كتب اثرت في حياتي سجين السماء



مارينا سوريال
2018 / 11 / 13

لطالما كنتُ متيقّنًا من أنّني سأعود يومًا ما إلى هذه الطرقات كي أروي حكاية الرجل الذي ضيَّع روحه واسمه بين ظلال برشلونة الغارقة بنومٍ مُقلِقٍ في زمن الصمت والرماد. هذه الصفحاتُ مكتوبٌة بالنار اتّقاءً من أهوال مدينة الملاعين؛ كلماتٌ منقوشٌة في ذاكرة مَن عاد مِن عالم الأموات بوعدٍ محفوظٍ في قلبه وثمنِ اللعنة. يُرفَع الستار، ويسكت الجمهور، وقبل أن يهبط الظلُّ – الذي أثقل على مصيره – من المنصّة المعلّقة، تتصدَّر المشهدَ مجموعٌة من أشباحٍ بيضاءَ، والملهاةُ على شفاهها، بتلك البراءة المبارَكة التي يتّسم بها الواهمُ أنّ الفصل الثالث هو الأخير، فيأتي ليقصّ علينا حكايًة من أجواء الميلاد، وإذ يطوي الصفحة الأخيرة لا يدري بأنّ حبرَ أنفاسه يجرُّه – ببطءٍ وبلا هوادة – إلى قلب الظلمات.
خوليان كاراكس، «سجين السماء»

كانت إذاعة برشلونة، في ذلك الصباح، تبثّ التسجيل المقرصن – الذي أجراه أحد هواة التجميع – للحفلة الخالدة التي أحياها عازف البوق لويس أرمسترونغ مع فرقته، ثلاثة أعياد ميلادٍ خلت، في فندق هوتيل ويندسور بالاس ديلا دياغونال. وكان المذيع، خلال الفواصل الإعلانيّة، يتعذَّب في تصنيف تلك الألحان عامًّة على أنّها «جيز»، وينوِّه بأنّ بعض التشديدات السنكوبيّة لهذا النمط من الموسيقى السفيهة لا يمكن أن تناسب آذان المستمع المحليّ، الذي تصدَّعت رأسُه بأنغام التوناديّا والبوليرو ومستهلّ حركة اليه–يه التي كانت تهيمن على البرامج الإذاعيّة إبّان تلك الأعوام.

كنتُ قد فكّرتُ بأنّ ثمّة ما يبعث على الاستغراب من ذلك الاستعجال على الزواج، الذي يبديه فيرمين روميرو دي توريس، وهو الذي كان رايًة خفّاقًة للمقاومة المدنيّة في وجه قداسة أمّنا الكنيسة، فضلًا عن المصارف والعادات الطيّبة التي اجتاحت إسبانيا خلال الخمسينات، ملؤها صلواتٌ ونشراتُ أخبار. ففي أثناء همِّته السابقة للزواج، وصلتْ به الحالُ لتمتين صداقة مع الخوريّ الجديد لكنيسة سانتا آنّا، الدون ياكوبو، القسّ المتحدِّر من بورغوس، صاحب الفكر المنفتح والأساليب التي تجعله أشبَه بملاكمٍ سابق؛ وقد نقل إليه فيرمين عدوى الولع اللا محدود بلعبة الدومينو. كانا في أيّام الأحد، بعد الصلاة، يتواجهان في مبارياتٍ تاريخيّة في مقهى أدميراي، وكان القسّ يضحك من كلّ قلبه عندما يسأله فيرمين، بين كأس وآخر من مشروب أعشاب مونتسيرات، عمّا إذا كان يعرف يقينًا أنّ للراهبات أفخاذًا، وعمّا إذا كانت – في حال وجودها – طريًّة وقابلةً للعضعضة كما كان يشكّ منذ أيّام مراهقته.

غلاف الرواية: "لعلّ القارئ الذي هام في ظلّ الريح، وتاه في لعبة الملاك، سيستغرب من دخوله زنزانة سجين السماء. إلّا أنّه سيتعرَّف باكرًا على لمسة كارلوس زافون وبراعته في تطويع مختلف التقنيّات السرديّة لِما يتوافق مع رؤيته. فإذا صوَّر لنا الكاتبُ مدينته برشلونة بين رومانسيّة الظلّ النوستالجيّة، ودوّامات اللعبة المتشابكة؛ فها هو في هذه المحطّة الثالثة، ينتقل بنا إلى عوالم السجين الداخليّة ليصف برشلونة ما تحت الأرض، برشلونة الخارجة من رهاب الحرب. لا شيء يحدث عن طريق الصدفة"
صدر هذا الجزء العام 2011 في إسبانيا وسرعان ما ترجم إلى مختلف اللغات الأوروبيّة، وأثارت الترجمة العربية للجزئَين الأوَّلَيْن اهتمامًا واسعًا لدى قرّاء العربية، الذين فتنوا بأجواء برشلونة في بدايات القرن الماضي ومنتصفه، من خلال شخصيات دانيال سيمبري وخوليان كاراكس وبينلوب ودافيد مارتن وغيرها من بشر اكتسوا لحمًا ودمًا في سرد زافون الحي
بدأ كارلوس زافون مشواره الأدبي بالكتابة لأدب الشباب، ونشر أول رواية له بعنوان "أمير الضباب" 1993، وحققت شهرة واسعة نال عنها جائزة "إيديبه" الإسبانية وقيمتها 25.000 يورو.

قرر زافون استثمار قيمة الجائزة لتحقيق حلمه والانطلاق إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استقر هناك، وأمضى سنواته الأولى في أمريكا لكتابة النصوص السينمائية، نظرًا لولعه الكبير بالفن السابع ولوس أنجلوس مذ كان صغيراً، مع استمراره في نشر رواياتٍ جديدة.

وكانت الروايات الثلاث التالية مكرسة هى الأخرى للقراء من الشباب: قصر منتصف الليل 1994، أضواء سبتمبر 1995، مارينا 1999.

تُرجمت رواية "ظل الريح" إلى العديد من اللغات، وتحولت إلى أكثر الكتب الإسبانية مبيعاً في العالم، بعد أن تجاوز عدد المبيعات 10 ملايين نسخة. ورفض كارلوس زافون تحويل الرواية إلى عمل سينمائي، بالرغم من العروض الكثيرة التي انهالت عليه.

و"مقبرة الكتب المنسية" هى سلسلة روايات في أربعة أجزاء، وتتكون من: ظل الريح 2001، لعبة الملاك 2008، سجين السماء 2011، متاهة الأرواح 2016
ويعتبر كارلوس زافون، أول كاتب إسباني تتجاوز مبيعات رواياته في إسبانيا والدول الناطقة بالأسبانية، حاجز المليون نسخة وذلك بسبب تميز أسلوبه والأجواء المتميزة بالغرائب وإحاطته بتاريخ مهم من أسبانيا، وهى فترة ما بعد الحرب الأهلية الأسبانية، ولاسيما بمدينة برشلونة التي تضررت بشكل كبير بسبب الحرب 1936-1939.
يأخذ دانييل كتاب "ظل الريح" وعندما يعود إلى البيت يشرع في قراءته ويتعجب من وجود هذا الكتاب في مكان كالمقبرة، ويريد أن يقرأ مزيدًا من كتب مؤلف الكتاب، خوليان كراكس، فلا يعثر على شلاء. يبحث ليعرف أن رجلا يدعى لاين كوبيرت يحرق جميع كتب خوليان لاعتقاده أنها مبعث للشر أو للشيطان.
ترجمة: عباس المفرجي
هل يمكن للروائي الاسباني أن ينجح ثانية رغم الصعاب؟
كانت “ ظل الريح “ لكارلوس رويز زافون رواية إثارة اوربية مكتوبة على نحو جميل بحيث إنها باعت اكثر من 15 مليون نسخة في أرجاء العالم. العمل الأخير للروائي الاسباني هو أيضا جزء من هذه ((المجموعة من الروايات التي تشكّل العالم الأدبي لمقبرة الكتب المنسية))،


والذي يتميز بالكثير من نفس الشخصيات والكتّاب المتخيلين. هل سينجح في تحقيق هذه البراعة ثانية؟
((تلك السنة، في وقت الكريسماس، كان كل صباح يبزغ مزركشا بالصقيع تحت سماوات رصاصية.)) نحن في اواخر الخمسينات في برشلونة. دانييل سيمبره، الفتى بطل “ ظل الريح “ هوالآن شاب ناضج، يعمل في محل أبيه لبيع الكتب. متزوج من حبيبة صباه بيا، بينما صديقه الأكبر منه عمرا، فيرمير روميرو دي توريس – جاسوس وزير نساء اسطوري – هو الآن خاطب. لكن حين يظهر في المحل ذات يوم شخص غريب مروّع بيد من خزف، يهدد الماضي بحلّ هذه السعادة الحاضرة.
كما مع “ ظل الريح “، هناك قصة تاريخية داخل القصة. تدور أحداثها في سجن القلعة بعد إنتصار فرانكو في الحرب الأهلية الاسبانية، مع بيئة من قمل، برد وإعدامات جماعية، وهي تصوّر روائي سجين ومتهم بكونه ((أسوأ كاتب في العالم))، يتعرض للإبتزاز للقيام بصقل جهود أدبية رديئة خاصة بمدير السجن.
تنجح الميلودراما متى ما لم يكن هناك ضعف في ادائها، وزافونا حِرَفيّ موسوس على نحو باهر، دقيق بإعطاء القارئ أكبر قدر من المتعة، من الواضح إنها في جعبته دائما. خلفية المشهد بيّنة والشخصيات الثانوية مرسومة بحنكة: قس له ((عادات ملاكم متقاعد))، أو كاتب عمومي يضمن تأثيرات شعره العاطفي الايروتيكي. مدير السجن الشرير، الذي له ((عينان زرقاوان، خارقتان وحادتان، ويحيا مع الطمع والإرتياب))، هو كليشيه للوغد في الأفلام، لكن الكليشيه تعني احيانا مجرد الحاجة الى دينامية سردية من غموض شديد.
الشخصية المحبوبة والأكثر حيوية هنا هو فيرمين، سيد بلاغة متأنقة وعلى نحو هزلي، الذي يدّعي مثلا أن ((التوليد، بعد التحرر من نظم الشعر، هو واحد من هواياتي)). حين يشكو دانييل أن من المستحيل الجدال معه، يرد فيرمين قائلا: ((ذلك، ياصديقي العزيز، بسبب ميلي الفطري الى الجدل الرفيع، ودائما متحفز لرد الهجوم عند أول بادرة من التفاهة.)) في النهاية، من الواضح أن فيرمين ليس مجرد فنان هزلي، بل نوع من بطل مرونة.
مثل الريفي ارتورو بيريز- ريفيرت، يجمع زافون العمل المخلص لتقاليد النوع الأدبي، مع اللمسات الذكية لأدب مابعد الحداثة. (العبارة المقتبسة التي تتصدر الرواية هي لكاتب خيالي ظهر في “ ظل الريح “.) هذا هو، على نحو بيّن، ومبهج، كتاب حول الكتب، حول ما يمكن أن يكون مكتسبا بالتعلم منها (مثلا، كيف تتبع أحد ما في الشارع)، وحول ما هو مفقود حين تكون مفقودا. الكثير من جاذبية الرواية مصدره السفر في الزمن، المنكّه على نحو قوي بنوستالجيا أدبية – الزمن الذي كان يمكن فيه لمحلات الكتب أن تكون عصب الحياة الثقافية للمدينة، عندما كانت البيروقراطية الورقية يمكن أن تُغلَب بالحيلة والدهاء، عندما كان المؤلفون التافهون البوهيميون يستطيعوا دفع ثمن كريم كاراميل عالمي النوعية، وحتى عندما كان يمكن أن تكون النقود’’ ملعونة ‘‘. لكن تحت السطح الهادئ البرّاق يكمن ايضا الغضب السياسي.
متأخرا، أدركت أن هذه هي في الحقيقة ثالث رواية في متتالية زافون. من حسن الحظ، يمكننا أن نطمئن أن الكتب الثلاثة يمكن أن تقرأ في أي ترتيب. إشتريت في الحال الكتاب الآخر “ لعبة الملائكة “، لأقرأه في العطلة. كما يتساءل الكاتب السجين في هذا الكتاب: ((إن كنت لا تثق بروائي، فبمن ستثق؟))

عن صحيفة الغارديان