المرأة في المهدية - 1885 - 1898



تاج السر عثمان
2018 / 10 / 19

المرأة في فترة المهدية
(1885- 1898 )
بقلم : تاج السر عثمان
تناول الإمام المهدي قضية المرأة و حدد موقف الدولة منها ، فقد أمر الإمام المهدي بحجر النساء ومنعهن من الخروج إلى الشارع والمشي بطرقات الرجال الذين لا عصمة لهم إلا بهذا الحجر ، يقول في إحدى منشوراته : " وما دام أن طلب الله هذا معلوم ، وأن أكثر الناس في هذا الزمن لا يقفون إلا بالحجر والحجاب وجب أن نحجر جميع النساء من الخروج والمشي بطرقات الرجال الذين لا عصمة لهم ولهن إلا بهذا الحجر ، سيما وقد قال ( ص ) : باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء ، وقد قال ( ص ) لابنته فاطمة عليها السلام ( ما أحسن ما تكون عليه المرأة ؟ فقالت الا يراها رجل ولا ترى رجلا ) فعجبه ( ص ) هذا الجواب فقال ( ذرية بعضها من بعض ) . ثم يبين الإمام المهدي من يجوز لها الخروج إلى الأسواق مثل البنت الصغيرة التي لا تشتهى أو متجاله، ومن انقطع ارب الرجال عنها . ثم يوضح الإمام المهدي أن من خرجت بعد التنبيه بثلاثة أيام تضرب مائة سوطا زجرا لها وعبرة لغيرها ، ثم يسند أمر القيام بذلك إلى حاكم السوق في السوق ، وكل أمير فيما يخصه من نساء الذين هم مأمورون بإتباعه وإذا خرجت امرأة عن ذلك كان حكم أمرها عند القاضي". ( محمد إبراهيم أبو سليم :منشورات المهدية : 298 ) .
كما حدد عقوبة المرأة التي تقف كاشفة الرأس، أو تتحدث بصوت عالي ب 27 جلدة ( نفسه : 298 ) . وحرّم سلام النساء على الرجال وقرر 100 جلدة للسلام بالكتف، و500 جلدة مع صيام شهرين أو عتق رقبة للسلام بالعناق ، ولكنه أجاز خروج بعض النساء للسوق ولكن تحت شروط ( نفسه : 302 – 178 ) .
وفي منشور صادر بتاريخ 19 / 10 / 1884 م ، نهى المهدى عن الملاهي مثل : المعازيف والدلاليك والنقاقير والنحاس لا يضرب الا في وقت الحاجة اليه في دعاء الجيش للجهاد ( المنشورات 166 ) . ما يهمنا هنا منع الدلاليك والتى كانت تخص المرأة في غالبها.
سردنا أعلاه تشريعات المهدى حول المرأة والأحوال الشخصية ، ولكن الأفكار والتشريعات شيء والنظام الاقتصادي الاجتماعي الذي نتج من الثورة المهدية شيء آخر ، فهذا النظام نفسه والذي تميز بالحروب والتفاوت الطبقي والاجتماعي والتمايز الصارخ في الثروة والغنى دفع بالمرأة للنشاط التجاري والذي كان من السمات الأساسية لمجتمع المهدية ، أي أن المرأة خرجت إلى العمل في فترة المهدية ويهمنا هذا الجانب الجوهري.
معلوم أن الخليفة عبدالله عين للنساء مكانا خاصا بالسوق ، ونعلم أن المهدى سمح للنساء اللائي خرج ازواجهن للحرب بالسعي لكسب رزقهن ، وجاء الخليفة فاصدر أمرا محددا سمح فيه للنساء بالاشتراك في التجارة ، فقد كتب لأحد عماله في الشرق عندما منع عثمان دقنه النساء الخروج الى السوق قائلا : ( حيث أن منع الحبيب عثمان دقنه النساء الخروج، وتذكروا أنه موجود بالبلد نساء الجهادية المشغولين بخدمة الدين ، وأن أمور معاشهم متعلق بالأسواق وترغبوا صدور الأمر بما تقتضيه المصلحة العامة ، والحال ياحبيبنا النساء اعملوا لهم سوق لوحدهم والرجال أيضا ( محمد سعيد القدال : السياسة الاقتصادية في المهدية ، 1986 ، ص 79 ) . وكانت النساء الكبار في السن هن اللائي يقمن بالعمل في السوق ، حيث يقمن ببيع الزيت والشحم والفواكه والتوابل والأدوية والذرة والبلح والخميرة والماء ونادرا ما كانت الفتيات يمارسن التجارة .. وحسب ملاحظة اهرولدر : ان نساء البقارة لهن فطرة تجارية اقتحمن بها مجال السوق واجدن فن التجارة ، ولكن الأمر لا يتعلق بفطرة تجارية خاصة بنساء البقارة وحسب ، ولكن كما أشار الرحالة التونسي عندما زار دارفور ، أن نساء دارفور يشاركن الرجال في كل عمل وكل شيء الا الحرب ، وبالتالي ، فان نساء دارفور كانت لهن خبرة سابقة بالتجارة ، وأصبحت تلك الأسواق نواة لما يعرف اليوم ( بسوق النسوان ) .
ويقدم د .قدال ملاحظة جيدة وهى أن عنصرا اجتماعيا جديدا دخل مجال النشاط الاقتصادي وساهم فيه بفعالية ، وأن تلك المساهمة كانت من مدخل متخصص اذ أن النساء كن يبعن المنتجات المنزلية التى كانت تنتج في الماضي للاستهلاك المنزلي ( نفسه : 80 ) .
ونلاحظ أيضا وبصورة محددة أن الظروف الاقتصادية هي التي دفعت بالنساء للعمل في السوق ، وخاصة نساء الجنود والأنصار ، فقد كان مرتب الجندي الأنصاري خمسة قروش ، وكما يشير قدال ، ولعل ضعف الدخل الشهري للأسرة هو الذي دفع النساء للعمل في السوق. ( نفسه : 176 ) .
وكانت المرأة تعمل في صناعة النسيج وخاصة في أرض الجزيرة وبربر وصناعة الحصير والأطباق ، ويشير سلاطين باشا إلى أن نساء دارفور على مهارة خاصة في صنع الحصر المذكورة التى توضع بين ثناياها بعض الخرزات الزجاجية مما يؤدى إلى اكتسابها رونقا جميلا جدا ( سلاطين باشا السيف والنار في السودان ) .
من جانب آخر نجد أن المرأة لعبت دورا كبيرا في انتصار ودعم الثورة المهدية ، ويحدثنا شقير في تاريخه : أن امرأة كنانيه تدعى رابحه رأت حملة راشد ايمن ( والتي كانت تعتمد على الكتمان والمباغته ) فقامت مسرعة حتى وصلت محمد احمد في الثلث الأخير في ليلة الخميس 16 محرم سنة 1299 ه ، 8 / ديسمبر سنة 1881 واخبرته بمسيره اليه ( شقير : 657 ) . واستعد المهدى لها وهزمها شر هزيمة وهذه واحدة من اسهامات المرأة كمصدر للمعلومات والتي تعتبر مهمة وحاسمة في الحروب والمعارك .
ويحدثنا محمد احمد المحجوب عن دور النساء والناس العاديين في المهدية ويقول ( مثال على ذلك انه في بلد لم يكن للنساء فيه سوى دور أدنى منذ زمن طويل ، كانت النساء السودانيات الجاسوسات الجالسات يتسولن هن اللواتى كشفن دفاع غردون حول الخرطوم ، وتسللن ليخبرن المهدى بذلك وساعدنه على مهاجمتها واحتلالها في سنة 1885 م ( المحجوب : الديمقراطية في الميزان : 20 ) . أي أن المرأة لعبت دورا مهما في العمل السرى وفي مد الأنصار بالمعلومات المهة عن العدو ودفاعاته وهذه واحدة من ابداعات المرأة في المهدية.
هذا إضافة لدورها في المعارك ، ودق النحاس من أجل التجمع والثبات في المعارك بالنسبة للمحاربين السودانيين سواء كانوا في صف المهدية أو في صف المعارضين لها ، يقول د . شبيكه عن زوجة طه ابوحيدر ( الذي قتل في إحدى المعارك فضربت زوجته النحاس وظلت تنادى بجنده للتجمع والثبات وأبدت بسالة لم تعهد في امرأة مثلها ( السودان والثورة المهدية : 63 ) .
جذور موقف المهدى من المرأة ، يمكن أن نلاحظها في فترة مبكرة قبل إعلان المهدية في خلافه وصراعه مع شيخه محمد شريف نور الدائم ، فقد كان الشيخ محمد شريف نور الدائم كما جاء في تاريخ شقير يقّبل النساء في مجلسه ويسمح لهن بتقبيل يده ، فأخذ محمد احمد يندد بذلك ويجاهر بأنه مخالف للشرع والإسلام ، واحتفل الشيخ محمد شريف بختان بعض أولاده فدعا جمعا غفيرا من تلامذته واذن لهم في الرقص والغناء وكان محمد احمد حاضرا فنهى أصحابه عن ذلك وقال ان الشريعة تمنع الرقص والغناء فليس في وسع أحد أن يجيزهما ولو أنه شيخ الطريقة ، وبلغ ذلك محمد شريف ، وكان قد بلغه تنديده عليه بقبوله النساء في مجلسه ، فاتخذ تطاوله هذا ذريعة لشفاء غليله منه واستحضره ووبخه توبيخا شديدا ومحا اسمه من الطريقة ( شقير : المرجع السابق ) .
جذور موقف الإمام المهدي من المرأة نلاحظه في زواجه الأول من ابنة فاطمة بنت حاج ، ففي حفل زفافه كان له موقف، فقد اجتمع الرجال والنساء ليرقصوا مختلطين كعادتهم في مثل تلك الليالي فمنعهم ( قدال: لوحة : 39 ) . ، ثم تشاجر مع زوجته ، يبدو أن طول تنقله بين خلاوي العلم دون عمل منظم وبداية انعطافه نحو التصوف قد قعدا به عن ممارسة عمل ثابت يكسب منه قوته ، وكان يقضي جل وقته في المنزل مكبا على القراءة ، وفي مرة كان منهمكا في قراءة القرآن فدخلت عليه زوجته واختطفت منه الكتاب وحثته للبحث عن عمل ، فما كان منه الا أن طلقها ( نفسه : 39 ) .
وفي زيارة المهدى الأولى للابيض لاحظ تفسخ وتحلل مجتمع الابيض التجاري ، ويروى أن المهدى في الابيض سمع في إحدى الليالي طبولا وموسيقى وعلم أن احد تجار الرقيق سيتزوج غلاما اسمه ( قرفه) ، فصحب معه بعض أصحابه إلى مكان الحفل، وهناك أمسك سيفه وهم بضرب عنق الرجل ، لولا أن حال أصحابه دون ذلك ، فاتجه من فوره الى مأمور ( الضبطيه ) يشكو الأمر ، فقابلهم المأمور بالإهانة والازدراء وصاح فيهم ( الدنيا حرة ). ( إبراهيم فوزى : 73 ) .
وهكذا يمكن أن نخلص الى الآتي فيما يختص بتطور المرأة في المهدية :
1 – النظام الاقتصادي – الاجتماعي الذي نشأ بعد الثورة المهدية وما اكتنفه من حروبات وفوارق اجتماعية فرض على المرأة الخروج بشكل واسع في المدن بهدف العمل التجاري وإنتاج المنتجات المنزلية من أجل السوق ، وهذا هو التطور الاجتماعي للمرأة في هذا الجانب .
2 – هناك الكثير في تشريعات المهدى لم تأخذ في الاعتبار واقع المرأة في المجتمع السوداني يومئذ والتي كان لها دور كبير في النشاط الاقتصادي ، وخاصة في قطاع أغلبه تقليدي ( معيشي ) فكانت المرأة تعمل بالزراعة وبناء المساكن والتجارة ( نساء البقارة ) ، أي أن خروج المرأة كانت تفرضه الضرورات الاقتصادية ، وبالتالي واجهت المهدية صعوبة في حجر النساء وحجابهن ، وأخيرا كان المهدى – ومن بعده الخليفة – مرنا حين سمح للنساء بالعمل التجاري في السوق.
3 – ولكن هناك جوانب إيجابية في تشريعات المهدى مثل: منع الزواج بالإكراه واصراره على أن العلاقة بين الناس روحية وليست مادية ، فالرجل لا يتزوج المرأة التي ترفض الزواج ، وأمر بطلاق امرأة تزوجت وهى مرغمة ، وكذلك تخفيض نفقات الزواج ، ولكن كانت هناك تشريعات وضعيه سلبيه تجاه المرأة مثل : جلد المرأة التي تخرج للسوق وفي الطرقات 100 جلدة ، وجلد التي تقف كاشفة الرأس أو تتحدث بصوت عالي 27 جلدة، وحرّم سلام النساء على الرجال، وقرر 100 جلدة للسلام بالكتف، و50 جلدة مع صيام شهرين للسلام بالعناق ، وحرّم حتى خروج بنت الخامسة على أن يقوم أهلها بسترها ، فان اهملوا يعاقبوا بالجلد ، هذا إضافة لعدم واقعية تلك التشريعات وخاصة في المجتمع السوداني يومئذ والتي كان للمرأة فيه دور اجتماعي كبير ، كما لاحظنا في مجتمعات الفونج والفور والحكم التركي .. بل حتى أن شيوخ الطرق الصوفية أمثال محمد شريف كاموا يتعاملون مع هذا الواقع دون حساسية ، ويحدثنا ودضيف الله في طبقاته عن قبول كثير من شيوخ الصوفية مثل الهميم وإسماعيل صاحب الربابه والشيخ حسن ودحسونه للغناء بالربابه والدلوكه . أما الشيخ حمد ود امريوم فقد كانت النساء موجودات في حلقاته الدراسية ، أي أن هؤلاء الشيوخ تعاملوا مع هذا الواقع الموضوعي.
4 – لعبت المرأة دورا بطوليا في الثورة المهدية ، في تثبيت المقاتلين والمحاربين ، وفي اتقانها فنون العمل السرى والاهتمام بالمعلومات ونقلها للقيادة في الوقت المناسب ، والتي كانت حاسمة ومهمة في كثير من معارك المهدية .
مراجع : -
1 - تاج السر عثمان الحاج : دراسات في التاريخ الاجتماعي للمهدية ، مركز عبد الكريم ميرغني 2010 .
2 محمد إبراهيم أبوسليم (تحقيق): الآثار الكاملة للإمام المهدي (1- 5)، دار جامعة الخرطوم للنشر
4- محمد سعيد القدال : السياسة الاقتصادية للدولة المهدية ، دار جامعة الخرطوم 1986.
5– محمد سعيد القدال : الامام المهدى – لوحة لثائر سوداني – دار جامعة الخرطوم 1985 م .