الجنس من التلقائية إلى التنظيم والتنمية


المنصور جعفر
2018 / 11 / 4

منذ زمان طويل تحتدم النقاشات تتداخل التعاملات الثقافية والنفسية في موضوعات الجنس والعنف ضد المرأة والحرية الجنسية مع جدل الخصوص الفردي والعموم الإجتماعي. ويحاول هذا المقال إظهار بعض أفكار هذه النقاشات وإظهار بعض الجوانب السياسية والمعيشية المتعلقة بها وطبيعة السياسات اللازمة لتخفيض تناقضات الموضوع الجنسي في ثقافة ومعيشة الناس ولتخفيض تناقضات ثقافات ومعيشة الناس في الموضوع الجنسي. كما يهدف المقال إلى الإشارة إلى الصعوبة المنطقية لإتخاذ أو إنتظار أي سياسة حكومية في المجال الجنسي وكذا صعوبة تحديدها لوزن أو صلاحية الصحة الفردية أو الإجتماعية في مجال الجنس.

لوزن السياسي بين افكار نشاطات التفريد والتعتيم وعمليات تخديمها في عملية تنمية اجتماعية ومجتمعية وزن تدخل فيه أعمال ترتبط بوزارات، منها وزارة الصحة، وزارة التربية والتعليم، وزارة الإعلام، وهي أعمال تتداخل مع جهود خبراء آخرين وهيئات علمية هدفها القيام بترتيب استراتيجي لتنظيم موارد وعمليات هدفها أنسنة المجتمع وجعل صورة كل فرد من أفراده "إنساناً" في أذهان الآخرين من بقية أفراد المجتمع الآخرين.

في جهة تبدو غير سياسية يحاول بعض الناس علاج أزمات المجتمع في موضوعات الجنس من خلال التحكم في ملابس المراة بالدعوة إلى تقييدها أو حريتها بينما تحجب إمرأة أو تعريها لا يحل أزمة القهر و العنف ضد النساء فتصرف التحجب أو التعري لفترة ليس كافياً لتغيير مجتمع، كذلك التعري بإستمرار في مجتمعات ما قبل الملابس لم يمنع كل أشكال العنف ضد النساء.

إزاء ظواهر أزمة الفرق بين إعتبار الجنس وحرية المرأة شأناً خاصاً أو قضية إجتماعية يجتهد الوعي العلمي والسياسي في خفض التمييز والتوتر في تناول المجتمع لموضوعات الجنس وحقوق المرأة بلوغاً إلى مرحلة ينتقل فيها الناس من أصر وأغلال المرحلة الإجتماعية الظالمة لحياة الأسر إلى مرحلة إنسانية يكسر فيها الناس أسس الإنفراد وأسس التعميم، وذلك بمعادلات متنوعة تشمل المعارف والنُظم المعيشية والقانونية والفنون والحريات والآداب.

في التسعينيات نشرت جريدة الخرطوم القاهرية الغراء مقالاً إسمه “الجنس الحضاري” عن الأزمة الجنسية وعلاقاتها الطبقية في السودان، ثم تجدد في الحوار المتمدن وقد وقف ذلك المقال على بناء وشرح أوليات حالة "التوتر الجنسي" في مجال وسط بين كشف اغتصابات ثقافة "المشروع الحضاري" وتخيل مستقبل مثالي . لكن في أواخر العقد الثاني من القرن الواحد والعشرون لم يعد تحليل التوتر الجنسيفي خلاصة التسعينيات كافياً. حاصة مع نشاط وتكاثر الكلام الجنسي فقد زادت في عموم مجتمعات الشرق العربية الإسلامية الشتائم الجنسية وتكاثرت الإختلافات حول ظواهر تنوع الزواج، وتوسع جدل التحريم والإباحة حول كثير من الأمور المتعلقة بحركة وملابس وفنون الإناث في الشرق وكذا بتكاثر الكلام في مجتمعات غرب أوروبا والولايات المتحدة عن "المثلية الجنسية" كحرية شخصية يجب على الدول صونها وكذا تكاثر إشتباك واحتدام الآراء حول الشبه والفروق بين عيارات المجتمع الأخلاقية السلوكية وعيارات وغلظة قوانين الإحتساب والآداب والنظام العام وإشتعال الخلافات السياسية في مصر والمملكة العربية السعودية والسودان حول الفروق والحدود بين ما هو شخصي وما هو إجتماعي.

وسط هذه التطورات غيرت حالة المقال القديم عن "الجنس الحضاري" وقلبت عنوانه إلى "الحضارة والجنس" بنظر إلى أكبر عوامل ما بسمى "الحضارة" وهي عوامل "الحاجة" و"الخيال" و"العنف ضد الأشياء وضد الآخرين"، وذلك بتركيز على طبيعة تمثل هذه العوامل الثلاثة في بعض أدوات "الثقافة الجنسية" من حكاوى وتجارب وعروض. فوجدت أن التغيير الأكبر في الحياة الجنسية بعد دخول عصر الصناعة قد حدث في الزمان الحاضر بفعل تقدم التكنولوجيا والإتصالات وأجهزة التواصل.

فقد نشرت التكنولوجيا بعنف جارح لثقافات الحياء والعزل الجنسي إمكانات التعارف وإمكانات التواصل بين العشاق كما سهلت التكنولوجيا أفلام الجنس في كل وسيط تواصل. كما أصبح الجنس أو صار الجنس أو المقاربة الجنسية مادة مألوفة في كل فيلم ومسلسل تلفزي، وأصبح أو صار الهم بتصويره أو بتخيله أو بلواعجه أو بتجنبه من مفردات الحياة اليومية. وبإختصار يمكن القول أن كثير من معالم الحرية الجنسية قد تحققت في الواقع الإفتراضي .

أما في الواقع غير الإفتراضي فلم تتحقق هذه الحرية كمعرفة أو كممارسة لبذلك القدر الالكتروني في الواقع غير الإفتراضي، بل بقيت ظلامات وفروق الحياة الجنسية المعروفة في حياة الناس: فلم تزل الشؤون الجنسية مضمرة ومحجوبة ومتوترة، ولم تزل إنماط المعيشة والإقتصاد تغذي الفروق في عدد وأنواع الممارسة الجنسية سواء المألوفة أو المستهجنة في المجتمع، إضافة للفروق العامة في الممارسة الجنسية للذكور والإناث بين فئتي العاملين المجهدين لسنوات والمترفين، وكذلك بين بقية فئات المجتمع وفئة المراهقين والمراهقات، وأيضاً يختلف الحال الجنسي بين البيئات الجغرافية والثقافية، وكذا بين موسم وموسم..
ا
الظاهرة الجنسية الأكبر في التكنولوجيا هي أفلام الجنس وتنحصر هذه الأفلام في نوعين من "الجنس" نوع متخيل مألوف، ونوع غريب. الملاحظ في الواقع وفي النوعين السينمائيين ان وضع الفرد يتحول من كينونته البشرية المألوفة فور أن يبدأ العملية الجنسية. إذ يعيش الفرد حالة لذة بين حركته وفكرته الجنسية التي إما أن تكون سيطرة أو انسحاق لسيطرة، أو خنثى بين بين. وفي كل هذه الحالات الثلاث لتبلورات اللذة يتحول الفرد البشري إلى كائن (حيواني) مختلف عن وضع ذلك الإنسان المرتدي ملابسه وهو واقف أو قاعد، يؤدي عملاً أو يدرس، أو يفكر في شيء ما.

الفرق بين الحالة العجيبة للفرد البشري وقت الجنس وما فيها حركات تكرارية ومن أصوات غير كلامية وكلمات مصوتة بشكل معين، وحالته المألوفة في النشاط الدراسي أو العملي، لها صلة بالفصل القديم بين نشاطه المعيشي ونشاطه الجنسي، وبين الحرية النسبية للجزء الأعلى من جسمه وتغذيته وبين الاخفاء النسبي لعمليتي التفريغ الجنسي والإخراجي.

هذا التفريق التاريخي بين الحاجات المعيشية والحاجات الجنسية والإشباع الفمي والإشباع الجنسي، وكذا الفرق الثقافي في الذهن والمخ بين الظهور المعيشي والاظلام الجنسي، لعب دوراً كبيراً في تشكيل الحضارات الأولى ودولها، وقد بدأ هذا التفريق الخلاق انذاك في فقد فاعليته في العصر الحديث متحولاً إلى عائق في طريق إنسانية البشر، بحكم أن أصل النظام الثقافي الجنسي القديم هو إنتاج الذكر المحارب والعامل الصلد، وقد انتهى هذا الدور الحضاري القديم بفعل التقدم التقني والسياسي الحديث. ومن ثم تحولت ثقافة وتقاليد الحياة الحنسية القديمة الى منتج خلافات ومشاكل وجرائم وأزمات وحروب، وظهرت حاجة الحضارة الحديثة إلى نظام جنسي جديد يكون حراً من تناقضات ثقافة النظام الجنسي القديم. واذ ارتبطت ثقافة النظام الجنسي القديم بالخروج من الوحشية إلى الإجتماعية عن طريق تهميش وإقصاء علانية الجزء الجنسي من حياة الناس فقد ارتبطت الدعوات المعاصرة إلى ثقافة جنسية حديثة بتحبيذ خروج من الجهالات والتناقضات الإجتماعية إلى الوعي والإنسانية.

وقد سجل التاريخ إصلاحات كثيرة في مختلف المجتمعات والثقافات وأطوار المعرفة هذبت فهم أفراد المجتمعات لوجودهم وعلاقاتهم الخاصة والعامة مع بيئاتهم ومع الآخرين من حولهم. من أهم تشكلات ومدارس تلك الثقافات وأطوار المعرفة التي مست أو أصلحت السلوك الجنسي الوحشي القديم : مدارس "الصوفية" القديمة (الاشراقية، والغنوصية) و"الديانات" ثم "العقلانية" و"العلمية". وقد أدت تطورات تلك الإصلاحات منذ ما قبل بداية القرن التاسع عشر إلى بداية وجنين تشكل مرحلة ثقافية جديدة في حياة الناس هي مرحلة "الوعي" الداعية لترتيب كل أمور الطبيعة والحياة بشكل عقلاني على أساس حساب متكامل موضوعياً وتاريخياً لكنها لم تحقق الوصل الكامل بين طبيعة فهم الناس لوجودهم وطبيعة ممارستهم للجنس، حيث بقيت الفروق الذاتية والموضوعية بين الأنواع والممارسات المعيشية والجنسية وبينهم والتنظيم السياسي للجنس .


في خضم اختلاف أهل التقدم وأهل الحداثة حول أمور "الوعي" و "الجنس" برز دعاة الحرية الجنسية الناشطين لإباحة وحرية المعلومات الجنسية في وسائط التكنولوجيا. وقد تركز كلامهم على ضرورة إلغاء التهميش المعرفي النفسي لموضوع الجنس مطالبين بإتاحة الحرية للذهن لمعرفة كل مكونات عالم الجنس و بإتاحة مفردات اللغة والممارسة وصور الأعضاء والمشاهد الجنسية للتداول والسماح بحرية البشر في التعري، مركزين على ضرورة وحيوية هذا الكشف وتأثيره الموجب على صحة وثقافة وتعاملات المجتمع وأن إلغاءه الحاجز المعرفي والنفسي بين النشاط العقلاني للمعيشة والنشاط الجنسي يسهم في تهذيب الأسس الحيوانية التي تنمي في البشر الطمع والقهر والجبروت. بإحتصار كان الجنسيون يتكلمون عن الحرية الجنسية كعامل تهذيب وارتقاء لا كعامل متعة” ولا كعامل "قضاء وطر”".

لتحقيق نفس هذا التهذيب الإجتماعي اتجهت ثقافة "الوعي" إتجاهاً آخر فمنذ كتابات مالتوس السكانية وكتابات فريدريك إنجلز عن أصل العائلة وعن أحوال الطبقة العاملة، وكتابات فلاديمير لينين عن الشباب، والدولة والثورة، ارتبطت إصلاحات دعاة "الوعي" للنظام الجنسي القديم بمحاولات ثورية لتحسين الظروف الإجتماعية للجنس بداية بتحسين معرفة الإنسان لنفسه وبيئته بدعم التعليم والثقافة، وبتسهيل التعارف والتلاقي في نشاطات ثقافية وإجتماعية مفيدة، وتسهيل الزواج بالمال والسكن ومختلف أنواع الدعم إلخ أي بدعم المجتمع لاقتصاد وصحة وثقافة ورفاه الأسرة. أما في داخل المجتمعات الرأسمالية فقد أرتبط دعاة "الوعي" في مسائل الجنس بمقاومة تحويل الأسرة في النظام الرأسمالي إلى حالة من حالات قوم لوط التي كان فيها الرجل إما راكباً أو مركوباً فمثله في العصر الحديث حالة الأسرة أو رئيسها في النظام الرأسمالي لاتختلف عن كونها وحدة إستغلال يمارسه قطبها على الآخرين أو يمارس الإستغلال عليها من قبل سادة السوق، في نظام مثلي الإقتصاد، أي الفرد أو النشاط أو الإقليم فيه إما راكب أو مركوب من مثيله أو خلافه.

الفرق الرئيس بين ثقافة "الحرية الجنسية" في الإعلام والواقع عن ثقافة "الوعي"، أن دعاة "حرية الجنس" يرون أن إصلاح الحياة والسلوك مرتبط بـ"حرية المعلومات" و ”حرية الأنشطة الجنسية"، وتكريسهما في القانون، وفي الإعلام، وفي التعليم غض النظر عن نظام المعيشة في الدولة وكل ما يتعلق بالولادة والأسرة. أي التركيز على الموضوع الجنسي وترك الموضوعات الإجتماعية والمعيشية والسياسية لمن يهتم بها. أما في الواقع فقد اتجهت ثقافة وآداب "الوعي" ذات الميسم الماركسي-اللينيني منذ استوائها في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية وفي جمهورية الصين الشعبية وكوريا وكوبا إلى بناء أوضاع تحقق تحرراً أسرياً وإجتماعياً من العوامل المولدة للكبت الجنسي وكذا من العوامل المولدة للتفسخ الجنسي.


في الحالتين الثقافيتين حالة ثقافة "الحرية الجنسية" وحالة ثقافة "الوعي" إدراك فكري وعلمي لموضوع الجنس واتجاه حديث إلى علاج الظروف التاريخية العامة المحيطة بتوتراته وجدل أزمات الجنس في المجتمعات والتأزيمات الإجتماعية لممارسات الجنس.
وفي الحالتين فشل معين، اشار لكثير من أسسه الماركسي الراحل ميشيل فوكو، في أغلب كتاباته موكداً ان حالة الحرية الجنسية لاتعالج الإغتصاب العام الذي يمارسه النظام الرأسمالي، وان حالة "الوعي" لم تعالج الفروق الفردية في موضوعات الحنس.


الواقعي أن المشاهدة أو المعاشرة الجسمية والجنسية قد تدهش أو تفتح الراس لكنها لا تكسب المجتمع الوعي الضروري للخروج من أزمتي الحرية والتنظيم في كل مجال من المجالات المرتبطة بالعمل والزواج. فقبل آلاف السنين وجد "مذهب اللذة" ان المتعة احساس خاص وان التفكير في تنظيم الحياة يؤدي إلى آلام لا مبرر لها. لكن بعد آلاف السنوات وضح أن المسالة لا يمكن أن تبقى في وضع مثنوي يتبادل تخاصم الفرد والمجتمع بل وضحت ضرورة الخصوصية وضرورة المجتمع، وأن تحقيق الخصوصية في المجتمع أو تحقيق المجتمع لخصوصية أفراده، أو تحقيقه لأهداف عظمى يمثل قضية معقدة كبرى، يمكن بشكل خطي تصويرها كخروج للناس من حالة الوحشية إلى حال الإنسانية عبر الحالة الإجتماعية في ذلك الخط التاريخي لتطور المجتمع والفرد من وحشي إلى إجتماعي إلى إنساني.

في البحث عن الأساس الجنسي السليم للصحة العامة اتجه الغرب السياسي إلى إطلاق نسبي لحرية الجنس، دون تحرير بيئة ومجتمع الجنس من الاغتصاب الإقتصادي والخداع السياسي! فكانت النتيجة مزدوجة بين اباحية وحرمان في نفس المجتمع ذو ساعات العمل الطويلة.وإنتشار للمهدئات . أما في الشرق السياسي فقد بدأت فعلاً وبنجاح عمليات خلق الشروط المعيشية المفيدة لسلامة الجنس لكنها عملية طويلة وليست متزامنة مع الحاجات الجنسية لكل فرد.

إزاء هذا التفاوت النظري والعملي في علاج الأزمة الجنسية للمجتمع والأزمة الإجتماعية للجنس واصلت ثقافة الحرية الجنسية عقد إصلاحاتها بحرية التواصل والثقافة الجنسية بينما ربطت ثقافة "الوعي" بداية العلاج الجذري للأزمة الإجتماعية للجنس وحرية المرأة، وعلاج الأزمة الجنسية والنسوية للمجتمع بضرورة إلغاء تقسيم العمل المادي وبإلغاء تقسيم العمل الدولي، وبإلغاء التشييء. فبالغاء الفصل والعزل والفروق المصطنعة الظالمة بين الدول وكذلك بين الناس تزيد إمكانات التواصل البشري، وبذلك تتحول فئات من الناس من حالات التمايز والتمييز المرتبط بفروق الحالات الإجتماعية المصطنعة الظالمة إلى تكاملات أحوال إنسانية مشرقة بالمحبة والتعاون والتنمية المشتركة.

خارج الحلول الأوروبية المركز والثقافة بالإمكان الكلام عن وعي جنسي وإنساني وفني وأدبي مختلف هندي وصيني الثقافة يصل الناس ببدايات الذوق والوجد والعشق وما بعدهم وذلك في صورة موضوعية جامعة بين أنواع الوجدانيات وعلاقة المخ والجنس وما يتصل بهما: فقد طرقت بعض الحكم الهندية والصينية موضوع الجنس في حد ذاته كمجموع علاقات في شكل فعل جنسي أكثره في المخ، متناولة معرفة أبعاده كموضوع تفكير أو لاتفكير، وممارسة، وتأثيره في علاقات أو وجود البيئة-المخ- الوعي-السلوك- المجتمع. حيث جمعت فلسفات الهند والصين كل هذا في عملية واحدة للمعرفة والفن والجنس والصحة والحكمة، بالإمكان تسميتها تسمية خفيفة من نوع "الجنس بمزاج".

بشكل عام تنشد تلك الفلسفات الهندية والصينية الوصل والتكامل بين التاريخي والمستقبلي وبين الأعلى والأدنى وبين الشخصي والإجتماعي في وجود البشر والمجتمع والإنسان وعلاقاتهم. لعل هذا التفلسف الجنسي قد نشأ كعلاج لحالات النقص أو الزيادة في نشاط الأفراد والفئات والمجتمع وأفكارهم، ومن معرفة حكماء هذه الفلسفات الإرتباط بين الزيادة أو النقص في أعمال الفئة/ المجتمع/ الدولة بدرجة من الكبت أو من الإنفلات الجنسي.

فلسفات الـ"تانترا" Tantra والـ"مانترا" Mantra و"التاو" Tao تجمع الجنس بالبيئة الطبيعية وبالذهن في إتجاه تفاعلي لزيادة النشاط الفردي والإجتماعي. فهي تحاول نظم وضبط الفعل الجنسي عبر كل العوامل المحيطة به التي تشمل المناخ والطقس، والضوء والهواء، والمكان، والرائحة، والمسافة، والتنفس، والمعدة، والكلمات، والملابس وخلعها، وأوضاع الحركة والشحن والتركيب والتفريغ/الشحن، ترتبها بصورة عملية وذهنية تؤدي إلى تحويل الجنس من حالة تفريغ سريع إلى حال إمتلاء وشحن داخلي هادئي وطويل، بأسلوب يجعل المخ والذهن، وعموم الجسم في حالة أكثر حيوية وقوة ونشاطاً، عكس المألوف من فتور ورخاوة بعد الجنس.

ميزة هذا النوع الجديد من الجنس المنظوم إنه يصطنع طاقة إضافية في المخ والذهن والجسم، وهي ناتجة من قيام الحنس الجديد بتعديل وتغيير طبيعة حرق السكريات في المخ وبعض نبض وجريان الإشارات الكهربية فيه. الأسلوب الهندي والأسلوب الصيني يغيران من حالة الجنس المعروفة والمألوفة والشائعة في العالم كـ"تفريغ" وتحوله إلى "إعادة الشحن" وبالتالي يكون سلوك الإنسان بعد الجنس أنشط قوة كما أن ذهن الاتسان وتفكيره يكون أكثر صفاءً وإشراقاً. في هذه الفلسفات الهندية الصينية المتنوعة والمتعددة المدارس ترتبط حالة الصفاء والاشراق الداخلي وزيادة توليد الطاقة بعدد من المعالم منها القناعة والحب، والزهد والعطاء، والجنس الفكري، والجنس الجديد. وفي هذا السياق الوجداني يرتفع مقام الجنس إلى حال قدسي، سامياً من مكانته السفلى في تصور مجتمعاتنا له كـ"نجاسة" توجب الغُسل والتطهر.

من سمات تقديس الجنس أي رفعه إلى سماء التفكير العميق في تلك الحكم الهندية والصينية تحويلها إياه من ممارسة تلقائية إلى طقس له في بعض الرؤى مواقيت سماوية، البدر أوسطها، وله صلوات تصل الوجدان والجسم ومجال العلاقة معاً، وله تسابيح ذهنية ومصابيح فكرية ونفسية تنبض بمزيج بديع من الحكمة والفنون وهندسة الحس والشعور والرغبة في إثراء معين الأنا والهو والوجود وفيوض الجمال الوجدانية. هذا هو حال المثال والسمو في تلك الفلسفات أما المحزن واقعياً أن هذا الجنس الراقي ليس شائعاً في كل هند وصين بل هو في هذين البلدين الفسيحين خاص في بعض أهل المعرفة والحكمة وزينة الوجدان. لكن الفائدة ان شعاره ونجمه هو التناغم والتواصل والتكامل وليس القهر بين الذكر والأنثى في العملية الأساس لخلق الإنسان وفي تكرار شحنه بالقوة والصفا والحنان.

هذه فلسفات تهتم بالجنس ووضع المرأة فيها وفيها تحتاج في مجتمعاتنا لدراسات علمية حديثة وإن كانت بشكل عام تخفض وتضعف العنف ضد النساء بحكم كونها فلسفات وممارسة جنسية تمتاز بأنها تزيد حيوية الطرفين وتخفض توتراتهما وتزيد طاقاتهما، وتعمق انسانيتهما وتزكي ذكائهما، ولكن أجمل كينوناتها التي تفتقدها المجتمعات العربية الإسلامية إنها أفكار تقدر الأنثى والذكر كإنسان.

من الإحصاءات القائمة على سجلات الجنايات في مجتمعاتنا تظهر منذ أيام "البترودولار" زيادة نسبية للعنف ضد المرأة، وكذلك زيادة في العنف ضد الرجال. ويرتبط جانب من زيادة العنف في مجتمعاتنا وتأجج نزاعاتها بزيادة التوتر الجنسي المرتبط بدوره بالتوتر الإجتماعي الإقتصادي والسياسي وما في ثقافة الجنس من تمييز وقهر وتمرد في مجتمعات قائمة على القوة والبطش أكثر من كونها قائمة على العلم والعدل. من أهم معالم ثقافة العنف في مجتمعاتنا وجود ضغط كثير على إنسانية الأنثى، وبالتالى على إنسانية الذكر.

تعد بعض التفسيرات الدينية المعادية للكينونة الجنسية للنساء من أهم حواضن العنف ففي ثقافة الدين لايوجد تمييز موضوعي بين معالم الطبيعة الجنسية للأنثى الماثلة بطبيعة خلقها في الإنبساط والإبتسام والغموض والإنغلاق، ونبضات الإغواء، واللين والنعومة والغنج والدلال والسرور، وبين معالم سلوك مشيطن يسمى "الفاحشة"! من علامات البعد عن "الفاحشة" في مجتمعاتنا لبس "الطرحة" أو "الحجاب" وهي تغطية لرأس الأنثى تعد من علامات العفة وموالاة السترة! لكن في تحليل ثقافة الملابس الدينية تعد الطرحة والحجاب علامات على ان التدين يستعر او يخاف من شعر رأس المرأة ! وأيضاً يستعر من جسم المرأة في ذاته وفي حركته بحكم حذر وتوجس زعماء ذكور المجتمع الديني وزعيمات التدبن في كل عائلة من عوائل ذلك المجتمع من الملابس غير الفضفاضة وغير الطويلة، كما يحترسون ويحذّرون حتى من حركة الجسم تحت الخيام، ومن الكحل، ومن العطر، ومن لين الصوت، ومن نظرة المرأة إلى رجل أو من نظره إلى قوامها، وجمع هذه الأنواع من الخوف يشكل نوعاً معروفاً من الأمراض النفسية اسمه "الخوف المرضي" (فوبيا) ولكونه خوفاً من المرأة يتوزع غالبية أفراد المجتمع ويجعل ذلك المجتمع قلقاً ومكبوتاً ومقموعاً يعيش في الإحتراس والحذر وتفاصيلهما أكثر ما يعيش في الإبداع. الظلم المرتبط بهذا الخوف المرضي ان النظام المجتمعي/الإجتماعي في البلاد العربية الإسلامية يخاف بصورة مرضية من حرية المرأة لكنه لايخاف بنفس القدر من حرية الرجل!؟ رغم أن الطرف المألوف للعلاقة والكينونة الجنسية للأنثى هو الذكر !

مثال من هذه الحالة للكيل بمكيالين في مجتمعات الجزء القمعي من الثقافة العربية الإسلامية المعادي علانية لحرية النساء، ان زعاماته تتوتر إذا تعلمت المرأة أمور الحياة غير الدينية أو إذا خرجت من بيتها، كما يخاف الزعماء الدينيين/السياسيين في تلك المجتمعات ومواليهم على مجتمعاتهم من "فتنة" الملابس النسائية القصيرة أو حتى الطويلة، أكثر من ملابس الرجل!؟ وأكثر من صناعة الجوع والفقر وأكثر من لبس الأسلحة، ومن فساد الشركات والموظفين وقد يصاب سادة المجتمع القمعي بنوبة غضب أو جلطة إذا ضحكت أمامهم إمرأة بصوت عال أو حتى إذا إرتدت حذاءً معيناً، بخلاف إذا ضحك رجل أو أرتدى حذاءً عالي الكعب. نفس الكعب العالي في مجتمعات الحداثة وديانة/ثقافة عبادة المال لايكشف فقط عن شمائية قوام المرأة أو عن رغبتها الأنثى في توكيد قوامها واظهاره كـ"أنا"، وإنما الكعب العالي يكشف أيضاً ذهنية رجال تلك المجتمعات الحداثية النشاط الذين يقدرون ويعجبون بالمرأة العالية الكعب ولو كانت قليلة المعرفة! أو ضعيفة العمل! وكذا في ثقافة المجتمعات المتدينة الحديثة التي تدعي إرتفاع الدين في ثقافتها، ولكنها تزعم إحترام حرية المرأة وتتباهى بتولي النساء مناصب عالية في الدولة كما تسمح للنساء بإرتداء ما يرغبن فيه من ملابس، في تلك المجتمعات المتدينة الحديثة الشكل تظهر بشكل غير حكومي في تلافيف الحياة اليومية ذهنية الرجال الذين يحتقرون وجود ونشاط الإنسان الأنثى والتعامل معها لأنها لبست حذاءاً معيناً.

إضافة للتعاملات الخاصة بالمظهر الفردي والإجتماعي نجد بشكل عام أن الفكر الحداثي والوعي يصطدمان بوجود تشوه جنسي في مختلف الشؤون العامة التي يطرقانها . وإذا نظرت إلى الهيئات العليا في الدول لوجدت إن غالبية النُظم فيها ذات مشاكل كبرى وأن غالبية الحكام ذكور رجال، وهي معالم تقود إلى بحث أسس وإنعكاسات العلاقة المكبوتة بين الإنتاج (الذكر) والعلاقة الإنتاجية (الأنثى) ليس فقط على مستوى نوع الحكم ونوع الحكومة ولا بين الإقتصاد السياسي الصرف والإقتصاد السياسي للجنس والزواج في مجتمع معين، بل وكذلك على مستوى الفرق الطبقي بين التصور الفردي والتصور الإجتماعي لمعالم الحياة الجنسية، متى؟ وأين؟ وكيف؟ ولماذا؟ وبالنسبة لمن؟ في كل طبقة وفئة ومهنة؟ وفي كل شريحة عمرية؟ وعند كل نوع جنسي؟



مراجع:

books.google.com/books?id=ZnCT6rV90TAC

wikipedia.org/wiki/Tantra

books.google.com/books?id=H0YwDwAAQBAJ

ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3705691/

wikipedia.org/wiki/Taoist_sexual_practices

المنصور جعفر
الجنس الحضاري
http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=261712&r=0