمثّلات تقوم على وحدة الكائن البشري، فضلاً عن ندرة النماذج الأنثوية الواعية بذاتها وحقوقها، يجعلان عامّة النساء عاجزات عن إيجاد بدائل عقائدية تعينهنّ على بناء ثقافتهنّ الخاصة وعلى التخلُّص من استلابهنّ وتماهيهنّ مع الجلاد، الذي نجح في إفهامهنّ أنّهنّ لسنَ بأناسٍ إنّما هنّ أشياء، ومجرد كائنات هزيلة، ومستضعفة وجبانة، ولا بد أن تبقى على هذه الحالة بقوة التأنيب والتأديب والأدلجة.
إنّ معركة ترميم المرأة ذاتها، وتخلُّصها من الشعور بالهوان والخزي والضعف، والعجز والدونية، هي إحدى المعارك التي خاضتها النساء الناجحات الحرّات للخروج من زنزانة الأفكار الذكورية، والتي تعجز عن خوضها الكثير من النساء، فيتحوّلن إلى سجينات أو جلادات، فأي استراتيجية نسوية ترعى ذلك؟