الميلاد وثقافة السلام



عزيز سمعان دعيم
2018 / 12 / 20

أعظم حدث بأبسط شكل.
الميلاد أعظم حدث حصل في تاريخ البشرية وإن كان مُقمطًا ببساطة لا مثيل لها.

"فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ" (لوقا 2: 7). "فَجَاءُوا (الرعاة) مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَالطِّفْلَ مُضْجَعًا فِي الْمِذْوَدِ" (لوقا 2: 16).
"وَأَتَوْا (المجوس) إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوْا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا" (متى 2: 11).

حتى تكون الأرض مكانًا مناسبًا لحياة ومجتمع أفضل يتطلب أن نعيش فكر السلام في كل تفاصيل حياتنا، بل أن يعيش السلام ورئيس السلام فينا، فينعش في أعماقنا كل الخير والبّر والصلاح.
فكر ثقافة السلام يسعى لتدعيم هدأة البال (والطمأنينة) ولتعزيز الامتياز (وتحقيق الذات)، ويتم ذلك من خلال مساحات الحياة المتنوعة بما فيها: الأسرة وهي البيت الأول، والمدرسة وهي البيت الثاني، والمجتمع وهو البيت الثالث، وهكذا... فامتداد فكر السلام يحتاج إلى تكاتف مجتمعيّ يساهم في تطوير حياة تٌستحَق أن تُعاش بفرح وأمان.

فكر ثقافة السلام يُساهم في تنمية أجواء سليمة في كل المستويات مبتدئًا من السلم الذاتي، بين الإنسان ونفسه وتقديره وتقبله لذاته والعمل على تنميتها، ممتدّ إلى السلم المجتمعيّ لتطوير علاقات إيجابية مركزها الجو الأسريّ إذ يتشعب من الحلقات القريبة ليتسع ويشمل حلقات أبعد، متجليًا في السلم البيئي الذي يُقَدّر عِظم صُنع الخالق في روعة بل في غنى نعمته علينا في خليقته لنتمتع بما أعده لنا ولنستثمره للأجيال القادمة، وهو مؤسس على السلم الروحي في تناسق حياتي مع أيماني وقيمي العليا لحياة أفضل لي ولخير المجتمع. كما ويعمق فكر ثقافة السلام رؤيتنا للأمور من مناظير متنوعة، فنلمس جوانبه المتعددة في كل أمر وحدث.
في تأملنا بحدث وأسرة الميلاد تتجلى روعة سيرورة السلام فيه، ونراها متجلية في عناصره الستة.
فيما يلي لمحات لبريق فكري سريع يتطرق لكل عنصر من عناصر ثقافة السلام الستة:

حقوق الانسان
ولد يسوع في اسرة قبلته وأحبته. فمن حق الطفل، كلّ طفل، أن يولد لأسرة تحبه وتعتني به وتُمكّن له الحِماية والأمان والدفء مهما كانت ظروفها، كما يحتاج كلّ منا إلى التقبّل، وهو حق اساس أن يُقبَل الطفل كما هو، مع اختلافه عن الآخرين، وبصعوباته وخصوصياته.
بالرغم من أنّ يوسف النجّار عاش في بيئة تفشى فيها الظُلم وعربدَ في أجوائها الاحتلال، فكانت تُرمس وتداس حقوق الانسان وكرامته، لكنه من جهته اهتم بمسؤوليته فوفّر حقوق الطفل المولود، واعتنى بمريم ووفر لها كل الاحتياجات الأساسية، وقبل وفوق الكل حقّها في الكرامة والتقدير.

المواطنة والديمقراطية
ولد يسوع في أسرة اعتنت به أفضل اعتناء في حين لم يُمكّن له المجتمع مكانًا لائقًا ليولد فيه.
السلام يتطلب فتح الباب أمام الغريب وخاصة من في ضائقة، وقد أغلقت الأبواب أمام مريم الحامل، ولكل عائلة من عائلات بيت لحم كان لها سببها وحُجتها، ولم يستغلوا فرصة استقبال الإله المتجسد في بيوتهم، فكم من مرّة نضيّع فرصة خدمة الله من خلال أناس يرسلهم إلينا.
ومع ذلك تجلت قمة المواطنة في اهتمام العائلة بالطفل المولود والعناية به رغم كلّ الظروف.

حلّ النزاعات
عندما أدرك يوسف أن خطيبته مريم حاملًا، لم يتسرع بالتعامل معها كما يحصل اليوم للأسف الشديد في مجتمعنا، فلم يقُم بتصرف وحشيّ أو همجيّ معها بالرغم من صعوبة الموقف، لكنه تأنى مُصليًا ومفكرًا، لكي يستطيع أن يتخذ قرارًا يضمن كرامة كلّ منهما. وبارك الرّبّ تصرف يوسف وأعلن له حكمته العظيمة في هذا السر العجيب.
كما وطبقت الأسرة المباركة مُسبقًا القاعدة الأساس التي وضعها طفلها لاحقًا:
«أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ للهِ» (متى 21:22، مرقس 17:12، لوقا 25:20)، إذ أطاعا (يوسف ومريم) أمر القيصر بخصوص الاكتتاب وإن كان مُجحفًا بحق كثيرين وخاصة من هم في ظروف خاصة، لكنهما أفشلا خطة الملك هيرودس إذ هربا لحماية طفل وربّ الميلاد، بعد أن علموا أنه مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكه، فعملا وفق طلب ملاك الرّبّ ليوسف.

القيادة الخادمة
خدم يوسف مريم والطفل بكل أمانة ومحبة ومسؤولية، وذلك وبالرغم من شكّه بها أولًا (كأي إنسان طبيعي) وذلك قبل اعلان الملاك له عن سر الحبل العذراوي، فتأنى ولم يشأ أن يشهرها، ورفض الإساءة لسمعتها، فكان نعم القائد الخادم ونعم الرفيق لمريم ونعم المربي للطفل يسوع.
مريم العذراء كانت نعم الأم المثالية الفاضلة التي اعتنت بطفلها السماويّ متأملة، وقبلت المهمة الأعظم والأخطر على الإطلاق في التاريخ، بأن تحمل المسيح الموعود، مخلص البشرية، الكلمة المتجسد، وأن تكون الوحيدة بين النساء التي تحمل جنينًا وتلد طفلًا على خلاف الطبيعة بمعجزة إلهية وبقوة الروح القدس.

الصحة والسلامة
لقد اهتم كلّ من يوسف ومريم بأن يوفرا أفضل الظروف الصحية المناسبة للطفل في أصعب الأوضاع، فرتبوا له سريرًا من مذود بسيط. والمذود هو الأداة التي يوضع فيها أكل الحيوانات الكبيرة ليسهل عليهم الوصول للأكل وللمحافظة على نظافة الطعام وعدم تبعثره وضياعه.
كما واهتمت العائلة بتقميط الطفل وتوفير الدفء المناسب له.

البيئة
مع أنّ البيئة التي ولد فيها يسوع كانت حظيرة للحيوانات وليست بيئة مناسبة لولادة طفل، ولكن عناية يوسف ومريم واهتمامهما ولمسة كل منهما لبيئة الميلاد، جعلت من هذه البيئة أجود بيئة ممكنة.
غالبًا ما تكون البيئة المحيطة بنا بيئة مُسممة ملوثة، مما يرفع مستوى التحديات والمسؤوليات لتوفير بيئة أسرية تكون محمية ومُحصّنة بالقدوة الصالحة والمحبة المِعطاءة، لتحصين ومناعة أولادنا عند خروجهم من البيت (عالمهم الصغير) للمجتمع (العالم الكبير).

الميلاد هو افتقاد الرّبّ للإنسان، وفيه دعوة ليلتفت الانسان لله التفاتة محبة حقيقية، وفيه مطالبة بافتقاد أحدنا الآخر، وعلى الأخص أولئك الذين يحتاجون للمساعدة من صغار أو فقراء أو مظلومين أو متألمين أو مهمشين.
كلنا مدعوون لنعيش السلام في الميلاد، لكي يعيش الميلاد متجددًا في كلّ منا.