المرأة الذكورية: لماذا تعيد الضحية إنتاج القمع؟



إيمان عمارة
2019 / 3 / 16


إذا كان الإعتراف بوجود اضطهاد ممنهج واقع على النساء بشكل خاص وصل مرحلة الإقرار، وأن الهيمنة الذكورية اعتمدت بنية ثقافية واجتماعية وسياسية شكلت منظومة شديدة التماسك، فإن ارتكاز النظام الأبوي أيضًا، وبشكل كبير، إلى مساهمة النساء في تغذيته واستمراريته موضوع يستحق التوقف عنده وتحليله.

كيف نبرر وجود نساء يبذلن كل ما في وسعهن لأجل تكريس الهيمنة الذكورية، ويدعمن اضطهادها لهن وللأخريات؟ هل تجنيد النساء المضطهدات في سبيل إعادة إنتاج المنظومة الأبوية هو أوضح تجلياتها وأقصاها؟

يبدو أن علينا العودة إلى ماهية النظام الأبوي باختصار، وقراءة الآليات التي استخدمها بهدف السيطرة على النساء تاريخيًّا ولا يزال، من أجل استيعاب طبيعة دور النساء فيها.

ما النظام الأبوي؟



” الأبوية تتجاوز نطاق العائلة الضيق إلى منظومة مجتمعية عامة تشكل كل تفاصيل ومحاور الوجود.


النظام الأبوي مفهوم اجتماعي قائم على الدور السلطوي المسنَد إلى الذكور البالغين المغايرين، لممارسته على كل أعضاء العائلة بتعريفها التقليدي.

رب الأسرة، بصفته مسؤولًا عن توفير احتياجات الأفراد الآخرين وحمايتهم، يمتلك في المقابل سلطة القرار. هذه الرؤية تفترض تقسيمًا للأدوار حسب الجنس والسن وهويات ثابتة لا تتغير.

الأبوية تتجاوز نطاق العائلة الضيق إلى منظومة مجتمعية عامة تشكل كل تفاصيل ومحاور الوجود. تعرِّف المؤرخة والأكاديمية الأمريكية «غيردا ليرنر» النظام الأبوي، في كتابها «نشأة النظام الأبوي»، بأنه «تجل ومأسسة للهيمنة الذكورية على النساء والأطفال في الأسرة، وتوسيع الهيمنة الذكورية على النساء في المجتمع عامة». لكن جوهر الأبوية كان، ويظل، السيطرة على جسد المرأة باعتباره أداة إنتاج، وبالتالي يجدر التحكم في نشاطه الجنسي والإنجابي.

تترافق هذه السيطرة غالبًا مع عنف بدني أو فكري أو معنوي. الهيمنة تعتمد أيضًا على خطاب يُضفي عليها صفة الشرعية و«الطبيعية»، كما يُعرفها عالم الاجتماع الفرنسي «بيير بورديو» في العلاقات الاجتماعية، مما يجعل التمييز الذي ينتج عن تقسيم الأدوار الجندرية مقبولًا، بل وغير قابل للتغيير، فهو مرتبط بالفطرة والغريزة.

تاريخيًّا، مرت الأبوية بمرحلتين: اتخذت الأولى من الدين والمعتقدات مبررًا للتمييز الجنسي، أما الثانية فقد ارتكزت إلى العلم والطب والفروق البيولوجية بين الجنسين لتنظِّر للتفاوت الاجتماعي بينهما. اليوجينيا الكولونيالية التي اعتمدت على السمات البيولوجية لتقسيم الأعراق تراتبيًّا وإثبات تفوق العرق الأبيض، استخدمت نفس الآليات لتبرير الاستعمار الأوروبي.

لكن، كيف أُخضِعت النساء؟



أحكم الرجل سيطرته على المرأة عبر جسدها وخصوصيتها الفسيولوجية المتمثلة في الحمل والرضاعة. وفقًا للدراسات التي أجرتها أخصائية التحليل النفسي «سيلفيا فاور»، اعتُبرت الأمومة نوعًا من الترويض الجنساني الذي يجب أن يفرضه الرجل على المرأة حتى تهدأ وتستكين. ومن ناحية اخرى، الولادات المتكررة والمتعاقبة ورعاية الاطفال تضع المرأة في مركز ضعف واحتياج للحماية يجعلها خارج منظومة السلطة.

” روجت الأديان ثم العلم لمفهوم الرجولة كنموذج مرجعي كامل وفرد مكتمل، في مقابل نقصان النموذج الأنثوي الأقل قيمة.


هذا التوجه أصبح في ما بعد صلب التنظيم الاجتماعي الذي تُوزع من خلاله الأدوار والمهام. وعليه، أصبح العمل المنزلي مثلا منوطًا بالمرأة، وفقد قيمته لأنه غير منتج اقتصاديًّا، عكس نشاط الرجل. بالاضافة إلى ذلك، حُددت صفات وخاصيات موحدة لكل من الجنسين، فأصبحت النساء بالضرورة عطوفات ومهيئات «فطريًّا» للرعاية والعناية بالأطفال وبالرجال المنتجين.

استمرارًا لاستغلال قدرة النساء على الإنجاب، أوهم النظام الأبوي المرأة بأن مهمتها هذه مقدسة، ومنحها بعض الامتيازات المحدودة في المقابل، مثل النفوذ الممارَس داخل الفضاء الخاص والمنزلي والسلطة النسبية على الأطفال، وأوكل إليها أيضًا التنشئة والتربية، فصارت بذلك مسؤولة عن نقل الذاكرة والجذور وحارسة للتقاليد، بحسب «ألبرتو إيغور» في كتابه «Les mythes modernes de la domination».

على الجانب النفسي، روجت الأديان ثم العلم لمفهوم الرجولة كنموذج مرجعي كامل وفرد مكتمل، في مقابل نقصان النموذج الأنثوي الأقل قيمة. الرجل في الأديان التوحيدية الثلاثة مثلًا هو أول من خُلق، ثم أتت المرأة جزءًا منه وليست مخلوقًا مستقلًّا بحد ذاته. ومع بداية ظهور التحليل النفسي، انتشرت نظريات فرويد التي ترى أن المرأة رجل ينقصه قضيب.

دور النساء في المنظومة الأبوية



” يمكن للأخ الأصغر التحكم في حياة ومصير أخواته البنات، وإن كن أكبر منه سنًّا.


«نحن لا نولد نساءً، بل نصبح كذلك»، كما قالت الفيلسوفة النسوية الفرنسية «سيمون دي بوفوار». هوية المرأة الجندرية تتشكل مبكرًا جدًّا عبر التربية التي تتلقاها، وأيضًا عبر التماثل مع النماذج المحيطة بها أو التي تُقدم لها لتستنسخها لاحقًا، أو هكذا يفترض بها.

داخل عالمهن الخاص، تقضي النساء وقتًا طويلًا في تعليمنا كيف نصبح نساء، حسب تقاليد المجتمع الثابتة وتقاليعه المتغيرة. التحول إلى امرأة يمر أيضًا عبر السرديات المتناقلة شفهيًّا، من ترانيم وتهويدات وحكايا مليئة بالمحاذير والمنمطات.

أوضح مثال على ذلك حين تتولى الأمهات، أو من تحل محلهن من نساء العائلة، مهمة مراقبة سلوك الفتيات وأخلاقهن، وتلجأن إلى الرجال لتقويمه في حالة حدوث ما يخل بالشرف، وإن كن يعلمن أن العقاب سيكون القتل.

بصفة عامة، تكرس الأمهات الهيمنة الذكورية من خلال التربية، عبر منح سلطات مطلقة للذكور على الإناث دون اعتبار للسن أو المكانة الاجتماعية. يمكن للأخ الأصغر التحكم في حياة ومصير أخواته البنات وإن كن أكبر منه سنًّا.

وجود النساء في مساحة مغلقة وسرية وغامضة أنتج ثقافة خاصة بهن وتاريخًا موازيًا، هذا التاريخ مشفر ومحمل بالرمزية، يشبه صندوقًا ثقافيًّا قابلًا للمشاركة والتوارث عبر الأجيال، كما يقول ألبرتو إيغور. هذا الوجود والتواصل خلق نسيجًا عبر تفاصيل الحياة اليومية والانخراط الاجتماعي، متمثلًا في الزيارات والأشغال المشتركة.

داخل منظومة كهذه، دور المرأة حيوي من أجل ضمان استمرارية آليات الهيمنة الذكورية وتناقلها دونما تغيير داخل إطار الأسرة بمفهومها التقليدي جدًّا، التي تُعتبر أهم ركائز الذكورية، والنواة الأساسية لتقسيم الأدوار الجندرية. من هذا المنطلق، أي خروج عن الثنائية الأساسية يسبب الارتباك داخل النظام كله.

لماذا لم تثر النساء؟


يظهر جليًّا أن النظام الأبوي يتغذى على خضوع ضحاياه من النساء، ويستمد استمراريته وشرعيته من تواطئهن معه. لكن، إلى أي مدى توافق النساء على الانخراط في هذه المنظومة؟ هل هو قبول لا يعني بالضرورة الموافقة، كما تسميه عالمة الأنثروبولوجيا والنسوية «نيكول كلاود ماثيو»؟ هل تكيفت النساء عبر آلاف السنين مع الدور المفروض عليهن؟ هل وجدن فيه متعة ورضا في النهاية؟

يذهب بورديو، في كتابه «الهيمنة الذكورية»، إلى أنه لم يكن من الممكن اضطهاد النساء دون موافقتهن.

هذه الموافقة تندرج في إطار اللاوعي، وتسيطر على سلوكهن نتيجة استبطان الخطاب السائد. هذا الاستبطان ليس هو ما يحُول دون تمردهن على وضع التبعية، بحسب «نيكول كلاود» في كتابها «Quand céder n est pas consentir»، بل عدم وجود خيارات حقيقية وحلول بديلة أمامهن للتخلص من سطوة الرجال والمنظومة ككل.

السؤال الأكثر إلحاحًا هو ذلك الذي طرحته غيردا ليرنر في «نشأة النظام الأبوي»: «ما الذي يمكن أن يشرح تواطؤ النساء في دعم النظام الأبوي الذي أخضعهن؟ وفي نقل النظام جيلًا بعد آخر إلى أولادهن من الجنسين؟».

بصفة عامة، يمكننا القول إن النساء، مثل أقليات مضطهدة أخرى، لجأن في أحيان كثيرة إلى سبل خلاص ملتوية بديلة للتمرد، عبر الامتثال للمعايير الاجتماعية السائدة، سواء شكليًّا أو سلوكيًّا، أو التكيف والانخراط في خطاب الفئة الأقوى وحمل لوائه.

المرأة الذكورية: متواطئة أم ضحية؟



من الضروري عدم الوقوع في فخ التعميم والتنميط، وأن نأخذ بعين الاعتبار التنوع الذي يزخر به الواقع عندما تناول أنماط المرأة الذكورية.

النظام الأبوي يعتمد في جوهره على تجريد المرأة من حرية الاختيار، لذا لا تملك أغلب النساء الوعي اللازم لإدراك وضعهن، ولا الإمكانيات التي تجعل تمردهن على المنظومة ممكنًا. لا نحظى جميعنا بنفس فرص التحرر ولا بنفس الحس النقدي.

” التمييز الجنسي الذي تمارسه المرأة على غيرها من النساء قد يكون نتيجة رفضها رؤية الواقع بسبب عجزها عن تغييره.


لكن، ما الذي يجعل بعضهن مدافعات شرسات عن الوضع القائم؟

التواطؤ حيلة دفاعية قديمة، والخضوع لا يتم دائما بصفة واعية. الخوف الغريزي هو الذي يجعل المرأة تقف في صف الأقوى لحماية نفسها من احتمالات العنف أو الحصول على سلطة أو سند. الحماية قد تكون من النبذ والإقصاء لو قاومت أو رفضت التعايش. هذا التعايش يحمل قدرًا من الراحة النفسية لا يستهان بها.

التواطؤ قد يكون أيضًا نتيجة التكييف الثقافي، الذي يجعل المرأة تتشرب التمييز عبر التلقين والتمثيل الاجتماعي والدين والأعراف المجتمعية، التي يبدأ استيعابها وتكرارها مبكرًا. جزء من النساء الذكوريات لا يفترضن بالضرورة أنهن أقل قيمة من الرجال، بل مقتنعات بالاختلاف الطبيعي بين الجنسين، ويسعين لإثبات أنوثتهن عبر الالتزام بخصائصها كما قررها النظام الأبوي.

التمييز الجنسي الذي تمارسه المرأة على غيرها من النساء قد يكون نتيجة رفضها رؤية الواقع بسبب عجزها عن تغييره. لا احد يرغب في مواجهة كونه مضطهدًا، وفي هذه الحالة يركزن على الامتيازات والمكتسبات اللائي حصلن عليها.

في كتابها «الخصومات بين النساء في العمل»، توضح «أنيك هويل» أن إقصاء المرأة من المجال العام لقرون ولَّد لديها نوعًا من الدفاع الذاتي ضد أي امرأة أخرى قد تحصل على وضع اجتماعي أو مهني أفضل، كقراءة معاصرة لعقدة إلكترا. ولعل السبب الذي نادرًا ما نتطرق إليه هو أن هناك بعض النساء يشعرن بالإحباط بسبب الضغوط اللاتي تعرضن لها، ويرفضن أن تكون حياة الأخريات أكثر سهولة، أو أن يحصلن على ما حُرمن منه، كنوع من تحقيق العدالة في الظلم.

أيًّا كانت الأسباب ودرجة إسهام المرأة في إرساء قواعد المنظومة الأبوية واستمراريتها، فهناك مظاهر للهيمنة الذكورية لا يمكن أن نلوم المرأة عليها في حال ما تعرضت لها، مثل العنف والاعتداء الجسدي، فالمرأة هنا ضحية فقط وليست شريكة في الجريمة.

لكن مسألة العنف لدى المرأة ومسؤولية النساء عن الاعتداءات الجسدية ضد نساء أخريات، وإن كانت ضمن المنظومة الأبوية، يجب ان تُطرح بجدية ولا نكتفي بترديد التنميطات التي ترى أن المرأة بطبعها الأنثوي الأمومي لا تنتج العنف بل تتعرض له فقط.