موقف الكتاب المجيد من قضية : ( تعدد الزوجات )



الشيخ إياد الركابي
2019 / 1 / 23

موقف الكتاب المجيد من قضية :  (  تعدد الزوجات )
1 - 
لقد  منع  الكتاب   المجيد   -  تعدد  الزوجات  -   ،   ولكنه  في المقابل  أباح   -   التعدد  في النكاح -   ،  وبين المسألتين  جدُ فارق   في الفعل  والمضمون   ،  ونحن بدورنا  سنوضح ذلك ما أستطعنا إلى ذلك سبيلا   معتمدين على الكتاب  ونصوصه  ودون الإلتفات  إلى ماورد من أخبار وروايات  في هذا الشأن    .
  ولكن  وقبل  البدء  في   شرح  و بيان  موقف الكتاب المجيد  من  هذه  المسألة  ،  لا بد  من التذكير بأن  المجتمعات العربية والإسلامية  المعاصرة  تخوض  صراعاً  مستديماً  متعدد  الإتجاهات   ،   من أجل  تحديد  الموقف  القانوني  والشرعي والأخلاقي  عن  نوع  الحريات  التي تسمح  والتي لا تسمح   ،  وعن طبيعة  الحقوق  وطبيعة النظام  الذي يجب أن  يسكنون إليه   ،   وأقول : -  إن  التعريفات  العتيقة  التي تبنتها   المدرسة  الإسلامية  ما عادت  تلبي  أو تستجيب لكثير من المفاهيم  التي أفرزتها  حالة وطبيعة  التطور المجتمعية في العالم أجمع -   ،  ولم يعد مناسباً  في هذا الشأن  التركيز  فقط على منتجات التراث   ،  مع جُل  إحترامنا لذلك التراث  ،  فالتراث  مهما بلغ من شاء , فإنه  يظل يعبر عن  الماضي  بما فيه  من أفكار ورجال   ،  والماضي  لن يستطيع  ان يصنع الحاضر  بطريقته وبفهمه للأشياء  ، و إن منتجي  التراث   رجال     لا قدسية  لهم  ولا معصومية   ،   وما أنتجوه  من أفكار  يظل  في حدوده  الخاضعة  لبند  الصحة  والموافقة  لكتاب الله والعقل    ،   والتراث  في أصله  اللغوي جاء  من مادة  -  ورث -  الثلاثية الدلالة   والأبعاد   ومعناه  :  -  ما يحصل  عليه  الوريث من المورث   مادياً    -   ،  وإلى ذلك أشار النص التالي   قال  تعالى   : - [  وورث سليمان داوود ..]  -  النمل 27  ،  والتوريث هنا  كل مايتعلق  بما هو مادي  من متاع وغيره  [   وليس منه  النبوة والحكم  ،  فالأول إصطفاء والثاني إختيار من قبل الناس   ]   ،   فالنبوة ليست  من الأشياء  التي  تورث لأنها إصطفاء من الله  ،  كذلك  الحكم  هو إختيار وإنتخاب للحاكم  من قبل الناس   فلا يصح فيه التوريث أو ولا ية العهد    .
والتراث في عمومه مادي  يظهر ذلك حتى في قوله تعالى  :  - (  وتأكلون التراث أكلاً لما  )   -  الفجر 19  ،  وكل شيء يتعلق  الفعل فيه والممارسة   من قبل الإنسان فهو  مادي  ومنه الأفكار   ،   ولهذا يصدق عليها  مفهوم  -  التراث -  أيضاً   ،  كالقيم  والأخلاق  والمبادئ  والتي هي في الواقع  أشياء مادية يمكن توريثها  ،  وبهذا المعنى يكون  كل  ما أنتقل أو  وصل  إلينا   من الماضي القريب أو البعيد  هو -  تراث -  ،  ولعلي  أرجح  لفظ  -  وصل إلينا -  بدلاً عن أنتقل  إلينا    ،  والفرق بينهما واضح  : - [   فأصل الفعل في أنتقل  هو من النقل  أي الرفع من مكان لمكان أخر ،  وبالتالي يكون  معنى أنتقل  إلينا هو ما نُقل إلينا  من محل أخر ، واما لفظ  وصل إلينا  أي  ما أتصل بنا   -  ،  وفي هذه  الحالة  يكون الوصل  أقرب في الدلالة  ،  فما وصل إلينا  من الماضي هو  ما أتصل بنا منه   ، شريطة  ان يكون له  قابلية  التأثير  والفعل في حياتنا  ،  من حيث التأثير  على أفكارنا ومفاهيمنا  وتصوراتنا  ،  وحين  نفتقد لشرط القابلية في التأثير والفعل   ،  تكون الدعوة   للخروج من حالة التقديس الأعمى  لما في التراث ومُنتجيه  أمراً لازماً   ،   وبنظرنا  المتواضع  لم تعد  كتب التراث من تفاسير  وكتب   وأخبار مؤدية للغرض   ،  مع كامل  الإحترام والتقدير لتلك الثروة  ولذلك الجهد  الغير مسبوق في زمانه  ،  وهذا يعني إننا بحاجة إلى حركة نقلة تدرب  العقل وتؤهله   ليواكب عصره (  الزماني والمكاني )   .
 وهنا ترآنا  نعود  للتذكير بمقولة  لنا مضت في لزوم ووجوب   فتح باب الإجتهاد على نحو مختلف   عن ذلك الذي ألفناه    ،   والإجتهاد  الذي نلح بالطلب عليه  هو في فسح مجال أكبر وأوسع للعقل  بعيداً  عن سلطة الأخبار  وما فيها من القيل والقال والنكاية البعيدة عن مضمون عصرنا وزماننا  ،   مع عدم الإلغاء الكامل  أو التجاوز الكامل على كل الماضي وكل التراث  ، فتلك مخاطرة لا نسمح بها ولا نؤيدها   ،   إنما نريد  لبعض الماضي الصحيح  والتراث الموثق  أن يكون جزءاً  مما نستأنس به في موضوعاتنا وبحوثنا    . 
إن موضوعة   -  حرية الحقوق  -  جدلية  بإمتياز  فهي  من حيث  هي قضية  يتصارع فيها   الزمان والمكان   ،  ومن هنا تدفعنا هي ذاتها لتصحيح المسار من خلال رؤية   جديدة  لمعنى -  حرية الحقوق  -      ،  والسؤال  هل  تقع  -  حرية الحقوق  -  في   دائرة   الواجبات  أم المباحات   ؟   ،    وطبعاً  هنا في مسألتنا يكون  الجواب إنها  من  المباحات   فحق  الزواج  مثلاً   ليس واجباً  كذلك حق  النكاح   وحق  التبعل    ،  ومفردة زواح ونكاح وتبعل  مفردات  أستعملها  الكتاب المجيد  في سياقها  حسب الوضع والطبع    ،   وهي مفردات مختلفة المعنى والدلالة   ولا يصح الخلط   فيها   تبعاً  لما كان يفعله  أهل التراث  والأخبار   ،   والخلط منشأه   فكرة الترادف   التي شاع وغلب أستعمالها في الشعر والأدب ، ومن هناك  وظفت في  لغة الفقة   والشرع  عبر الشافعي  كوسيط مفترض في هذه الفعلة   ،  فوقع  الشطط   في المعاني   وقد تغلب  هذا الفكر على من سوآه  من خلال سطوة أهل السياسة والحكم   .
ففي قضية   -   التعدد   -   هيمن  الترادف   على ما تؤدي إليه  الكلمة  من ظنون  ،   جاء ذلك بفعل  هيمنة وغلبت  الذكورية والقبلية  التي كانت سائدة ومازالت   في مجتمعاتنا العربية والإسلامية   ،  فالتعدد  موضوعة  أرتبطت بالمرأة  حين فسر المشرع  المرأة كسلعة    مما أدى  مع الأيام لتجهيل   -   حق المرأة وحريتها  -  ،    والمريب في الأمر  إن عامة  النساء المسلمات  رضين بهذا وأستسلمن  له  تحت ظل ظروف إقتصادية وإجتماعية  ضاغطة   ،   حتى صار التجهيل للحق  حكم للشرع  والدين  بنظر  العامة    ،   وعلى ذلك سُنت قوانين الأحوال والحقوق الخاصة بالمرأة    ،   مع إن هذا التجهيل أساسه   رجال دين تراثيين وكهنة  وتجار قيم       .
و في   هذا  المجال  تبدو الحاجة  ماسة   ليس فقط   إلى إعادة  تقييم   ونقد  التجربة الدينية لأهل التراث من المرأة    ، بل إلى إنتاج  قواعد  فكر وقوانين  تحمي المرأة وتنظم حقوق المجتمع   ،  وفي هذا أدعوا  الجميع لمراجعة واقعية للكتاب المجيد  من غير سطوة وهيمنة أهل التراث  وفكره   ،  كما أدعوا إلى إعتماد  العقل كأداة منتجة  ومستقرئة      ،  وهذه  الدعوة  لنجعل منها  الضابط  الذي  سيكون حاضراً معنا  في كل خطواتنا  هنا في  هذا البحث    ،   ولا ندعي  إننا نريد تجديد الخطاب فهذه ثمة أكذوبة  أو هي أفيون جديد   للتخدير والإلهاء   يميل إليه كهنة السلاطين  للخروج   من حالة التناقض واللا إتزان  السائدة    ،   ما نريده   بناء منظومة   بحث  يمكنها إنتاج معرفة   تجعل من الجميع  حاضراً فيها  غير بعيد عنها  ،  وهذا يكون بالتركيز  على  بيان  المعنى  بصيغ   قريبة  إلى فهم السامع  ،  من غير إطناب   أو تضخيم   أو تفلسف زائد   ، كما كان دئب  من سبق    ،   وهذا بنظرنا   ما نرآه   يفيد معنى  مفهوم    تجديد  لغة   الحقوق   وقواعدها   من وحي الكتاب والحياة المعاصرة  .
  في  قضية   -  التعدد    -   وقع  الوهم   والتدليس  فبدلاً  من  أن يكون  -  التعدد  -  في النكاح   ،  أصبح   -  التعدد  -  سارياً   في  الزواج  لدى عامة  الفقهاء ورجال الدين     ،   وبما إن هذه  القضية  إشكالية  لذلك  فسوف  نسلط  الضوء عليها         :
ونتسائل  ونقول   :   هل  إن فكرة  -   التعدد   -   جائزة   أو  ممنوعة  في الكتاب المجيد    ؟    ،   وبما إن هذا السؤال يتموضع بين  الجواز والمنع    ،  فإننا  نقول   :   إن قضية -  التعدد  -   أساسها  الفهم   الخاطئ   لما ورد  في   قوله تعالى   :  -  [   .. فإنكحوا  ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع   ،  فإن خفتم ألاَّ تعدلوا فواحدة أو ما ملكت  أيمانكم .. ] -   النساء  3   ،   أعني  الفهم  الذي  تبنى الترادف  في فهم المعاني    ،  الفهم الذي  جعل  من  لفظ  -  أنكحوا -  بمثابة أو بمعنى  لفظ -  تزوجوا  -   ،  مع إن  الأصل والجذر اللغوي  للفظين مختلف   ،  فلفظ   -  أنكحوا -   دال  على  الإستمتاع   الجنسي  ،  وأصله من  الفعل   الثلاثي  -  نكح -       ،  وفي  (  النكاح  )   الإستمتاع أو المتعة   أباح  الكتاب  المجيد   التعدد  ،   ولكنه  في  (  الزواج  )   منع  الكتاب المجيد  التعدد      ،   والزواج  في الكتاب المجيد  كفعل أو كمضمون  ممنوع  من التعدد  وذلك :
   1  -   لأن  الزواج  في وضعه  و دلالته  هو  أوسع  مفهوماً من الإستمتاع  أو التمتع     ،   ولذلك  لا يجوز  قصر معناه   في   النكاح    .
2  -   كما  إن فعل    تزوجوا    أعتبر  في الكتاب المجيد    ممنوعاً  من الصرف  ،   والخلط بينه  وبين  فعل  أنكحوا  هو  مخاطرة  وفعل خاطئ     .
  3   -   ثم   إن  اللفظ   في الكتاب المجيد  إنما   وضع  لمعنى محدد  معين  لا يتعدآه  لغيره     -    .
وحين قلنا  :  إن إباحة التعدد  في   (  النكاح  )  إنما   بشرط   وجود  القدرة والإستطاعة       ،    وفي  (  الزواج  )   قلنا بالمنع  لأن  الزواج  مرتبط  بميثاق   قال تعالى   : - [  .. وأخذنا منكم  ميثاقاً غليظا ] -  النساء 21   ،   والميثاق   هو إتفاق  بين   -  الذكر والأنثى -   على  طريقة الحياة وعن  القوامة   وعن الإدارة ورعاية الأطفال والضمان   ،  أي إنه  إتفاق  على   تأسيس الأسرة  وفي هذا  قال الكتاب المجيد  بعدم جواز  التعدد   ، قال تعالى : - [  وإن أردتم إستبدال زوج مكان زوج أخر ..] -  النساء 20    ،   بمعنى إن الجمع  والتعدد في الأزواج  ممنوع وغير ممكن   ،   وهذا  مالم يتوفر  هدفاً ومضموناً   في النكاح  ،  إذ  ليس هناك   ثمة ميثاق  فيه   ،   إنما  ينعقد   النكاح  (  المتعة  )   بإتفاق   بين الطرفين  (  ذكر وأنثى )  من غير قيد  وفيه يصح التعدد  لطبيعته  ولما يُراد منه     -  .
      وكما قلنا   : -  بعدم جواز الترادف  في الكتاب المجيد ،  كذلك نقول لا يجوز التكرار في الكتاب المجيد  فعلاً ومضموناً   -   ،   ومنه جاء المنع بعدم جواز إسقاط   لفظ  -  الزواج  على النكاح  -  ،   وعندنا لا يصح  الإتفاق مقروناً بهذا اللفظ  في حال الزواج   ،    ودليلنا  في عدم الجواز  ما  عليه  قواعد اللغة  العربية   والتي  تمنع  التكرار و  الترادف   في هذه المسألة   ،   وأما ما ذهب  إليه  البعض  من أقوال  في هذا المجال  فلا يعتد  بها   ولا تفيدنا   في هذا  المقام   ،  لهذا  فالواجب يقتضي  ضبط   معاني الكلمات  من خلال الكتاب  المجيد  ومن  دون  النظر أو  الحاجة  إلى هذه  الإستعارة  التبعية   للشعر ومقولاته   ،  بل ولا يجوز  جعل ذلك حجة  على  معاني وألفاظ الكتاب   .
   فإن قلتم    :  -   ألم  ينزل  الكتاب  المجيد    على سبعة أحرف  -  .
قلنا     : -   إن  ذلك  ليس  صحيحاً  وهو وهم وتجني ،  ذهب إليه  من أراد   دفع شبهة التحريف في الكتاب المجيد  والتي يقول  بها البعض -    .
ثم  إن التعدد  في النكاح  ورد مضافاً   ،   وليس عدداً صحيحاً   بل  العدد  مضروباً  بنفسه  ،   وهو ليس  من قبيل  العدد الصحيح  واحد  وأثنين  وثلاثة وأربعة    ،  بل  هو  مثنى وثلاث ورباع   ،  وفي ذلك يكون العدد مضافاً  كما ورد في ذكر  أجنحة  الملائكة  ،  قال تعالى : -  [  ..جاعل  الملائكة رسلا  أولي  أجنحة مثنى وثلاث ورباع  .] -  فاطر 1    ،  ولم يقل  أثنين  وثلاثة  وأربعة   ،  لأن العدد هنا دال   على الكثرة  الممكنة   ،   مع إنه أستخدم  العدد الصحيح   في قوله   تعالى :  - [  سيقولون  ثلاثة رابعهم كلبهم  ،  ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب .. ]  -  الكهف  22   ،  ومنه يتبين  إن اللفظ  في الكتاب المجيد  إنما يوضع بعناية  للدلالة  على المعنى المُراد والمقصود  ،  ولكي لا يتم الخلط  أو تعمد الخلط    .
فحين  يستعمل  لفظ  -  تزوجوا  -  يقتصر  الفعل والمضمون  على الواحد  من غير تعدد  ،  وأما في حال علاقة الإستمتاع  جعل  التعدد ممكناً  بحسب القدرة والإستطاعة  ،    وفي علاقة  الإستمتاع  جعل الكتاب المجيد   حد  أدنى وحد أقصى  ،  والأدنى  يبتدأ بمثنى  أي أربعة وينتهي  برباع  أي  ستة عشر   ،   ثم  جعل القيد  مرتبطا  بمفهوم  العدالة  من جهة الإستمتاع   قال  -  وإن خفتم  ألاَّ تعدلوا  -   قال  (   فواحدة  )   ،  وهذا القيد  متعلق  بالقدرة والإستطاعة   وليس بمحل أخر   .
   وبما  -  المتعة   -  يُثار حولها  بعض اللغط   ،   والذي  في غالبه  جهل في فهم النصوص  وعدم  التعاطي  مع ذلك بروح الواقع   ،   بل وتغليب  بعض  الأخبار على   نصوص  الكتاب المجيد   ،  ومن بين أوضح النصوص  الدالة  على جواز   - المتعة  -  ماورد  في قصة  النبي موسى في  قوله تعالى  : - [   قال  إني أريد  أن أنكحك  إحدى أبنتي هاتين  على أن  تأجرني  ثماني حجج   ،  فإن  أتممت  عشراً  فمن عندك  .. ] -   القصص  27   ،    في هذا  النص  تبدو  الدعوة  لعلاقة  مؤقتة  و مشروعة  بين ذكر وأنثى  في زمن محدد  وثمن محدد   (  نكاح  )     ،   هذه  العلاقة  حسب ظاهر النص  جائزة  شرعاً   ،  ولم يرد نص في الكتاب بمنع أو إلغاء  هذا النوع من النكاح     ،   ولم يجعل  هذا النص عقدة النكاح   بيد   موسى  -    ،    مما يدل  على  أن هذا  النوع  من  الإتفاق   والذي يقصد  به  الإستمتاع  المشروط بأجر وزمن  يلزم في الحرية الضامنة للطرفين .
يتبع
آية الله الشيخ إياد الركابي