وثيقة:في تنظير قمع المرأة: العمل المنزلي واضطهاد النساء



شارون سميث
2020 / 3 / 8

توفّر الماركسية الكلاسيكية أساسًا نظريًا متينًا لفهم وتحليل جذور اضطهاد النساء، لكن لا ينبغي النظر لأي أساسٍ باعتباره مُنتجًا نهائيًا، بل يجب أن يُبنى عليه ليحقق كامل إمكانيّاته. وبالمثل، يجب مواصلة تطوير النظريات وتعديلها لتعكس التغيّرات الطارئة على الظروف المادية، ولتصحِّح، في الوقت نفسه، الأخطاء السابقة التي توضحت لاحقًا بفضل التجربة والاستقراء.

إحدى المبادئ المركزية التي تقوم عليها المادية التاريخية هي عدم جمود العلاقات الاجتماعية، بل تؤكد كونها متغيّرة باستمرار في عملية تفاوض جارية عبر الصراعات الاجتماعية والطبقية، حيث يناضل العمال، وجميع من تضهدهم المنظومة القائمة، لتحسين ظروف حيواتهم الخاصة. فاحتياجات ورغبات الطبقة الرأسمالية لم تحدِّد بمفردها ظروف العلاقات الاجتماعية، بما في ذلك العلاقات الاجتماعية المتعلقة بالنساء. والماركسية، بصفتها نظريةً حية، باستطاعتها، بل ويتوجب عليها، أن تتطور مع عالمٍ متواصلٍ في التغيّر.

لقد مرت أكثر من 150 سنةٍ منذ أن صاغ كارل ماركس وفريدريك إنجلز «البيان الشيوعي». ومنذ ذلك الحين، تغيّر العالم بشكلٍ كبير. وعلى الرغم من تمكنهما من التنبؤ بمواقع الصراع المستقبلية، إلّا أنّ الحدود التاريخية للعلاقات الاجتماعية الخاصة بزمنهما قد قيدتهما من عدة جوانب.

غالبًا ما تضم تعبيرات ماركس وإنجلز عن اضطهاد النساء، عناصرَ متناقضة، إذ تتحدّى الوضع الجندري القائم من جهة، وتكون مرآةً عاكسةً له في جوانب أخرى. كمنت أكبر القيود التي أحدثت قصورًا في تعبيراتهما حجمًا، وهي قيودٌ كبّلتهما جنبًا إلى جنب مع معاصريهما، في اعتقادهما بأن البشر غيّريّون[1] بالفطرة وأنّ المرأة متكيّفة بيولوجيًا مع دور رعاية وتربية الأطفال في الأسرة.[2]

في الواقع، وعلى الرغم من الإنجازات الهائلة التي حققتها الثورة الروسية لعام 1917، من تقنين حَقّيْ الإجهاض والطلاق، وحق المرأة في التصويت والترشح للمناصب السياسية، وإنهاء العمل بالقوانين المجرِّمة للبغاء و المثلية الجنسية، إلّا أنها لم تنتج نظريةً تتحدّى معايير المُأصِّلة لفطريّة الغيريّة أو لأولوية المصائر الأمومية للنساء. فكما أوضح المؤرخ الماركسي جون ريدل: «نظرت النساء الشيوعيات في تلك الفترة للإنجاب بوصفه مسؤوليةً اجتماعيةً، وسعين إلى مساعدة ‹النساء الفقيرات اللاتي رغبن في تجربة الأمومة بصفتها أرقى مصادر البهجة›».

لم تتجسد التحديّات الأساسية للافتراضات هذه إلّا بعد بروز حركات تحرّر المرأة وتحرّر المثلية الجنسية، وسط موجةٍ راديكاليةٍ شاملة، في أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن العشرين.

أكسبت حركة تحرّر النساء تلك، النضالَ من أجل تحرّر المرأة زخمًا كبيرًا، وتم في فترة زمنية قصيرة، بعد أن توقفت منذ عشرينيات القرن الماضي. وفي أثناء ذلك، أنتجت الحركة نظرياتٍ وممارساتٍ جديدة دفعت بالنضال ضد اضطهاد المرأة إلى أوجه جديدة، مثل:

حق النساء في تقرير مصائرهن الإنجابية
التحرر من التنميط ( التشييء) الجنسي، بعواقبه العنيفة التي تجرِّد النساء من إنسانيتهن.
رفض الأدوار الجندرية الجامدة ورفض وضع المرأة كمواطنة من الدرجة الثانية في الزواج التقليدي والمجتمع ككل.
تكافؤ الفرص في التعليم العالي والتوظيف، ومساواة الأجور في مقرّات العمل.
تضمنت حركة تحرّر النساء، كغيرها من الحركات، تيّاراتٍ سياسيةً مختلفة، متصرفةً بانسجام تام أحيانًا، ولكن كثيرًا ما تكون في اختلافٍ حاد نظريًا. وفي حين لم تكن جميع نسويات هذه الفترة في مأمنٍ من التناقضات النظرية، إلّا أنهن قد فتحن باب النقاش والاستكشاف، وفي نهاية المطاف، فتحن أيضًا باب التقدم النظري على مصراعيه.

تمثلت إحدى أهم الإنجازات النظرية للموجة النسوية الثانية في النقاش حول دور عمل المرأة المنزلي، مما أسفر عمّا أصبح يعرف بنظرية إعادة/تجديد الإنتاج الاجتماعي*، واضعةً عمل المرأة المنزلي كجانبٍ مهم من إعادة الإنتاج الاجتماعي للنظام الرأسمالي كما تصوره ماركس. أثارت نقاشات العمل المنزلي العديدَ من الاشتراكيّات و الماركسيّات النسويات بالإضافة إلى عدد من الماركسيين/ات المُنَظّمين/ات خلال سبعينيات القرن العشرين، إلّا أنّ أهميتها قد تراجعت بالنسبة لغالبية الماركسيين/ات والنسويين/ات مع حلول ثمانينيات القرن العشرين.

تشير الماركسية النسوية ليز فوغل، التي لعبت دورًا رئيسيًا في تطوير نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي، إلى تهميش نقاشات العمل المنزلي:

رفض معظم النسويون/ات في نهاية المطاف الأدبيّات المتعلقة بالعمل المنزلي باعتبارها جهدًا ضالًا في تطبيق تصنيفاتٍ ماركسيةٍ غير ملائمة. تجاهل معظم الماركسيين/ات هذا النقاش ببساطة، دون تعقيبٍ ولا مشاركةٍ فيه، حيث لم يدرك أيٌّ من الجمهوريْن السبل التي اقترحتها النسويّات الاشتراكيّات، صراحةً أو ضمنًا، حول ضرورة مراجعة وتنقيح النظرية الماركسية.

كانت النظرية الماركسية بحاجةٍ للمراجعة والتنقيح، وهذه المقالة ليست إلّا محاولةً للفت الانتباه إلى الإسهامات النظرية الخلّاقة لبعضٍ من الاشتراكيات والماركسيات النسويات في تطوير نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي، والتي تتسم بأهميةٍ أكبر من أيّ وقت مضى للمضي قدمًا في مشروع تحرّر المرأة. تتضمن هذه المقالة انتقاداتِ بعضٍ من النسويات لماركس وإنجلز، وعددًا من الصيغ النظرية التي دعمت النظرية الماركسية وطوّرتها. وفي حين كُتبت معظم المساهمات الواردة أدناه في سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن العشرين، إلّا أنها ما تزال مهمة جدًا، والإقرار بأهميتها لهو أمرٌ طال انتظاره.

سأقوم، في هذه المقالة، بتقييم العناصر الرئيسية لنظرية ماركس وإنجلز، والتي تربط وضع المرأة في المجتمع كمواطنةٍ من الدرجة الثانية، عمومًا، بدورها داخل الأسرة النووية*، مع تعريف معالم المسائل النظرية التي تحتاج إلى المزيد من التطوير أو التصحيح. كما سأتفحص أيضًا بعضًا من التقدمات النظرية، التي أحدثها، في سبعينيات القرن العشرين، منظرو ومنظِّرات إعادة الإنتاج الاجتماعي، واللاتي تناولن، على وجه التحديد، دور العمل المنزلي غير مدفوع الأجر الذي تقوم به نساء الطبقة العاملة في خدمة رأس المال، وعلاقة هذا العمل بالاضطهاد الذي تؤثر تبعاته على النساء بكافة طبقاتهن. مهمّة هؤلاء المنظّرين والمنظِّرات هذه لم تكن مهمةً سهلةً، إذ أنّه وإن كان ماركس قد وضع مسبقًا إطارًا نظريًا لتحليل وفهم هذه المسألة، إلّا أنه لم يتمّ ذلك التحليل بنفسه.

محتويات
1 ماركس وإنجلز: دور الأسرة النووية في اضطهاد المرأة
2 أوجه قصور كتاب ماركس «رأس المال» حول دور العمالة المنزلية
3 توليف العمالة المنزلية مع مفهوم ماركس للاستهلاك
4 إعادة الإنتاج الاجتماعي والعمل المنزلي
5 لم النساء؟ أسرة الطبقة العاملة كمصدر اضطهاد النساء
6 الطريق الثوري لتحرّر النساء
7 ملاحظات الكاتِبة
8 ملاحظات فريق الترجمة
ماركس وإنجلز: دور الأسرة النووية في اضطهاد المرأة
كان ماركس وإنجلز، في كثير من الأحيان، سابقيْن لعصرهما في سعيهما لإنهاء اضطهاد المرأة، أثناء تعقبهما ارتباط هذا الاضطهاد بالمجتمع الطبقي ودور الأسرة، إذ أدركا، حتى في كتاباتهما الأولى، أنّ اضطهاد النساء أمرٌ ملازم للنظام الرأسمالي، مشيريْن إلى دور المرأة الدونيّ في الأسر المالِكة للعقارات (property-owning families). ففي «البيان الشيوعي»، المنشور عام 1848، جادلا أنّ رجال الطبقة الحاكمة يضطهدون زوجاتهم وأن الشيوعيين والشيوعيات يعزمون على تحرير النساء من هذا الاضطهاد، مصرّحيْن، «لا يرى البرجوازي في امرأته سوى أداة إنتاج… ولا يساوره أي ظنٍ أنّ الهدف الحقيقي المقصود [للشيوعيات والشيوعيين] هو إلغاء موضع النساء كمجرد أدوات إنتاج».

وفي كتاب «الأيديولوجية الألمانية»، المنشور عام 1848، يشرح ماركس وإنجلز الأصل التاريخي للأسرة النووية في الانتقال مما يسميانه بـ «الاقتصاد الجماعي» والأشكال الجماعية من التنظيم الاجتماعي التي سادت في المجتمعات السابقة للطبقة، إلى بروز «الاقتصاد الفردي» وبروز الوحدات العائلية المفردة التي صاحبت ظهور المجتمعات الزراعية الأولى، ومعها التفاوت الطبقي.

فكما كتبا: «ومع الشعوب الزراعية، كان الاقتصاد المحلي الجماعي مستحيلًا، شأنه في ذلك شأن استحالة الزراعة الجماعية للتربة». قسّمت المجتمعات الزراعية المستقرة ما كان مسبقًا ملكيةً جماعية إلى قطع أراضٍ فرديةٍ تحت الملكية الخاصة لمن يملك المال الكافي لشرائها، الأمر الذي أدى إلى بروز أشكالٍ جديدةٍ من التنظيم الاجتماعي: وحدات أسريّة مُفردة.

كما يضيفان: «انفصال المجتمع إلى أسرٍ مفردةٍ متخالفة، يتضمن بصورةٍ متزامنة توزيع العمل ومنتجاته، وهو توزيعٌ غير متكافئ في واقع الأمر، كميًّا وكيفيًّا على حد سواء؛ وبالتالي فإنه يتضمن توزيعًا غير متكافئ للملكية. وهذه الملكية تقع نواتها، أو شكلها الأول، في الأسرة، حيث الزوجة والأولاد عبيد الرجل». وعلى هذا الأساس، يستنتج ماركس وإنجلز أنه مع إلغاء الملكية الخاصة، يصبح «إلغاء الأسرة أمرًا بديهيًا».

يتحرى إنجلز، في كتاب «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة»، الذي كتبه بعد فترةٍ وجيزة من وفاة ماركس، البروز التاريخي للملكية الخاصة والتداعيات الاجتماعية لذلك البروز. وكما يوحي العنوان، يربط إنجلز بروز المجتمع الطبقي مع بروز الوحدات العائلية المفردة، على هيئة الأسرة « الأبوية» الكلاسيكية،[3] بوصفها الوسائل التي تمتلك الطبقات المالكة بوساطتها الثروات الخاصة وتتناقلها، ويربط إنجلز بروز المجتمع الطبقي، كذلك، مع بروز الدولة، مُمثّلةً مصالح الطبقة الحاكمة في الصراع الطبقي اليومي. يجادل إنجلز أن الأسرة النووية برزت لأول مرةٍ بين الأسر المالكة للعقارات، إلّا أنها أصبحت فيما بعد وحدةً اقتصادية للمجتمع ككل.

أمضى ماركس سنوات حياته الأخيرة في البحث بشكلٍ مكثفٍ عن المجتمعات غير الغربية والمجتمعات ما قبل الرأسمالية، مع التركيز على علاقات القرابة والجندر على وجه الخصوص، منتجًا ما أصبح يعرف فيما بعد بـ «الملاحظات الإثنولوجية»، والتي استخدم إنجلز أجزاءً منها في كتابته نصَّ «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة»، خصوصًا تلك التي ناقشت البيانات الأنثروبولوجية لكتاب الأنثروبولوجي لويس هنري مورغان، «المجتمع القديم»، المنشور عام 1877.

كان بحث مورغان الأنثروبولوجي إحدى المحاولات الأولى لفهم تطوّر التنظيم الاجتماعي البشري. وفي حين أنّ أغلب بيانات مورغان بياناتٌ بدائيةٌ قد فقدت مصداقيتها منذ ذلك الحين نتيجة التقدم الذي أحرِز في هذا الحقل، إلّا أنّ الأدلة المتزايدة الناتجة عن الأنثروبولوجيا الحديثة توفر أدلةً وافرةً لدعم فكرة تقدمٍ تطوريّ مبدئي (basic evolutionary progression) للمجتمع البشري.[4]

يربط إنجلز بروز الأسرة النووية مع بروز اضطهاد النساء ربطًا مباشر. فكما يجادل: «ترتكز العائلة المفردة الحديثة على استعباد الزوجة المنزليّ، سواءً أكانت تلك العبودية سافرةً أم مقنّعةً، وليس المجتمع الحالي إلّا كتلةً تتألف، بوجه الحصر، من عائلاتٍ مفردة هي بمثابة جزيئاتها». وباستخدامه لمصطلح «العبودية المنزلية»، يربط إنجلز وضع المرأة التبعي مع عملها المنزلي غير مدفوع الأجر، بوصفهما وجهين لعملةٍ واحدة.

وبالإضافة إلى ذلك، ذكر إنجلز ملاحظتين ثاقبتين حول ما يترتب على المكانة التَبَعية للمرأة، باعتبارها تبعاتٍ جوهريةٍ لدورها في الأسرة الأبوية، حيث توجد: (أولًا) ازدواجية المعايير الجنسية تفرض الزواج الاحادي على المرأة فقط، و(ثانيًا) التساهل مع العنف الأسري المُسَلّط على النساء، وضدّهن، على أيدي أزواجهن.

يجادل إنجلز أيضًا بأنّ المفهوم المثالي للعائلة الأحادية يرتكز على نفاقٍ جوهري. فمنذ بداياتها، من أجل أن يضمن الأب (البطريرك) أن الأطفال هم أطفاله، خُتِمت الأسرة بـ «طابعها الخاص، إذ جُعل منها أحاديةَ زواجٍ بالنسبة للمرأة فقط، لا بالنسبة للرجل». ففي الأسر الأبوية في روما واليونان، قُيّدت النساء قانونيًا بالأحادية في حين سمح للرجل ممارسة تعدد الزوجات.

وحتى بعد أن ألغي الزواج التعددي قانونيًا في معظم المجتمعات، يواصل الرجال تمتعهم بقدرٍ أكبر من الحرية الجنسية. أفعال الخيانة من جانب النساء، التي أدانها المجتمع الڤيكتوري في أيام إنجلز، وهي معيارٌ جنسي مزدوج لا يزال يحمله المجتمع الرأسمالي المعاصر، «إنما هي بالنسبة للرجل أمرٌ مُشرِّف أو، في أسوء الأحوال، لطخةٌ أخلاقية طفيفةٌ يحملها بسرور». وحتى يومنا هذا، تفترض الأيديولوجية السائدة أنّ الرجال «بطبيعتهم» ميّالون لرغبة ممارسة الجنس مع شركاء متعددين، في حين أن بيولوجيا المرأة تجعلها أكثر قناعةً بشريكٍ واحدٍ فقط.

وبالإضافة إلى ذلك، لاحظ إنجلز أنه نظرًا إلى المفهوم المثالي للأسرة الأحادية، فإن «الزنى، الممنوع والمعاقب بصرامة، والذي يستحيل، رغم ذلك، القضاء عليه، قد أصبح مؤسسةً اجتماعيةً راسخة». يضيف إنجلز أنّ وتيرة ممارسة الجنس بين الرجال المتزوجين والنساء غير المتزوجات ترسّخت في المجتمع وأصبحت جزءًا منه مع مرور الوقت، حيث ازدهرت هذه العلاقات «بأكثر الأشكال تنوعًا طوال عصر الحضارة كله واتخذت تتحول أكثر فأكثر إلى بغاءٍ سافر».

وهكذا، جنبًا إلى جنبٍ مع تطور الزواج الأحادي، نما تسليع الجنس على شكل البغاء. يجادل إنجلز إنه «مع ظهور التفاوت في الملكية…أخذ العمل المأجور بالبروز هنا وهناك… كما أخذ احتراف البغاء بواسطة النساء الحرّات يظهر في الوقت نفسه إلى جانب إكراه الإماء على مجامعة الرجال». ويضيف إنجلز: «أحادية الزواج والبغاء هما، في العالم الحالي، متضادان حقًا وفعلًا، لكنهما متضادان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وقطبين لوضعٍ اجتماعيٍ واحد».

ملاحظة إنجلز هذه هي ملاحظةٌ ثاقبةٌ حقًا، لا سيما أنه يستعصي عليه تخيّل المدى الذي تحوّل فيه التسليع الجنسي للمرأة إلى صناعةٍ ضخمةٍ مربحةٍ للغاية في القرن العشرين، وهو الذي عاش في إنجلترا الڤيكتورية في القرن الذي سبقه، أو أن التسليع الجنسي سيصبح سمةً أساسيةً من سمات اضطهاد النساء، ككل، تحت ظل النظام الرأسمالي المعاصر.

ثانيًا، يلفت إنجلز الانتباه في كتاب «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة» إلى الوتيرة التي تكون فيها المرأة ضحيةً للعنف المنزلي في إطار الأسرة النووية، وذلك قبل ظهور الحركة النسوية الثانية في أواخر ستينيات القرن العشرين، في الولايات المتحدة، بزمن طويل، إذ أنّ هذه الحركة جعلت من هذه القضايا محورًا للنظرية والنضال. يصف إنجلز التدني الهائل لمنزلة المرأة كنتيجة لبروز الأسرة الأبوية (البطريركية) الكلاسيكية، مجادلًا أنّ بروز التكوين الأسري هذا قد واكبه حطٌّ من منزلة المرأة، الأمر الذي لم يمكن موجودًا في المجتمعات السابقة للطبقات.

يصف إنجلز السيادة الذكرية داخل الأسرة بكونها «الهزيمة التاريخية العالمية للجنس النسائي»، كاتبًا:

أخذ الزوج دفة القيادة في البيت أيضًا؛ وحُرمت الزوجة من مركزها المشرف، واستُعبدت، غدت عبدةَ رغبات زوجها الجنسية، وأمست مجرد أداةٍ لإنتاج الأطفال…

ومن أجل ضمان إخلاص الزوجة، وبالتالي ضمان أبوة الأطفال، فإنها تسلَّم لسلطة زوجها دون قيدٍ أو شرط؛ فإن قتَلها، فما يمارسه ليس إلّا أحد حقوقه.

على الرغم من وصف إنجلز نموذج الأسرة الأبوية (البطريركية) في هذا المقطع، إلّا أنّ العنف الأسري ليس منتجًا باليًا أو عتيقًا من منتجات العصور الوسطى، وذلك أمرٌ جليٌّ جدًا في يومنا هذا، بل على العكس من ذلك، حق الزوج في ضرب زوجته كان قد شُرّع قانونيًا في مراحل الرأسمالية المبكرة، واستمر إلى ما بعد تلك الحقبة. ففي أمريكا الاستعمارية، سُمح للأزواج ضرب زوجاتهم، لكن ليس في أيام الأحد أو بعد الساعة الثامنة مساءً لتجنب الإخلال بالسلم. ولم تجرّم ولايات الولايات المتحدة ضرب الزوجة إلّا في عام 1911، ما عدى ولاية مسيسيبي. وحتى عام 1973، سمح القانون الإنجليزي حجز الأزواج لزوجاتهم في حال أَرَدْنَ هجرهم. وفي القِران المسيحي، نرى أنّ الأب «يسلّم» ابنته لزوجها الجديد، وفي بعض الولايات الأمريكية يستحيل مقاضاة الزوج عند اغتصابه لزوجته.

وفي الوقت الذي يقدم إنجلز فيه هذه المعلومات القيّمة، إلا أنّ العملية التي يصفها أعلاه يُستَبعَد، واقعًا، حدوثها كـ «هزيمة تاريخية عالمية» حدوثًا منفردًا مفاجئًا للجنس النسائي، ناتجةً عن بروز الأسرة الأبوية. ملاحظات ماركس الإثنولوجية تبين أيضا أنّ ماركس، في حين تشاطر الكثير من الآراء مع إنجلز، حمل رؤيةً ذات طابعٍ جدليّ (ديالكتيكي) أكثر لهذه السيرورات التاريخية من تلك التي حملها إنجلز.

وفي حين يصف كلٌّ من ماركس وإنجلز الأسرة الأبوية بالقمع الشديد تجاه المرأة، تُركّز ملاحظات ماركس، إضافةً إلى ذلك، على التناقضات السابقة التي مهدت السبيل لاحقًا لبروز المجتمع الطبقي والتكوين الأبوي للأسرة. يشير ماركس إلى عمليةٍ استغرقت مدّةً زمنيّةً أطول، كانت بداياتها في المراحل الأخيرة من الشيوعية البدائية، مُنشِأةً شكلًا من أشكال التفاوت بين الجنسين قبل نشوء الزراعة واسعة النطاق والأسرة الأبوية بفترة طويلة. فكما يلحظ ماركس، «بدأت السلطة الأبوية… بالظهور كعامل ضعيف في العوائل السيندياسمية [زواجٌ ثنائيٌّ لكن دون ترتيبات معيشة حصريّة للزوجين]، ثم ترّسخت تمامًا تحت الزواج الأحادي، مع اجتيازها كل حدود العقل في الأسرة الأبوية ذات النمط الروماني».

يختلف ماركس كذلك عن رؤية إنجلز للاحتمالات المستقبلية لمؤسسة الزواج الأحادي. فعلى الرغم من هجوم إنجلز اللاذع على الزواج الأحادي القسري في إطار الأسرة النووية المذكور أعلاه، إلّا أنّه خمن أنّ الاشتراكية ستجلب معها ازدهار الزواج الأحادي، على شكل «الحب الجنسي الفردي»، وإن كانت في ظروف من المساواة، حيث ينضم الرجال للنساء في التزامهم الحصري لبعضهما البعض. هنا، يبدو أنّ إنجلز قد قبل بأخلاقيات عصره الڤيكتورية.

في الواقع، اتخذ إنجلز العديد من المفاهيم الڤيكتورية المماثلة في كتاب «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة» كأمثلة يحتذى بها. فكما تُوضِّح أستاذة العلوم السياسية هيذر براون: «تناول إنجلز معايير القرن التاسع عشر حول النساء وأسقطها على الانتقال من الزواج الجماعي إلى الزواج الثنائي، مجادلًا أنّ النساء رغبن في مؤسسة الأسرة الثنائية للحيازة على ‹حق العفة›».

لم يفترض ماركس أن الأسرة الأحادية ستتجاوز في وجودها المجتمع الطبقي وستنجو من انحلاله، كما افترض إنجلز. بل على العكس من ذلك، حيث كتب في ملاحظاته (متفقًا مع مورغان)، «فكما تحسّنت الأسرة الأحادية وتطوّرت منذ مطلع الرأسمالية بشكل كبير، وبشكل عقلاني في العصر الحديث، من المفترض إذن أنّها ما تزال قادرةً على التحسن الإضافي حتى تتحقق المساواة الكلية بين الجنسين. لكن، إن فشلت الأسرة الأحادية في الاستجابة لمتطلبات المجتمع في المستقبل، وعلى افتراض التقدم المستمر للحضارة، فمن المستحيل التنبؤ بطبيعة خليفتها». وكما تُعلّق هيذر براون، إذ يمثل بحثها الخاص في ملاحظات ماركس بحثًا قيّمًا: «يشدد ماركس، من خلال أسلوبه في التوكيد، ضروريةَ وإمكانيةَ تحقيق المساواة الكلية بين الجنسين».

لقد ساعد دمج بعض الاستنتاجات الرئيسية لملاحظات ماركس الإثنولوجية تعميق فهمنا للعمليات التاريخية المعنية في بروز اضطهاد المرأة. وبراون محقةٌ، بلا شك، في تأكيدها أنّ «يبقى إنجلز محصورًا ضمن إطارٍ حتميٍ أحاديّ الجانب، أمّا صياغة ماركس فتتيح مزيدًا من التنوع في النتائج ودورًا أكبر لحرية إرادة الفاعل الإنساني، عند النساء وعلى وجه التحديد».

التصحيحات اللازمة هذه لا تقلل من مساهمات إنجلز البالغة. معًا، يوفر كلٌّ من ماركس وإنجلز إطارًا نظريًا واسعًا يحدّد، بصورة عامة، مصدر اضطهاد النساء كاضطهادٍ نابع في المقام الأول من دورهن المختص بإعادة الإنتاج (reproductive role) في الأسرة ودور الأسرة كوحدةٍ اقتصاديةٍ في المجتمع الطبقي.

أوجه قصور كتاب ماركس «رأس المال» حول دور العمالة المنزلية
نظرًا لتفاني ماركس في سنوات حياته الأخيرة في بحثه الذي أنتج ملاحظاته الإثنولوجية، من الممكن الافتراض أنه عزم متابعة مسألة اضطهاد النساء والعائلة النووية كمشروعِ كتابةٍ مستقبلي. لكن، وبالرغم من ذلك، يفتقر كتاب «رأس المال» لبعض الأوجه الحاسمة بشأن هذه المسألة، إذ لا يتناول كتاب «رأس المال» مسألة اضطهاد النساء إلّا بصورةٍ عابرة، وظلّ تناوله لدور أسر الطبقة العاملة، بما في ذلك الدور المحدَّد للعمل المنزلي لنساء الطبقة العاملة، تناولًا قاصرًا إلى حدٍّ بعيد. وعلاوةً على ذلك، يقلل ماركس أيضًا من أهمية الدور الذي يلعبه رأس المال في الفرض القانوني لزواجٍ صارم جندريًا، غيريًا، وأحاديًا على جميع الطبقات، وذلك في الوقت الذي يعزز فيها، أي رأس المال، أيضًا وجود أسرة الطبقة العاملة، ضامنًا بقائها.

وفي حين فهم ماركس بوضوح دور الأسر المالكة للعقارات في حفاظها على أجيالٍ من الطبقة الرأسمالية وثرواتها وإعادة إنتاجها لهما، كان تحليله للدور الذي تلعبه عوائل الطبقة العاملة للنظام متناقضًا.

فمن ناحية، فهم ماركس أنّ عوائل الطبقة العاملة، في جوهرها، تعيد إنتاج قوة العمل عبر الأجيال لصالح المنظومة الرأسمالية، من خلال ضمان الاستغلال اليومي لعمّال الجيل الحالي، والقيام أيضًا بتربية وتدريب عمّال الجيل القادم. ومن ناحية أخرى، اعتقد ماركس خطأً أنّ أسرة الطبقة العاملة في طريقها للزوال، تاركًا دون جواب مسألةَ الكيفية التي سيُمكِن من خلالها إعادة إنتاج قوة العمل لصالح رأس المال في حال غياب أسرة الطبقة العاملة.

يجادل ماركس، بمقدارٍ من العفوية، في المجلد الأول من «رأس المال»، «أن استمرار الحفاظ على الطبقة العاملة وإعادة إنتاجها يظل شرطًا ضروريًا لإعادة إنتاج رأس المال. ولكن بوسع الرأسمالي أن يوكل هذه المهمة، باطمئنان، إلى العمال أنفسهم متكلًا على غريزتيّ حفظ الذات والتكاثر عندهم».

ولكن، تاريخيًا، لم يكن الحال كذلك. لم تتطور أُسر المجتمعات الطبقية السابقة للرأسمالية بسلاسةٍ حتى وصلت للأسرة المثالية المناسبة للنظام الرأسمالي، فقد جلبت المصنعة (industrialization) معها قوانينًا فَرضت بها الطبقات الحاكمة زواجًا غيريًا معتمد قانونيًا لجميع طبقات المجتمع، مع تداعياتٍ واسعةٍ لمنزلة المرأة قانونيًا واجتماعيًا. ففي عام 1769، مثلًا، اعتمدت المستعمرات الأمريكية الخاصة بالإمبراطورية البريطانية مبادئ القانون الإنجليزي العام، مما جعل المرأة نكرةً قانونيًا ولا يوضع لها أيّ اعتبار بعد الزواج: «مع الزواج، يصبح الزوج والزوجة شخصًا واحدًا في نظر القانون، كما تُعلَّق كينونتها ذاتها ووجودها القانوني خلال فترة الزواج، أو تُدرج على الأقل في كينونة زوجها ووجوده القانوني، وهو من تُنجز هي كل شيء في ظل جناحه وحمايته».

يبرهن لنا ولاء الطبقة الرأسمالية التاريخي للزواج التقليدي مقدار مصلحتهم في فرضها، خلافًا لمزاعم ماركس. فكما تجادل جون سميث، وهي ماركسيّةٌ بريطانية: «لأن وجود طبقةٍ من العمّال المأجورين الأحرار شرطٌ مسبق أساسيٌ لوجود الرأسمالية، سعى جميع الرأسماليين للتدخل في إعادة إنتاج هذه الطبقة…فمنذ مطلع النظام الرأسمالي قيّدت قوانين وأجهزة الدولة القمعية وهياكلها الأيديولوجية، بشدة، نظام إعادة الإنتاج في الأسرة الخاصة».

كما ذكرنا أعلاه، اعتقد ماركس مخطأً أن أسرة الطبقة العاملة كانت في طريقها للزوال. من بعض النواحي، من الممكن تفهم ذلك، بلا شك نظرًا لإدراكه الظروف المباشرة التي أحاطت به: من تدهور الحياة العائلية لأفراد الطبقة العاملة، والتغيّرات الجندرية التي رافقت ذلك. ففي تلك المرحلة من التاريخ البريطاني، جعلت مساهمة عائلاتٍ كاملة في العمل الصناعي من الحياة الأسريّة أمرًا مستحيلًا، حتّى أنّ العديد من أطفال الطبقة العاملة شُغّلوا، حَرفيًّا، حتى الموت قبل بلوغهم سن الرشد.[5]

لكن، حتى في زمن ماركس، كانت الطبقة الرأسمالية في قيد تعزيز أسر الطبقة العاملة البريطانية بسبب تهديد إفقار الطبقة العاملة قدرتها على إعادة إنتاج نفسها، وطرح ذلك، أيضًا، إمكانية التثوير الاجتماعي. رفع أرباب العمل أجور العمّال الذكور ما يكفي (فقط) لإعالة أفراد أسرتهم الآخرين، فيما أصبح يعرف فيما بعد باسم «الأجر العائلي»، سامحًا لمكوث المزيد من النساء في المنزل كربّات منزل.

وفي الوقت نفسه، وضعت الحكومة البريطانية وفرضت قوانينًا للزواج، لتشجيع العمال على العيش في وحدات أسرٍ نووية، مُحضِّرةً الوضع، في الوقت نفسه، لتحمل الدولة بعض المسؤوليات بِغاية توفير بعض المهارات والخدمات للجيل القادم من العمال، مسؤوليّاتٌ كانت مُسنَدة سابقًا إلى الأسرة، بما في ذلك تأسيس تعليم عام مجاني وإلزامي.

لقد تغيرت أسر الطبقة العاملة من عدة نواحي منذ زمن ماركس، إلّا أنّها لم تنحلّ أبدًا كمؤسسة اجتماعية. تحدّت حركة تحرر النساء في ستينيات القرن العشرين بنجاح مفهوم انحصار مجمل طموح حياة المرأة في الزواج والإنجاب، وهو ما أدّى، جنبًا إلى جنبٍ مع مشاركة المرأة المتزايدة في العمل المأجور، إلى تغيّرات جذرية في الهياكل الأسرية التقليدية.

قل عدد النسوة اللاتي تبنين اسم عائلة أزواجهن عند الزواج. وبالمثل، وبالفضل لحركة المثليّين/ات و مزدوجي/ات الميول والمتغيّرين/ات جنسيًا، ما يسمى بـ «حركة الميم»*، أصبح بإمكان المزيد من الأزواج المثليين/ات تربية الأطفال، متحدّين/اتٍ الصور الجندرية النمطية داخل الأسرة. وارتفاع نسب الطلاق قد أدى أيضًا إلى ارتفاع عدد الأسر أحادية المُعِيل/ة، وهي أسرٌ غالبًا ما ترأسها امرأةٌ تعيش في فقرٍ مدقع. ومع توظيف المزيد من النساء خارج المنزل، قل إنجاب الكثير من النساء للأطفال وبتن ينجبن في وقتٍ متأخر من حياتهن. كما أنّ مسؤوليات العمل المنزلي مالت للانخفاض مقارنةً مع العقود السابقة. وفي حين يمثل تحسن التكنولوجيا المنزلية إحدى العوامل المساهمة في ذلك، فتناقُص الوقت المستغرق في الطبخ والتنظيف نتيجةً لتليّن معايير النظافة وقلة تواتر الوجبات المنزلية يرجع لمشاركة المرأة المتزايدة في العمل المأجور.

لكن، وعلى الرغم من كل هذه التغيّرات، ما تزال وظيفة أسر الطبقة العاملة لرأس المال هي هي: إعادة إنتاج قوة العمل. يحمل البالغون في العائلة تقريبًا كامل المسؤولية المالية للحفاظ على أفرادها، سواءً كانوا في أسرةٍ أحادية المُعيل/ة أو في أسرةٍ ممتدة، عاملين كانوا أم عاطلين. ما تزال مسؤوليات العائلة اليومية تتمحور حول التغذية والكسوة والتنظيف والرعاية لأفرادها بصورة أو بأخرى، وما تزال غالبية هذه المسؤوليات تقع على عاتق النساء. وإدراك كيفية وسبب ذلك لن يتصدّى فقط لمصدر اضطهاد المرأة نظريًا، بل سيتصدّى لكيفية تأثير ذلك أيضًا على مكانة جميع النساء ووضعهن في المجتمع.

توليف العمالة المنزلية مع مفهوم ماركس للاستهلاك
استنادًا إلى مفاهيم ماركس، لا يُنتج عمل المرأة المنزلي غير المأجور فائضَ قيمةٍ في حد ذاته، إلّا أنه ضروريٌّ للغاية في الحفاظ على النظام الرأسمالي. وبالفعل، تضع أيديولوجية الطبقة الحاكمة أولويةً على الحياة المُعيدة للإنتاج الخاصة بالمرأة، استنادًا إلى مفهوم أنّ قدرة المرأة التربوية تجعلها مناسبةً، بطبيعتها، لإعطاء الأولوية لزوجها وأطفالها على حساب جميع مساعيها الأخرى، محددين دور المرأة بِتَبعيّتها لـ «عائلها» الذكر. تمتد تداعيات الأيديولوجية هذه إلى ما يتجاوز الحياة الأسرية نفسها، مؤثرةً على نساء جميع الطبقات، حيث يرى القانون الأخلاقي للمجتمع أجساد النساء وخياراتهن الإنجابية باعتبارها خاضعةً لرقابة الآخرين وإدانتهم. تهدف القيود المفروضة على الإجهاض ومنع الحمل إلى تقييد حق النساء في التحكم في مصائرهن الإنجابية، وسياسات المعونة الطبية التي ترفض تمويل الإجهاض، وتدفع، في المقابل، تكلفة تعقيم النساء الفقيرات، تجمع، بشكلٍ متزامن، بين العنصرية العرقية والجنسية، مقيدةً حق المرأة الفقيرة غير البيضاء لإنجاب ما تشاء من الأطفال.*

استندت المنظِّرات المنخرِطات في النقاشات حول العمل المنزلي، التي جرت في سبعينيات القرن العشرين، إلى النظرية الماركسية لاكتشاف الدور المحدّد، الدقيق، لعمل المرأة المنزلي غير المأجور في ظلّ النظام الرأسمالي، والذي يُرسي الأساس لاضطهادهن الخاص. لكن، بسبب عدم تناول ماركس لهذه المسألة على نحو كافٍ، لم يكتفي المنخرطون/ات في هذه النقاشات بمحاولة توضيح النظرية الماركسية وحسب، بل حاولن أيضًا تطوير المفاهيم الماركسية في مجالٍ نظريٍ غير مألوف. وفي الوقت ذاته، كما لاحظت ڤوغل، «تكمن المبادئ الأساسية لخلق نهجٍ صالح للاستعمال، مباشرةً تحت سطح تحليلات ماركس، في كتاب ‹رأس المال›، المتعلقة بإعادة الإنتاج الاجتماعي».

تتواجد إحدى هذه المبادئ داخل مفهوم «الاستهلاك» لماركس، والذي طبقه عن طريق التمييز بين الاستهلاك الإنتاجي للعامل/ة واستهلاكه/ا الفردي، إذ يمثل كلاهما أمرين متكافئين في جوهريّة دورهما في الحفاظ على نظام الاستغلال، لكنّهما يحتلّان صنفين نظريّين متمايزين. فكما أوضح ماركس:

يستهلك العامل الأشياء على نحو مزدوج. فهو حين ينتج، إنما يستهلك بعمله وسائل الإنتاج، محولًا إيّاها إلى منتجات ذات قيمة أكبر من قيمة رأس المال السالف. هذا هو استهلاكه الإنتاجي، لكن هذا الاستهلاك، في الوقت نفسه، استهلاكٌ لقوة عمله بواسطة الرأسمالي الذي اشتراها. ومن ناحية أخرى، يحوّل العامل النقود المدفوعة له لقاء قوة عمله إلى وسائل معيشة. هذا هو استهلاكه الفردي. لذا فإن الاستهلاك الإنتاجي للعامل يختلف كليًا عن استهلاكه الفردي. ففي الأول، يتصرف كقوّةٍ محركة لرأس المال، منتميًا للرأسمالي، بينما، في الثاني، ينتمي لذاته، ويقوم بوظائفه الحياتية خارج عملية الإنتاج. نتيجة الأول معيشة الرأسمالي، ونتيجة الثاني معيشة العامل.

يلاحظ ماركس أن «وسائل المعيشة» المدرجة في الاستهلاك الفردي للعامل/ة يجب أن تشمل أيضًا وسائل عيش أطفاله/ا، وذلك لأنّ جميع العمال قابلون للفناء وقوة عملهم/ن يجب أن يستبدلها الجيل القادم من العمال: «ولذا يتضمن مجموع وسائل المعيشة الضرورية لإنتاج قوة العمل، وسائلَ المعيشة لأولئك البدلاء، أي أطفال العمال، وبذلك يُخلَّد في سوق البضائع جنس مالكي السلعة المتميزة هؤلاء»*.

أبدت ڤوغل الملاحظة الهامة التالية حول العنصر المفقود، المتعلق بالعمل المنزلي، من مفهوم الاستهلاك الفردي لماركس: «يحدث الاستهلاك الفردي عندما ‹يحوّل العامل النقود المدفوعة له لقاء عمله إلى وسائل معيشة›…لكنه لم يذكر إلّا قليلًا من الأعمال والأنشطة الفعلية المرتبطة بالاستهلاك الفردي. هنا يوجد عالم من النشاط الاقتصادي الضروري للإنتاج الرأسمالي إلّا أنّ هذا العالم لم يرِد في شرح ماركس».

ليست وسائل العمال المعيشية بضائع يمكن شراؤها ببساطةٍ بل تتطلب عملًا منزليًا حتى تصبح صالحةً للاستهلاك. فغسل الملابس والأواني، والقيام بالأعمال المنزلية، والقيام بالمهام العديدة المتعلقة بتربية الأطفال، كل هذه الأمور تستلزم عملًا منزليًا. من دون العمل هذا، لن يصبح ممكنًا للاستهلاك الفردي أن يتحقق.

وفي حين تؤدى هذه المهام من أجل الاستهلاك الفردي للعمال، إلّا أنها تلعب دورًا محوريًا في إعادة إنتاج قوة العمل أيضًا، من ناحيتي التجديد اليومي للعمال وإعداد الجيل القادم من العمال لدخول سوق العمل. عندما تؤدَّى هذه المهام على نطاق المجتمع بأسره، فإنها تصبح جزءًا من عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي التي وصفها ماركس، والتي يعاد فيها إنتاج العلاقات الاجتماعية الرأسمالية على الدوام.

إعادة الإنتاج الاجتماعي والعمل المنزلي
يحتوي مفهوم إعادة الإنتاج الاجتماعي لماركس في داخله على مفهومٍ أساسيّ في حاجةٍ إلى مزيدٍ من التطوير: دورُ العمل المنزلي في جعل إعادة الإنتاج الاجتماعي أمرًا ممكنًا. فكما جادل ماركس في الجزء الأول من كتاب «رأس المال»: «إن عملية الإنتاج الرأسمالية…لا تنتج السلع وحسب، وليس فائض القيمة وحسب، وإنما تنتج وتعيد إنتاج علاقة رأس المال ذاتها: الرأسماليّ من جهة، والعامل المأجور من جهة أخرى». يميز ماركس بين «الرساميل الفردية» (المشاريع الرأسمالية الفردية) وبين «رأس المال الاجتماعي» (المجموع الكلي لجميع الرساميل الفردية).

يستخدم ماركس مصطلح «إعادة/تجديد الإنتاج الاجتماعي» ليصف الوسائل التي يتجدد بواسطتها رأس المال الاجتماعي باستمرار. وهذا يشمل إعادة الإنتاج الفيزيائي لوسائل الإنتاج، والتي لا تشمل آلية الإنتاج وحسب، بل تشمل أيضًا «العامل نفسه». فكما يوضح ماركس في المجلد الثاني من «رأس المال»:

لو درسنا المنتوج السلعي الذي يقدمه المجتمع خلال سنة، لاتّضحت لنا كيفية جريان عملية تجديد رأس المال الاجتماعي، ولبرزت الخصائص التي تميز عملية تجديد رأس المال الاجتماعي هذه، عن عمليةِ تجديدِ إنتاج رأسِ المال الفرديّ، ومعها الخصائص المشتركة بين الاثنتين. إنّ المنتوج السنوي يتضمن تلك الأجزاء من المنتوج الاجتماعي التي تعوض عن رأس المال، أيّ تخصص لتجديد رأس المال الاجتماعي، كما يتضمن تلك الأجزاء التي تذهب إلى رصيد الاستهلاك، أي تلك التي يستهلكها العمال والرأسماليون، نعني أن المنتوج السنوي يتوجه إلى الاستهلاك الإنتاجي والفردي. وهذا الاستهلاك يتضمن تجديد إنتاج (أي صيانة) طبقة الرأسماليين وطبقة العمال على حدٍّ سواء، وبالتالي تجديد إنتاج الطابع الرأسمالي لعملية الإنتاج بأسرها. (الخطّ العريض مُضاف)

فعلى حد تعبير ڤوغل، «العملية التي تلبي الاحتياجات الشخصية المستمرة لمالكي قوة العمل هي بالتالي ظرفٌ من ظروف إعادة الإنتاج الاجتماعي، كما هي الحال بالنسبة للعملية التي يُستبدَلون هم بها مع مرور الوقت. هاتان العمليتان المتعلقتان بالصيانة اليومية والاستبدال طويل الأمد يمكن دمجهما بمصطلح إعادة إنتاج قوة العمل».

وفي حين يواصل عمل المرأة المنزلي أداء هذه الوظيفة الحيوية في إعادة الإنتاج الاجتماعي، تواصل الرأسمالية جذبها للمزيد والمزيد من النساء ليدخلن في اليد العاملة، الأمر الذي يتطلب، بدوره، انخفاضًا في العمالة المنزلية. ولنكن واضحين، كان العمل المأجور، بدافع الحاجة، سمةً دائمةً للعديد من نساء الطبقة العاملة تاريخيًا، لا سيما النساء السود.*

لكن منذ سبعينيات القرن العشرين وصاعدًا، أصبحت أعدادٌ متزايدة النساء المتزوجات، وحاليًا، غالبية النساء اللاتي لهن أطفال صغار، موظّفات. والأمّهات المتزوجات أكثر عرضةً من غيرهن للعمل بدوام جزئي بَغيّة تلبية احتياجات أسرهن، وهن، أيضًا، الأكثر عرضةً للخروج من قوة العمل مؤقتًا عند إنجابهن لأطفال. غير أن النساء اليوم يشكّلن جزءًا دائمًا وكبيرًا من الأيدي العاملة، حتى لو دخلت فرادى النساء أو خرجن من العمل المأجور، أو عملن لساعاتٍ أقل مقارنةً مع العمال الذكور. باتت الرأسمالية تعتمد على النساء بصفتهن شريحةً دائمة من أيدٍ عاملةٍ متدنية الأجر، شريحةً تغلبُ فيها وظائف النساء.

وعلى مدار القرن الماضي، ترافق انخراط المرأة المتزايد في الأيدي العاملة بتقلصٍ مقابلٍ في الوقت الذي قضيْنه في العمل المنزلي. فكما تعلق ڤوغل، «منذ أوائل القرن العشرين، أصبح إعداد الطعام أقل استهلاكًا للوقت، وغسيل الملابس في بعض النواحي أقل إرهاقًا، كما تولّت المدرسة أغلب مهام التدريس. وفي الآونة الأخيرة، أدّى انتشار الأغذية المجمدة، وأفران المايكروويف، والمغاسل الكهربائية، والتوافر المتزايد لِدُوْر الرعاية النهارية، كدُوْرِ الحضانة وروضات الأطفال وبرامج ما بعد المدرسة، إلى تقلص الأعمال المنزلية أكثر فأكثر».

لكن، ومع كل ذلك، هناك قيودٌ مفروضة على مدى الحد من دور المرأة في إعادة إنتاج قوة العمل، إذ أنّ الرأسمالية متّكلة على العمالة المؤداة داخل المنزل مجانًا. لا يمكن لمجتمعٍ رأسماليٍّ ما أن يتخلى عن الدور الذي تؤديه أسر الطبقة العاملة ما لم تتخلى عن ذلك جميع المجتمعات الرأسمالية، وذلك يرجع إلى تنافس الرساميل مع بعضها البعض. فكما تعلق سميث، «استحالَ إلغاء نظام الأسرة في اليابان، واستبداله بمزارع للأطفال ودُوْر الحضانة بصفتهما شركاتٍ ربحيةٍ أو كجزءٍ من نظامِ رأسماليةِ الدولة، دون أن تكون إعادة إنتاج الأيدي العاملة اليابانية أكثر تكلفة أو أقل كفاءة من منافسيها».

تشير حقيقة أن الأسرة القائمة على القرابة ما تزال حتى الآن الوسيلة الأكثر شيوعًا لإعادة إنتاج القوة العاملة تحت النظام الرأسمالي إلى مميزاتها ليس للطبقة الرأسمالية فحسب بل للطبقة العاملة أيضًا، وذلك في ضوء البدائل المطروحة. وفي حين قد تغيّرت الأسرة في جوانب عديدة بمرور الزمن، إلّا أنّ وظيفتها الأساسية في إعادة الإنتاج الاجتماعي لم تتغير بتاتًا، إذ أن جميع أسر الطبقة العاملة، حتى الأسر ذات المعيل/ة الواحد/ة، أو الأسر ذات الوالدين المثليين، جميعها تؤدي وظيفةً أساسيةً متمثلةً في إعادة إنتاج قوة العمل لصالح رأس المال.

لم النساء؟ أسرة الطبقة العاملة كمصدر اضطهاد النساء
افتراضًا تواصل اعتماد رأس المال على أسرة الطبقة العاملة في إعادة إنتاج قوة العمل، فثمة حد جسديّ أيضًا لتقليص دور النساء في العمل المنزلي بسبب الحمل والولادة، بما في ذلك النساء المنخِرطات في العمل المأجور. من خلال تقصّي هذا الجانب من إعادة إنتاج قوة العمل، استطاعت ڤوغل تحديد السبب الدقيق لإسناد المجال المنزلي إلى لنساء بدلًا من الرجال.

بإمكان كلا الجنسين/الجندريْن واقعًا تأدية العمل المنزلي داخل العائلة، غير أنّ عملية التناسل البيولوجي، أي الإنجاب، هو أمرٌ تنفرد به النساء. تتحمل أسر الطبقة العاملة أغلب مسؤوليات إعادة إنتاج قوة العمل، بما في ذلك دعم النساء خلال الأسابيع أو الأشهر السابقة مباشرةً للولادة والتالية لها. قد يشتمل ذلك على تولي مجموعةٍ متنوعةٍ من الأقارب المسؤولية الرئيسية في إعالة النساء – وهي مسؤولية غالبًا ما يتولاها الأب البيولوجي، في الأسرة الغيرية – خلال تلك الفترة التي لا يكُنّ قادرات فيها، جسديًا، على المشاركة الكاملة في أيٍّ من العمالة الإنتاجية أو المنزلية.

فكما تجادل ڤوغل: «على الرغم من أن أدوار النساء والرجال المتباينة، جوهريًا، لا تحتاج للاستمرار إلّا خلال أشهر الإنجاب هذه، غالبًا ما تنزع مسؤوليّات النساء إلى أن تُجانَس مع دورهنّ الإنجابي في الأسر القائمة على القرابة، خصوصًا مع إنجاب أغلب النساء عدة أطفالٍ على مدار مقدارٍ معيّن من السنوات». وتضيف ڤوغل: «عادةً ما تُشرعَن هذه الترتيبات بواسطة هيمنةٍ ذكوريةٍ مدعومةٌ بهياكل مؤسساتية لقمع الإناث». تشمل هياكل قمع الإناث المؤسساتية هذه تقييد حقوق المرأة القانونية، المنصوص عليها في القوانين المنظِّمة للزواج، والطلاق، والحقوق الإنجابية التي وُصفت آنفًا.

إنّ حقيقة صمود دور أسرة الطبقة العاملة لهو دليلٌ على أنها الوسيلة المفضلة لدى رأس المال لإعادة إنتاج قوة العمل، مع حال غياب تحدٍّ شعبيّ لجوهرها. فكما جادلتُ آنفًا، استطاع النظام إلحاق النساء بالأيدي العاملة مع استمرار الإبقاء على دورهن الأساسي في مجال العمل المنزلي داخل الأسرة. ولذلك، كما تجادل ڤوغل، «على الرغم من كونهن عامِلاتٍ أيضًا، إلّا إنّ دور نساء الطبقة المُخضَعَة الفريد في صيانة واستبدال قوة العمل هو ما يميز حالتهن الخاصة».

وفي الوقت ذاته، إنّ استمرار دور النساء المنزلي داخل أسر الطبقة العاملة هو ما يفسر اضطهاد نساء جميع الطبقات. تجادل ڤوغل أنّ «انعدام المساواة يمثل ميزةً خاصةً من اضطهاد النساء (بالإضافة إلى جماعات أخرى) في المجتمعات الرأسمالية. وحدهن نساء الطبقة المخضَعة يؤدين العمل المنزلي، كما نوقش أعلاه، إلّا أنّ جميع النساء يعانين من انعدام المساواة في المجتمعات الرأسمالية».

وبالتالي، فإن العلاقات بين نساء ورجال الطبقة العاملة، علاقاتٌ غير متكافئة داخل الأسرة، لكنّها غير متساوية أيضًا بين جميع نساء ورجال المجتمع بأسره. فكما أوضحت ڤوغل، «من جهة، تتموضع نساء الطبقة المُخضَعة ورجالها على نحوٍ متباين فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية الهامة لإعادة الإنتاج الاجتماعي. ومن جهة أخرى، جميع النساء محروماتٌ من الحقوق المتساوية. في المجتمعات الحالية، تستجيب ديناميات اخضاع المرأة لهذه المتركزات المزدوجة، إلى جانب عوامل أخرى».

تؤثر العنصرية الجنسية على نساء جميع طبقات المجتمع، مثلما تستهدف العنصرية سود جميع الطبقات، ورهاب المثلية جميع مثليي ومثليات جميع الطبقات. والاضطهاد المختصّ بفئاتٍ معينة ظاهرة عابرة للطبقات. هذه هي الطريقة الوحيدة لتفسير سبب بقاء المستويات العليا من عالم الشركات والتجارة، وبأغلبية ساحقة، في أيدي الذكور البيض.

وفي الوقت ذاته، النساء مقسّمات وفق الطبقة، مثلما ينقسم المضطهدون جميعهم وفقها. فكما تشير الماركسية النسوية مارثا هيمينيز، في حين تتشارك نساء جميع الطبقات تجارب معينة من الاضطهاد، فإن نساء مختلف الطبقات محصوراتٌ أيضًا في علاقة عدائية. وبالتالي، كما تشير هيمينيز، تعكس التفاوتات الطبقية الحاسمة بين النساء «اختلافاتٍ طبقية واقتصادية اجتماعية في تجارب إعادة الإنتاج البيولوجية للنساء»، وتُضيف:

فضلًا عن الاختلافات في تنظيم إعادة الإنتاج الاجتماعي: كون استخدام الخادِمات المنزليات المأجورات لا يتم بواسطة النساء الرأسماليّات وحسب، بل حتى النساء المالكات ثروةً كافية لتحمل تكاليفهن، يسلط الضوء على كيفية كون الاضطهاد ليس أمرًا لا يمكن إلّا للرجال أن يُلحِقوه بالنساء. والتقدم الذي أحرزته نساء أعمال ومهنياتِ الطبقة الوسطى والعليا (هؤلاء اللاتي يكسبن معاشات تصل لمئات الألوف سنويًا) في السنوات الثلاثين الماضية، يقتضي وجود طبقة خادمة، طبقةٌ مستمَدة من شريحةٍ ذات مهارةٍ أقل من الطبقة العاملة، بما في ذلك نسبة كبيرة من نساء الأقليات العرقية والإثنية، واللاتي غالبًا ما يكُنّ مهاجرات غير شرعيّات.

وفي حين تتفاوت طبيعة وعدد الانقسامات بين النساء على مستوى التكوينات الاجتماعية، إلّا أنّ الانقسامات الطبقية أمرٌ تتشاركه جميع التكوينات الاجتماعية الرأسمالية، حيث أنّ جميع الفئات الاجتماعية، كالسكان المهاجرين، والأعراق، والجماعات الإثنية المختلفة، إلخ، هي نفسها مقسمة على الصعيد الطبقي.

الطريق الثوري لتحرّر النساء
كيف توفّق الماركسيات والماركسيّون بين هذا التناقض الظاهري: أنّ نساء جميع الطبقات مضطهدات تحت النظام الرأسمالي، في حين أنّ هؤلاء النساء تقسّمهن اختلافاتٌ وتبايناتٌ طبقية أيضًا. الجواب بسيطٌ جدًا، وهو مستندٌ على توسيع نطاق تحليل ماركس الذي قُدّم من قبل منظِّرات إعادة الإنتاج الاجتماعي.

لو كانت الوظيفة الاقتصادية لأُسَر الطبقة العاملة أمرًا جوهريًا في إعادة إنتاج قوة العمل للنظام الرأسمالي، و، في الوقت ذاته، في تكوين الجذور الاجتماعية لاضطهاد جميع النساء، فإن ألغيت هذه الوظيفة، سيصبح حينئذٍ الأساس المادي لتحرّر النساء ممكنًا. لكن لا يمكن لهذه النتيجة أن تتحقق إلّا مع تحقق القضاء الكامل على النظام الرأسمالي، واستبداله بمجتمعٍ اشتراكيٍ يضفي طابعًا اجتماعيًا على العمل المنزلي المسند سابقًا إلى النساء.

لم تكتفي المنظِّرات الاشتراكيات والماركسيات النسويات، اللاتي ذُكِرن أعلاه، بالإبقاء على تحليلاتهن في صعيد التنظير وحسب، بل تجاوزن ذلك ودعيْن أيضًا إلى استراتيجيةٍ لتحرّرٍ نسائي يتضمن، إلى جانب النضال من أجل حقوق النساء، النضال من أجل الاشتراكية، إذ أدركن أنّ المفتاح لتحقيق الأساس المادي لبناء نظامٍ اجتماعي جديدٍ شامل لتحرّر المرأة يكمن في إلغاء الدور الاقتصادي لأسر الطبقة العاملة ودور النساء فيها.

تربط سميث بوضوح دور المرأة المُخضَع في الأسرة مع جوانب اضطهاد المرأة الأخرى في المجتمع ككل: «لا يمكن اختزال اضطهاد المرأة في المجتمعات الطبقية إلى تحليلٍ اقتصاديٍ محض…لكنّ اضطهاد المرأة الاجتماعي يصبح بلا معنى دون تحليلٍ ماركسي للأسرة». مستذكرةً عبارة إنجلز، تضيف سميث أيضًا، «إن نظام الأسرة هو الذي يخلق العذراء، وبائعة الهوى، والمواد الإباحية، واضطهاد النساء».

توصلت هيمينيز إلى استنتاج مماثل، حيث تقول:

في ظل الظروف الرأسمالية…تجد العلاقات بين الرجال والنساء…أساسها المادي في إعادة الإنتاج الخاصة للحياة المادية والاجتماعية، وتجد تعبيراتها السياسية والقانونية والعقائدية في مفهوم الأسرة النووية باعتبارها الوحدة الأساسية للمجتمع، والدولة، وعقود الزواج، وقوانين الميراث، إلخ. وتمامًا مثلما تتضمن علاقات الإنتاج تباينًا في القوة بين الرأسماليّ والعامل، تتضمن علاقات إعادة الإنتاج قوةَ/هيمنة الرجل واضطهاد المرأة، بشكل مستقل عن وعيهما الفعلي بوجود تمييزٍ جنسيٍّ ورغبتهما الفعلية للتخلص منها…

وهذا يعني أنّه بالرغم من سعي بعض فرادى النساء والرجال إلى تحقيق مساواةٍ فعليةٍ في علاقاتهم/ن الشخصية، إلّا أنّ انعدام المساواة، كخاصية يتّصف بها نمط إعادة الإنتاج الذي يؤثر على جميع الرجال والنساء، وبغض النظر عن ترتيبات حياتهم الخاصة، سيبقى على حاله طالما بقي النظام الرأسمالي سائدًا.

تجادل ڤوغل أيضًا، «طالما بقي المجتمع مُهيمَنًا عليه بواسطة نمط الانتاج الرأسمالي، والتناقض بين…العمل المأجور والعمل المنزلي…فإن توسيع نطاق الديمقراطية، بغض النظر عن مدى ذلك الاتساع، لا يمكن له أبدًا إلغاء الاستغلال الرأسمالي، لا بل ولا يمكنه تحرير المرأة أيضًا». تصوّرت ڤوغل احتمالاتٍ لحياةٍ متجاوزةٍ للرأسمالية واحتمالاتِ تحرير المرأة من خلال تحقيق المجتمع الاشتراكي، حيث تقارن تباين دور العمالة المنزلية بين المجتمع الرأسمالي والاشتراكية:

يوجد في المجتمع الرأسمالي نزعة للحد من كمية العمل المنزلي المؤدى بواسطة الأسر المُفرَدة. لكن، بدلًا من تجسيد هذا الميل للنزعة الرأسماليّ لمراكمة رأس المال، يمثل هذا الميل نزعةً اشتراكيةً الهادفة لأن يصبح جميع العمل جزءًا من الإنتاج الاجتماعي… بطريقةٍ مخططةٍ واعية، منسجمةٌ مع احتياجات المجتمع ككل.

وَحْدَهُ التحول الاشتراكي للمجتمع، كما تقول ڤوغل، «بإمكانه تقويض أسس اضطهاد المرأة داخل الأسر المفردة وفي المجتمع ككل. توسيع نطاق الديمقراطية، وجذب النساء إلى الإنتاج العام، والتحويل التدريجي للعمل المنزلي خلال فترة الانتقال للاشتراكية، جميع هذه الأمور ستفتح الإمكانيات لما سمّاه ماركس ‹تكوينًا أعلى للأسرة والعلاقات بين الجنسين›».


ملاحظات الكاتِبة
لا توجد في تحليلات ماركس وإنجلز أي ذكرٍ لاضطهاد المثليين، على الرغم من تحديد بعض الأبحاث الماركسية في الآونة الأخيرة جذور اضطهاد المثليين، كما اضطهاد النساء، في نشأة الأسرة النووية.
حتى معاصريهم النسويون/ات لم يتحدّوا الافتراضات الڤيكتورية حول دور المرأة، حيث ألقت إليزابيث كادي ستانتون، إحدى الشخصيّات الرئيسية في حركة حقوق تصويت النساء الراديكالية، خطابًا في سينيكا فولز في ولاية نيويورك عام 1892، عدّدت فيه أربع نقاط متعلقة بحقوق النساء، حيث ذكرت في النقطة الرابعة التالي: «ورابعًا، ما هي إلّا مصادفات الحياة التي تلزم بعض الواجبات الخاصة والتدريب على الأم، والزوجة، والأخت، والابنة».
الأسرة الأبوية الكلاسيكية هي تكوينٌ أسريٌ محدد كان قائما بين الإغريق والرومان القدامى، عرفت بسيطرة رب الأسرة الذكر المطلقة على معوَّليه ذكورًا وإناثًا.
كما يجادل المؤرخ الماركسي هال دريبر في مقالِه «ماركس وإنجلز حول تحرّر النساء» الذي نشر في مجلة «إنترناشنال سوشالزم» في العدد الـ 44 لعام 1970: «هنالك انطباع، مقبول بها بشكل واسع من قبل أنصاف المطلعين، أن بحث الأنثروبولوجي مورغان بحثٌ ‹عفا عليه الزمن›، شأنه في ذلك شأن علم الفلك البطلمي، وأنه مرفوض من قبل ‹علماء الأنثروبولوجيا الحديثة›…لو كان الأمر كذلك، لصحّ القول إنّ داروين ونيوتن عفا عليهما الزمن أيضًا».
اقتبس ماركس في المجلد الأول من «رأس المال» تقريرًا عن موظفٍ طبيٍ صحيٍ عام 1875، واصفًا «متوسط طول العمر في مانشستر هو 38 عامًا عند الطبقة الميسورة، أما متوسط العمر عند الطبقة العاملة فهو 17 عامًا فقط. وفي ليڤربول، كان الرقمان 35 عامًا مقابل 15 عامًا على التوالي. يتضح من ذلك أنّ للطبقات الميسورة فرص عيشٍ تزيد عن ضعف فرص المواطنين الأقل حظًا».
ملاحظات فريق الترجمة
لشرحٍ تعريفي لنظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي، بالإمكان العودة لمقال منشور على هذه المدونة، «ما هي نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي؟» للكاتِبة تثي باتاكاريا.
الأسرة النووية (Nuclear Family): مصطلحٌ يطلق على الأسرة المكونة من الزوجين وأبنائهما فقط، تمييزاً لها عن الأسر الأحادية ذات المعيل/ة الواحد/ة، أو الأسر الممتدة التي تتكون من الجدّين والأبوين والأعمام وأولاد العمومة، إلخ.

حركة الميم (أو الم.م.م.): اختصارٌ عربي لحركة الـ(مـ)ـثليين و(مـ)ـزدوجين/ات الميول والـ(مـ)ـتحولين/ات جنسيًا والتي يقابلها اختصار «LGBT» في اللغة الإنجليزية.
تعقيم النساء (والرجال) في الولايات المتحدة: أقيمت برامج تعقيم قسري لفئات معينة من النساء في النصف الأول من القرن العشرين ضمن موجة «تحسين النسل» (eugenics)، تضمنت تلك الفئات النساء السود، والمهاجرات، والفقراء، والأمهات غير المتزوجات، والمعاقين، والمرضى النفسانيين، وغيرهن ممن اعتُبِروا “غير مرغوبٍ بهن”. شمل ذلك عشرات الآلاف من المنتمين لهذه الفئات.
«السلعة المتميزة» يُقصد بِها قوة العمل، والمقصود هنا هم العمّال.
تتحدث الكاتبة عن سياق الولايات المتحدة الأمريكية.