هوامه الهوية واليات الصراع على الاصول



عامر عبد زيد
2018 / 8 / 15


في ظل الطفرات غير المحكومة بنسق ثمة مدارات جديدة تبزغ ومعها تظهر موجة من البحث عن الاصول بكل رمزيتها وأنظمتها العلاماتية وهي تحاول اختلاق او تذكر هويات او سرديات لها اصول جديدة تتجاوز ما هو مهمش في واقعها فالاختلاق او التذكر يمضي الى صناعة هوية او هويات المتشددة في واقعنا الاجتماعي والسياسي والعقائدي ، مما جعل من مشكلة الهوية اليوم تعد من اعقد المشكلات التي تواجه في العصر الراهن ، الكثير من الشعوب والمجتمعات الحديثة ذات الأصول القديمة حقيقية او مختلقة او حتى تلك التي تفتقد الانتماء الحضاري القديم على حد سواء وقد يرد هذا الى اهمية العامل الثقافي بوصفه نسقا مهما من أنساق الخطاب السياسي فالهوية الثقافة هي منظومة أو مجموعة من الأنساق والظواهر الاجتماعية التي تشكل ثوابت في حياة الإنسان.من خلال الاتصال والتبادل تظهر الذاكرة لها سردياتها التي تحيلنا الى اماكن وأزمنة ترتبط بالماضي المستعاد في الروي الاسطوري او النص المقدس او الحوليات التاريخية .لكن يبقى هناك بالمقابل لدى الفرد - وهو يتعامل مع سلطة الجماعة وسرودها في التذكر من اجل استيعابه واستيعاب افراد الجماعة - النسيان والتذكر الحر بتمهيد الطريق للانفلات من الجماعة والبقاء خارجها ،وهما آليتان مهمتان في مقاربة ضروب الاختزال .
يمكن تعريف الهوية للجماعة (بأنها الشفرة التي يمكن للفرد عن طريقتها ان يعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها ، والتي عن طريقها يتعرف عليه الآخرون باعتباره منتميا اليها )( )
فان البحث التكويني في مفهوم الهوية في الدراسات الغربية يمكن رصد من خلال ولادة مفهوم الهوية : هذا يعود مباشرة من المعنى اللغوي الانجليزي للمفهوم، وهو مشتق من اللاتينية identitatand / أو identitas ،وتعني الهوية والتي، بدورها ، مستمدة من identidem ، والتي تعني مرارا ( وهذا يعني حرفيا " نفس و نفس ونفس وهكذا مرارا ) . وغني عن القول ، يجب أن يكون مفهوما أن معنى " التشابه " في هذا السياق يقترن بمفوم الهوية بدلا من معنى " مماثلة " .
وتتضح دلالة التشابه أيضا في المعنى السوسيولوجي للهوية ، الذي يظهر في الهيكلية التقليدية لوظيفية الأنثروبولوجيا . اذ ياتي معنى الهوية بطريقة تفهم على أنها متجذره تاريخيا وثقافيا مع الصورة الذاتية لمجموعة من الناس التي كانت في الغالب قد رسمت خطها باتصالها بالمجموعات الاخرى من الشعوب . ويرتبط هذا المعنى من الهوية بالمفاهيم الأنثروبولوجية الأخرى ، مفاهيم مثل ( النظرة ، والقيمة ، روح ، وأخيرا وليس آخرا ، الثقافة ) ، والتي تقترح نوعا معينا من التجانس بين أفراد المجتمع ، وكان الرأي أن هوية الأفراد يمثل هوية مجموعة ما وثقافتهم . كما ذكر أعلاه، كان من المفترض أن هوية الأفراد تشير إلى هوية المجموعة التي ينتمون إليها ، وهو ما يتسق مع النظريات الأنثروبولوجية حول العلاقة بين الشخص و الجماعة أو المجتمع والذي يعتبر ان مجموعة من الناس ، اذ تشترك في نفس الهوية ذلك، لأنها مشتركة في نفس التاريخ. وعليه يكون المجتمع الذي ينتمون إليه مجتمعا صلبا و غير قابل للتغيير .
النتيجة التي يمكن استخلاصها من هذه الرحلة الوجيزة في الأنثروبولوجية التي تقدم تفسيرات للعلاقة بين الثقافة و الشخصية، أو ،بين الثقافة والهوية ، هي أن تحليل هذه المفاهيم على المستويين الاجتماعي والفردي كانت تشترك في نفس الافتراضات من التشابه والاستقرار. في السنوات الأخيرة، فإن التركيز على التجانس الأنثروبولوجي والديمومة قد سقطت تدريجيا في حالة من الفوضى. لنفس الاسباب ، أيضا ، فقد كانت مفاهيم الثقافة والهوية تناقش بشكل مكثف ، وكذلك العلاقة بين ألاثنين وقد تعرض مفهوم الهوية لانتقادات كثيرة ليس فقط لافتقاره إلى القوة ألتفسيرية ولكن أيضا ، للمفارقة ، السردية المتعلقة بمفهوم الهوية التي هي من سمات عصر العولمة المعاصرة ، اذ لم يكن من الممكن أن تفهم على أنها التعبير عن التجانس الاجتماعي أو تمثيل للحقائق الثابتة.( )
بالمقابل ظهرت مجموعة من الدراسات تحاول تجاوز التوصيف الليبرالي عن الهوية الفردية ، فأنها ترى ان الفرد يوجد دائما في وضعية اجتماعية وثقافية معينة ، ويخضع دائما لتجربة ثقافية تمنح معنى لوجوده ، و أن الفرد بقدر ما هو كائن ذاتي يتمتع بقدرات شخصيه ،فإنه في الوقت نفسه كائن موضوعي ؛ لأنه عضو وعنصر في جماعة معينة تساعده على تشكيل هويته في الوقت نفسه .
يرى تايلر ، ان المجتمعات التي تعرف تعددا ثقافيا يصبح فيها الاعتراف حاجة ضرورية وملحةً ، وذلك بالنظر إلى العلاقة القائمة ما بين الاعتراف والهوية فالهوية هي شيء أشبه بالإدراك الذي يمتلكه الأفراد حول أنفسهم والمميزات الأساسية التي تحددهم بوصفهم كذلك .( )
اما على مستوى العالم الثالث فيقدم لنا الباحث الهندي تصوران عن الهوية الاول ايجابي فيما الثاني سلبي اما الاول والذي اكدته الدراسات في مجال الراسمال الاجتماعي فان الهوية المشتركة مع الآخرين في الجماعة الاجتماعية نفسها يمكن أن تجعل الحياة الجميع تسير بشكل أفضل كثيراً في هذه الجماعة ،لهذا ينظر الى الشعور بالانتماء إلى جماعة انسانية ما بوصفها احد مصادر الثروة لكن مثلما يمكن ان تكون الهوية مصدرا للثراء والدفء ، كما يمكن ان تكون مصدرا للعنف المروع وهذه الصفة الثانية للهوية المتأزمة والذي يمكن ان تكون الهوية (اداة قتل مروعة ، وبلا رحمة في حالات كثيرة ،يمكن لشعور قوي ومطلق بالانتماء يقتصر على جماعة واحدة ،أن يحمل معه إدراكا لمسافة البعد والاختلاف عن الجماعات الأخرى .فالتضامن من الداخلي لجماعة ما يمكن أن يغذي التنافر بينها وبين الجماعات الأخرى )( )
اما تجليات الهوية في الواقع العربي الذي يعيش تحولات الربيع العربي وما يرتبط به من صراعات تحولت الهوية الى اشكالية تكشف عن المشكلة المتضمنة في العنف والإرهاب فهذه المشكله بحاجه الى تحليل فكري ونقدي من خلال طرح الاسئلة وتحليل النصوص المؤسسة لها وتفكيك الوقائع التي قادة الى تضخم المشكلة وتحولها الى وعي مازوم يهدم التعايش ويحيله الى خراب ويفكك الروابط القارة ويزيلها فالوعي المازوم وليد مهيمنات واطياف تشكل ضاغطاً وارغامات على الوعي من اجل اتخاذ القرارات ؛ فهذه الارغامات تمثل ضاغطاً في تشكل الوعي الثقافي وبنية استجابة ايضا من خلال الردود إيجابا أو سالباً وهذا أمر مرتبط في علاقة الذات بالتراث او بالأخر واللغة الصراعية وما يصاحبها من اطياف التي تتحول الى سلسلة الحضور المنمطة ولما كان ظهور الطيف عابرا ومفاجئا ، فأنها لا تحدد الزمن ، ليس هذا الزمن ، يدخل الشبح ، يخرج الشبح ، يعود ثانية .
ومن هنا تغدو الهوية الرهان لكونه يمثل أهمية طرح المشكلة الهوية التي اصبحت تعتبر راهنية تكشف عن واقعنا بكل رهاناته والذي نعيشه الان والذي يدفعنا الى ضرورة طرح هذه المشكلة بحثا عن حلول وتفكيك المهيمنات الضاغطة على واقعنا من اجل استعادة الثقة .نجد من الضرورة تفكيك "هوامه الهوية" التي تحولت إلى مقولة إيديولوجية دوغمائية وذريعة من اجل المحافظة على مصالح المهيمنين على الأمور الذين يجدون في الهوية المازومة تعبيرا عن مصالحهم ،وامتيازاتهم وهذا الأمر يخلق قصورا معرفيا له إثاره السلبية على النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية .في رهانتي الانقسام المجتمعي على اساس الهويات الفرعية ودور الدولة القائم على كبح جماح الهويات او الاعتراف بها من خلال مقولة التعددية الدينية والاثنية .وبين المواقف الثقافية لدى المثقفين العرب سواء كانوا ليبراليين او قوميين ام ماركسيين فهم جميعا ياخذون موقفا يقوم على نفي الهويات الدينية فالليبراليون( يفهمون انتماء الفرد إلى جمعية مذهبية أو دينية على انه تاكيد لحضور الجماعة وتعميق لمركزيتها على حساب الفرد )( ) لكن رغم تلك المواقف الا اننا نجد ان للثقافة دورا فاعلا لايمكن تحجيمه بالنفي او اصطناع هوية مركزية للدولة تلفيقية ترضي الجماعة الحاكمة لكن هذا لاينفي ان الثقافة تبقى هي عملية تطور المهارات الذهنية والمعنوية سواء ما يتعلق بالفنون والآداب أو ما يتعلق بالمهارات التقنية فهي لابد وان تقوم على الثقة بالذات والانفتاح الحواري ألتعددي صوب الأخر تثاقفا حواريا دون إن يعني بالضرورة تقليدا أو نسخا إنما تبدأ الأمم بالهزيمة عندما تشرع بالتقليد ومحاولات الاستنساخ فالثقافة وتدخل الاستلاب الفكري.بعد كل هذا فالثقافة بنظر" امالينوفسكي" هي جهاز فعال يمكن الإنسان من الانتقال إلى وضع أفضل يواكب المشاكل التي تواجهه في بيئته . وبالتالي الثقافة هي القدرة على التكييف والتطور في مواجهة الإنسان مع الطبيعة ويعرفها "تايلور" هي ذلك الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفن والاخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والمهارات الاخرى التي يكتسبها الانسان من حيث هو عضو في المجتمع أي ان الثقافة هنا هي تجارب اجتماعية تحول الى منظومات سلوكية قيمية وعادات ومعارف ومهارات وهي بالتالي تجارب قابلة للزيادة والتجاوز نحو الافضل لانها تبقى تاريخية ومرتبطة بالبيئة التي ظهرت داخلها استجابة لتلك التحديات وبالتالي هي تأويل وتحويل لعلاقة ألانسان بالله وبالمحيط الطبيعي والاجتماعي.

فالثقافة حسب هذا الفهم هي وعي حضاري وافق التقاء الافاق وانصهارها بين الماضي والحاضر صوب المستقبل وهذا لايتحقق الا بتلك الرؤية التعددية الحوارية التي تتجاوز وهم الهوية وتنفتح باتجاه الاخر سواء كان التراث او الاخر الحداثوي او مابعد الحداثة وهذا التحول الذي اصاب الفكر في منطق الثبات حيث الطبائع الثابتة والمرايا العاكسة الى منطق التحول الذي يجري فيه تهشيم المرايا لاعادة تشكيل الموضوعات وهذا هو شان منطق التفكيك الذي يريد القول غايات الخطاب هو ان نميز ما يقوله أو ما يحاول قوله ، وفي هذا يقول علي حرب :
فهويتنا لاتسبقنا وانما هي محصلة الاحداث التي تنسج منها حياتنا وهو حال الفكر الذي يتغير بتغير العالم اذ لايمكن التعاطي مع افكار قديمة تأولت لزمان غير زماننا لهذا نحن بحاجة الى تاويلات جديدة عبر تجاوز الممارسات التي خلفتها الخطابات الاجتماعية والسياسية السابقة التي اثرت على الوعي السياسي الراهن فهناك ، لابد من حالة تناسب بين الثقافة والفكر السياسي بوصفه جزءا من كل ثقافي ، له سلوكياته ورهانه فالافكار ليست مجرد صور ومرايا بقدر ماهي استراتيجيات معرفية لفهم العالم والتعاطي معه تحويلا وتاويلا وتفكيكا . فالتفكير كما يرى شرابي : يحمل رؤية قادرة على تمكين الذات من اختراق ذاتها لتعمل على تفكيكها وتحليلها .
فالهوية في ابسط تعريف هي ادراك فردي وجمعي وبالتالي فالهوية تستهدف اقامة علاقة حوارية بين الذات الفردية والذوات الاجتماعية والثقافية والكونية ، وعلى هذا الاساس تكون الهويه على اساسين :
اما ان تكون وعيا فرديا نقديا يخضعها الى المراجعة المستمرة فتوصف انها "حوارية" او تكون خارج النقد الفردي والمراجعة ومتعالية فهي بهذا التوصيف "صراعية"وبالتالي يشعر الفرد ازاءها بالاستلاب بحق الاخرين ؛ لانها تحتكر انتاج الحقيقة وتفسيرها اذ يوصف الوعي هنا بالزائف له دلالته الخاصة ، كما يقول عباس المرشد(فهو يعني سكون الاخر في الذات وتغيب ادراك الذات لنفسها،مما يخلق علائق متنوعة،لكنها ليست مدركة،حيث تمحى الذات وتغيب ادراك الذات لايحضر بصورته الواقعية وإنما عبر تمثلات وسرديات تعلي من شأنه الى درجة عالية جدا)
وهذا الوهم القائم على محو الذات، الذي يتجسد في ذوبان شخصية الفرد داخل الجماعة :
القبيلة التي تركز على علاقة الدم ، فان هذا الاعتماد يولد فردا يقوم على العصبية فاقدا للاستقلالية معتمدا في سلوكه على المرجعية خوفا من الخطا وطلبا للامان وهذا السلوك نجده يتناسل داخل الطائفة او الحزب او الجماعة الثقافية اذ يتولد سلوك يعتمد على الإخفاء والكبت للمشاعر الفردية وهذا السلوك قاد بالضرورة الى أخلاقيات الإذعان للسلطة التي بات النظام السياسي ورئيسه هو الرهان الأكبر الذي يكبت المشاعر والاحتياجات والطموحات مما خلق سلوكا سياسيا مرتهنا للفرد يعظمه بشكل مغرر ومعه يقدس المرجعيات الجمعية العرفية ورموزها وانتهاج سلوك من اجل التماس والتظلم والترجي قاد هذا الى تعاظم سلطة المؤسسة على حساب الحقوق الفردية والحريات الشخصية حتى أصبحت الهوامة الأكبر في سلوكه-أي الفرد- الذي يقصي ذاته ويرتهن الى أخلاقيات الإذعان والتقليد والتمثل مما قاد تلك المؤسسات وعلى رأسها المؤسسات السياسية الى الهيمنة والإقصاء للحريات الفردية واستبدت بقدرات الأمور الاجتماعية والسياسية والثقافية عبر سياسة الردع البوليسية والتخوين والتكفير لكل فرد جامح بنظرها يطالب بالتغيير والتجديد والحريات
.
ومن هنا نحن بحاجة الى تفعيل دور الادراك والعمل دون تغييبه في احداث التحويل والمغايرة وابدأ النقد وكما يقول هيدجر البداية ليست خلفنا انما هي امامنا . أي لايكفي السير في نفس الطريق ونتصور بداية ما ، لكن المسالة تكمن في ان نعرف كيف تكون البداية عندما لا يتمكن نظام ما حل مشكلات يصادفها ، فليس عليه الا ان يموت ، او ، وهنوا يحصل ، ان يخلق ميتا ، نظام ، أي نظام اكثر غنى ،اكثر قوة عبر طريقة تحويلية ، لهذا السياسة اليوم مشغولة بالتكتيكات والاستراتيجيات من اجل اقتناص السلطة وممارساتها واغلب السياسيين مشغولون بالمسالة القانونية اكثر مما هم مشغولون بالمسالة الشرعية بمعنى ان الخطاب السياسي ليس مشغولا بالمشروعيات المتعالية بل البعد العقلاني اليومي الذي يستجيب لهذا المتغير.

انطلاقا من هذه الرؤية التحويلية التي هي بمثابة اطروحة هذا العمل الذي يتسم بالتنوع المعرفي والايديولوجي الا انه ينشد هدفا مركزيا قوامه رصد الواقع المازوم من خلال مفردة الهوية بوصفها لحظة تحتاج الى الرصد وتحديد طباعها وافكارها والاشكالية وتركيبها التي وردت فيها باعتبار هذه الاشكالية واحدة رغم تنوعها وتشظيها لان هناك الكثير من الروابط المنطقية والمعنوية الرابطة والتي تجعل منها تحتل راهنية ضاغطة على الواقع بكل تجليات ولان تنفع عملية تغيب تلك المشكلة او التعالي عليها او تصديرها الى عبر ادعاء المؤامرة ؛ فهي جزء حاضر في واقعنا تحتاج الى تحليل وكشف الاسباب سواء كانت مسكوت عنها تحول السلطات من مناقشتهاوتفرض عليها التحريم او التعتيم او اللامفكر فيها لكونها خارج المنهجيات الايدولوجية الشمولية التي كانت لاتجد هذه المشكلة ممكنة النظر او الرصد وبالتالي لامفكر بها ضمن تلك الاطر المعرفية والايديولوجية ، تاتي هذه المحاولة من اجل المساهمة في تقديم حلول وتخليق عالم اكثر قدرة على المواجهة بما يمتلكه من علمية وموضوعية .