سنابل فارغة



عامر بيبو البابيري
2006 / 3 / 30

لازالت تقاوم جهنمية حياة لا تأبه إلا بالمضي بعيدا حيثما تشاء و تأبى الانصياع لرغبات سنينٍ همها الوحيد سحق معالم ما تبقى لنا من وهم سببية استمرار أُقحمنا به و غرقنا في تكويناته الهوجاء الغائرة تحت فضاءآت مزقت الأشياء و حَطّت من قدسية البقاء المفترضة. لقد تخطت حاجز الثمانين عاما و هي تصارع شيخوخة اكتسحت تفاصيلها التي بقت لزمن طويل تهذي بفتنة اغتالت كبرياء الذي هام بها منذ ذلك اليوم الذي ابتسمت له عيناها الغافية على امتزاجات سواد و بريق صارخ في وجوه متعطشة لرونق لم يدغدغ أرواحهم الثكلى برهبة الم اختلطت في أفئدتهم و صارت رمزا لفجور أشياء بليدة ارتوت منها أدمغة عفنة حطمت بمخالبها عظمة الطبيعة الفانية منذ أول أيام الأزل..
لقد تأكدت من توسلات كانت تنثال من عينيه التي لم تنفك يوما عن ملاحقتها و التضرع لها بالتفاتة أو رأفة منها تنير له نهارات لم ترى نوراً منذ هبطت روحه من رحم سماء أثقلتها رجاءآت انبعاث مجهول احتضرت تحت سخرية حقد تفجر فوق أمنيات خطوة ارتج بها طفل رضيع ظّن ببراءة الأقدار الماجنة عندما زرعته فوق ارض عاهرة.
لم يكترث يوما لعدد الساعات التي قضاها ينتظر فيها عودتها من البئر المتمسك بالبقاء الشامخ عند نهاية القرية الحالمة بعفوية و لحن وجود أفرَحَهُم و أبكاهم ألف مرة بعزاء وحيد لا يتعدى قنديل من ابتسامات كاذبة أنستهم لعنات مضغوها بغير اكتراث.. كانت رائحة الخراء التي تقيئ منها عدة مرات قد استحالت فيما بعد لعبق طيب عندما تعود الوقوف عند منعطف زقاق يودي لمنزلها الذي يجلس على أطرافه الضيقة عشرات من أطفال يتغوطون و يتبادلون أحاديثهم الممتعة المليئة بمغامرات و خيالات خصبة بلذة عجيبة تنسيهم فضاعة مظاهرهم و روائحهم التي لا تطاق.. لكنه استطاع بعد اقل من عام من الظفر بها و بات حلمه الوحيد حقيقة ثابتة أمام عينيه عندما انتقلت إلى بيته الغارق في تصدعات رضخت تحت سوط زمن قذر و حولته لروضة تعج بازاهير حب لملمت سنينه الثلاثون و رفعتها لبوتقة طفولة لا تنتهي.
كانت أخته الوحيدة ذي السادسة عشرة من العمر منزوية كمثيلاتها عن معالم الوجد و لم تحترف في حياتها غير عمل أرادت به طمأنة والدتها المتوفية منذ سنتين أن ترعى أخاها الوحيد الذي لا يملك غير سذاجة مكتظة بقلق أعمى و غياب دائم مع انه كان لها بمثابة أب فقدته مع مطلع طفولتها الأولى غير أنها لم تعامله على أكثر من انه فتىًَ ضل الطريق.. لكنها تعلم انه لن يعود..!!
كانت تكتفي بأدنى متطلبات البقاء و أنها اجترت كثيرا اصطبارات حمقاء كي توفر لأخيها الحبيب شيئا من مالٍ احتار في الحصول عليه في وقت لا يمكنه احتمال أية أعمال قد تؤذي ظهره المشبع بالبطالة..!! كانت هي من توفر له كل شيء من لفافات سجائر و ملابس و حتى نقوده التي كان تنفذ في المقهى الممتلئ بأولئك الغافلين و المستسلمين لحتمية فناء كاسر.. لقد حَرَمت نفسها من كل شيء حتى حذائها المهترء فإنها لم تكن تطمح لاستبداله و كانت كثيرا ما تجلب الماء و هي حافية بين تلك الأدغال المتناثرة على طريق البئر!! أما أرباب العمل الذين التحقت معهم فإنهم لم يرحموا عمرها الغض، لأنهم كانوا دائما كوحوش لا تعرف الشبع و لم ينفكوا عن المطالبة بالكثير من عمال القرية الفقراء..
كثيرة هي ألليالي التي كان يجلس على أنين أخته المنهكة و المثقلة بالوجع.. (لم أرى أغبى منه!! هو أيضا كان يئن بحزن عميق و يبكي بمرارة تهز النفس واعداً نفسه كل يوم انه سيمنعها من العمل من الغد و انه هو من سيتكفل أيامهما القادمة.. و كم اقسم برفات أمه بهذه الأشياء!!.. لكن ما أن يأتي الصباح حتى يهم بالخروج لمتاهاته الأبدية).. كانت زوجته التي أصبحت سيدة المنزل فيما بعد أسيرة ماضٍ اليم فقدت على يديه حنانً وهبته هي أيضا لشقيق أبله قضى حياته لاهثا خلف أذيال زوجة متسلطة و راميا أخته التي جفت فيها ينابيع الرحمة و بدأت تتفنن الحقارة و تجيد شتى أشكال تجريح شقيقة زوجها واستطاعت بعد بضعة أسابيع أن تمحو اسم الشقيقة اليتيمة من اهتماماته و محبته التي لم تجني منها شيء يذكر