عن الحجاب والحرم المقدسي الشريف



إلهام مانع
2019 / 3 / 7

نعم، هذا أهم من ذاك!
عن الحجاب والحرم المقدسي الشريف


"هذا أهم من ذاك؟" قالها لي غاضباً.
وأشار إلى الحجاب الذي رميت به، ثم إلى الحرم القدسي الشريف.
وكان بالفعل غير مصدق.
وأنا رددت دون تفكير، وبغضب اكبر، "نعم، هذا اهم لدي من ذاك".
وأدركت أني جرحته.
ولو بيدي ما جرحته. لكني لم أكن قادرة على غير ذلك. الكلمات خرجت من فمي تماماً كما عنيتها.
ولم اعرف معنى ما قلته إلا بعد أن نطقته. لم أعرف معنى ما فعلته إلا بعد أن رميت بالحجاب جانباً.
بالطبع.إنسانيتي اهم الف مرة من تقاليد ذكورية.
وأي مقدس هذا الذي ينتهك ادميتي.
وخرجت من الحرم المقدسي الشريف.
لم أدخله. رغم شوقي.
مقهورة.
ووجدت توماس ينتظرني.
كان يتابع ما يحدث .
ولم أعرف يوماً وقفت فيه أمامه هكذا.
لم أعرف يوماً شعرت فيه بالإهانة هكذا.
عندما التقت اعيننا، وجدت نفسي اجهش بالبكاء. كطفلة صغيرة. بكيت بحرقة.
وهو وقف جامداً. امسك بي.
وبطريقته عبر عن تضامنه. وبطريقته عبر عن غضبه.
وكانت جملته هي القاصمة.
"مايعنيه هذا أنه، فقط من تلبس الحجاب هي المسلمة لديه".
"لكنك ستدخلين الحرم، تماما كما تريدين."
ـــــ

قصصت عليكما الحكاية من آخرها، عزيزتي القارئة عزيزي القارئ.
من آخرها.
لازالت تحرقني إلى يومنا هذا.
مر نحو ثمانية أشهر على هذه الحادثة.
لم اذكرها في سلسلتي عن زيارتي إلى إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة.
قلت لنفسي أنها ستصب الزيت على النار.
قلت لنفسي إن الكثيرين والكثيرات لن يفهمن موقفي.
لكني اليوم وجدت أن وقت روايتها قد حان.
في يوم المرأة العالمي، اقصها عليكما.
حتى يصبح واضحاً ما أعنيه.
وكل عام والمرأة إنسان.
ــــــ

إذن أعود إلى البداية.
البداية في رحلة سياحية قمت بها مع توماس إلى إسرائيل في شهر يوليو الماضي.
اتخذتها فرصة لزيارة مدناً إسرائيلية.
وبالطبع زرت مدناً فلسطينية كرام الله.
أما القدس المتنازع عليها من الجانبين، فكانت محطة ضرورية.
ولذا خرجنا أنا وتوماس باكراً من تل أبيب في قطار أخذنا إلى مدينة تربينا على حبها ونحن لانعرفها.
ووصلنا إليها.
وأنا فرحة. اريد ان اراها.
في تل أبيب، في يافا، في حيفا، وفي رام الله، لا تشعر بالصراع القائم على هذه الأرض. بالطبع هي موجودة في جوانب لايراها الزائر بالعين المجردة.
لكن القدس معجونة بهذا الصراع. معجونة به كما لو كانت قد بنيت كي تكون محلاً للنزاع. تراه هكذا بالعين المجردة.
فقط في القدس شعرت بذلك.
كاد ذلك الشعور يخنقني.

ولم أعرف مكاناً "ينضح وينزُ" ديناً وينقسم على نفسه لذلك كالقدس.
كل الأديان الإبراهيمية الثلاثة تعتبرها "مدينتهم".
ومن ينتمي إليها من الأديان الثلاثة لايخفي ذلك. بدون تمييز.
ولو بيدهم لعَمدوا إلى طمس وجود الأخر كي تبقى هي هي مدينتهم وحدهم.

قلت لنفسي، "لا عليك. إذهبي اولاً إلى حائط المبكى ثم إلى الحرم المقدسي الشريف ولعلك سَتتعرفين على جانب آخر منها."
عندما دخلت إلى ساحة حائط المبكى لم أنتبه أني دخلت إلى الجانب المخصص للرجال. نسيت ذاك التفصيل. أقولها وأنا أكاد ابتسم. متعبة في الواقع، لكني اكاد ابتسم.
ولأني نسيت هذا التفصيل، وجدت رجلاً ينفر من أمامي ويطلب مني بأدب أن أذهب إلى الجانب المخصص إلى النساء.
امتعضت.
وأهديته ابتسامة أكثر إمتعاضاً.
وقلت لنفسي ثم لتوماس، "كلها، أي الأديان الإبراهيمية، في الخوف من المرأة سواء".
لم أذهب إلى جانب النساء بالطبع. مسألة مبدأ.
بل وقفت مع توماس انظر إلى الجانبين من جانب وسط.
وتذكرت معركة الناشطات الإسرائيليات اليهوديات من أجل تمكينهن من الصلاة على الحائط وفقا للشعائر التي يقُصرها التفسير الأرثوذكسي للدين اليهودي على الرجال.
وقلت لنفسي، "كلنا في التمييز إمراة".
تمنيت لهن النجاح من كل قلبي.

حان وقت الذهاب إلى الحرم القدسي الشريف.
كل المداخل إلى الحرم القدسي الشريف يقف عليها جنود إسرائيليون، الهدف من وجودهم منع دخول غير المسلمين إلى الحرم، وتنظيم دخول غير المسلمين (السياح) في جانب اخر.
وجدت ان عملية الدخول صعبة. المسألة حساسة. والجنود يتعاملون معها بجدية.
فكلما رأي جندي إسرائيلي توماس بجانبي يأتي الرد سريعاً بأن هذا المدخل مخصص لدخول المسلمين والمسلمات فقط، وان علينا أن نذهب إلى مدخل السياح.
إلى أن تحدث معي جندي إسرائيلي درزي بالعربية، وسألني، "هل انتي مسلمة؟" رددت فوراً "نعم".
نظر إلى متمعناً، ثم قال "حسناً، يمكنك الدخول بدون زوجك". وتوماس في الواقع لم يمانع على الأطلاق. زوجته من تريد الدخول. شكرت الجندي ممتنة، ونظرت إلى توماس فرحة.
ودخلت.
أردت فقط أن اتمشى في الحرم المكي. ان انظر إلى هذا الصرح التاريخي الديني. اقف واتأمل.
هذا كل ما أردته.
لم يكن بنيتي الصلاة في داخل المسجد.
كنت اعرف ذلك. لم أرد أن اتسبب في مشكلة.
لماذا؟ لأني لم اعد قادرة على أرتداء الحجاب عند الصلاة. اصلي بدون حجاب. ليس في شعري ما يجرح. ما يجرح هو ثقافة ذكورية تعتبر المرأة وجسدها عورة.
ولأني اعرف حساسية الموضوع، وحساسية القدس، لم ارد أن اخلق موقفاً. الموقف يستدعي ذلك. ولذا، ارتديت لهذه المناسبة رداءا طويلاً ملونة بألوان قوس قزح. ثوب جميل، يناسب المكان وجماله.
هذا لا يعني اني لم اكسر قاعدتي هذه. أي عدم لبس الحجاب في الصلاة.
لو تذَكرن عزيزاتي في مقالي "يوم دفنت أبي … مع أخي" حكيت قصة دخولي المسجد في صنعاء مع الرجال للصلاة على روح ابي، ثم دخولي المقبرة مع أخي لدفن ابي. حدث هذا في مدينة صنعاء في فبراير2011.
يومها ارتديت الحجاب لأني كنت أعرف أني اكسر تقليدا عمره قرون. وكان ذلك يستلزم مرونة من جانبي. ولذا غطيت شعري، وذهبت مع أخي، ودفنا أبانا معاً.

إذن. لم يكن هدفي أن أخلق موقفاً. كل ما أردته هو أن ادخل الحرم القدسي الشريف.
وكما حدث على حائط المبكي طفر رجل أمامي، وسألني، بحدة أستغربتها، "هل أنتي مسلمة"، قالها وهو ينظر إلى توماس الواقف على حافة البوابة ينظر.
رددت نعم.
إنحنى، وصوته لازال حاداً، "إذن ارتدي الحجاب". ومد يده لي بحجاب تناوله من كومة على دكة خشبية طويلة بجانب المدخل.
هززت رأسي وقلت له، "لن ادخل للصلاة، أريد فقط أن ادخل إلى الباحة".
وكنت قد دخلت في باحات مساجد تاريخية معروفة في إسطنبول، وكوالا لامبور، وجوهانسبرغ، في دمشق والقاهرة، ولم يطلب مني أحد أن ارتدي الحجاب.
هز رأسه بحدة اكبر وهو يدفع بالحجاب إلى يدي، "لافرق، البسيه".
صوتي بدأ يفقد هدؤه. "بل هناك فرق. ولن البسه، ليست هناك قاعدة تفرض لبس الحجاب في الباحة".
وهو ينظر إلى غير مصدق.
"لافرق"، كرر ودفع بالحجاب مرة اخرى إلى يدي.
امسكت بالحجاب هذه المرة، ورميت به على الدكة الخشبية، وقلت له: "إذن لن أدخل".
فجاءت عبارته تلك غاضبه، في الواقع غير مصدقه.
"هذا أهم من ذاك؟" وأشار إلى الحجاب الذي رميت به، ثم إلى الحرم القدسي الشريف.
وأنا رددت عليه بغضب اكبر، "نعم، هذا أهم لدي من ذاك".
وتركته.
خرجت قبل أن ارى الحرم القدسي.
خرجت إلى توماس، والجندي الإسرائيلي الدرزي.
ولم تنهمر دموعي إلا عندما التحمت عيناي بعيني توماس.
كنت اشعر بالإهانة.
ياالله كم كان الرجل مهينا.
"البسي الحجاب"، كأنه يتحدث إلى إمعة، اعتاد على ان تطيعه.
رجل يقول لي غطي نفسك حتى تدخلين إلى الحرم المقدسي وشعره هو حر. .يلفظني بسبب "شعري"، أما شعره هو فلا يجرح ذلك الحرم. شعره طاهر؟ أي منطق غريب.
وعبارة توماس، "مايعنيه هذا أنه فقط من تلبس الحجاب هي المسلمة لديه"، قتلتني، نثرت الملح على جرحي فتقرح دماً.
ووجدت الجندي الشاب ينظر إلى محرجاً، يكاد يكون متعاطفا، وسمعت صوتي يقول له وتوماس بالعربية "ديني ولن يخرجوني منه". هذا ما أذكره.
لم يفهم توماس كلماتي. فهمها بقلبه. ووجدته يمسك بيدي، وانا اقول له "دعنا نرحل".
لكنه أصر.
الرجل الذي كان مرهقا من الحروقت الظهيرة، ويريد أن نكمل هذا الجانب من اليوم بسرعة، يجر قدميه جراً، هذا الرجل وجدته يصر على دخولي الحرم.
قال لي، "بل نبحث عن مدخل السياح. ستدخلين كما تريدين".
استغرقنا الأمر نحو ساعة حتى وجدنا ذلك المدخل.
وشعرت بغصة وانا ادخل الحرم، ك"سائحة".
شعرت بغصة. خنقتني.
لم يطلبوا ان نغطي شعورنا. فقط اذرعنا. معاملة سياحية على مايبدو.
صَمت.
غطيت ذراعي. وشعري طليق.
ثم مضيت مع توماس.
دخلنا الحرم، وتأملناه في صمت.
ثم في لحظة، داخل الباحة، وقفت امام توماس، وخلفي القبة، خلعت غطاء الذراعين، وقلت له "خذ لي صورة". تردد، ثم صورني. بذلك الثوب السماوي، بألوان قزح.
نشرت تلك الصورة بعد ذلك دون تعليق، في نهاية العام. لم يكن التعليق ضرورياً.

وكنت قد خرجت من الحرم. حزينة.

ونعم. ألف الف مرة. هذا اهم لدي من ذاك.
حريتي اهم من قواعد وتقاليد دينية ذكورية تقهر إنسانيتي.
أنا كما أنا. بشعري. إنسان. لست عورة.
إنسانيتي أهم من ثقافة تعتبرني عورة.
وهي ثقافة تطويع، تبدأ بالشعر، ثم تصر على ولاية الذكر، وقصور المرأة، ثم يرددون عليها إنها ناقصة دين وعقل، إلى أن تصدق.
هذا من ذاك.

إذن أعود إليك، يامن أخرجتني من ديني، ولفظتني بسبب شعري.
أسألك صادقة،
أعتبرت شعري جارحاً، جارحاً لم؟ لرجولتك؟
لو كان شعري يَجرحك، فتلك مشكلتك. ليست مشكلتي.
ثم حبذا لو أستمعت انت ومن يفرضون ثقافة الحجاب إلى هذه العبارة: " سأرتدي الحجاب لو أرتديته أنت. سأغطي شعري لو غطيت شعرك انت. ومادمتَ ترى الفكرة غريبة وتستحق السخرية، أسألك أنا الأخرى، لم تعتبرها معي أنا ضرورية؟"
العورة في رؤيتك أنت. تلك هي عورتك.

وأنا،
أنا إمرأة.
إنسان.
لا عورة.

كل عام وأمرأتنا إنسان.