قراءة في خطاب تحرير المرأة النسوي العربي



عبد الكريم السعيدي
2019 / 3 / 17

اولا : مرحلة الاستعمار :
حاولت المرأة في بداية امر النهضة العربية ، إثبات وجودها وإسماع صوتها في القضايا السياسية وليس الاجتماعية ، الأمر الذي جعل نشاطها أو نضالها ينحو منحى سياسي اكثر منه اجتماعي ، بسبب كون تلك المرحلة مرحلة التحرر من الاستعمار والسعي نحو الاستقلال ، وان المناخ السائد لا يساعد على تركها قضية الاستعمار والانشغال بقضية تحرير المرأة ، وعلى سبيل المثال يشار إلى اشهر ناشطة مصرية (هدى شعراوي) ، التي كانت في بداية نشاطها مساهمة فاعلة في الجمعيات الفكرية التي تنادي باستقلال البلدان العربية ، حتى أنها شاركت في اكثر من مظاهرة وهي تتقدم صفوف النساء ، وبلغ نشاطها ذروته حينما شاركت في عام 1975 في المؤتمر العالمي للمرأة الذي أقامته الأمم المتحدة في المكسيك ، اذ ساهمت شعراوي باستصدار قرار أممي يدين الصهيونية بوصفها حركة عنصرية ، ويشار كذلك إلى الناشطة المصرية ( سيزا نبراوي ) زميلة كفاح هدى شعراوي ، التي سجلت موقفا مشرفا حينما استقالت من منصبها كرئيس للاتحاد النسائي الديمقراطي الدولي في المانيا ، اعتراضا على موقف الاتحاد من القضية الفلسطينية ، كما يشار إلى المناضلة الفلسطينية ليلى خالد كفدائية وليس كمناضلة من اجل حقوق المرأة ، كما لا ننسى المناضلات الجزائريات اللواتي قاتلن الاستعمار الفرنسي مثل ( سيمة حبلال) ، التي تعد أول امرأة انضمت إلى صفوف المجاهدين لمحاربة الاستعمار الفرنسي،والمناضلة (بايه )، التي تعرضت في المعتقل لاغتصاب 15 جندياً فرنسياً دفعة ، والمناضلة (حسيبة بن بوعلي ) والمناضلة (مريم بوعتورة ) والمناضلة (وريدة مداد ) والمناضلة (جميلة بوحريد ) التي خالفت الطلاب الجزائريين المنتظمين في طابور الصباح عندما كانت طالبة في الثانوية ، فلم تردد معهم ( فرنسا أمنا ) ، بل أنها راحت تردد ( الجزائر وطننا، والعروبة هويتنا والإسلام ديننا ، وإفريقيا جنتنا) الأمر الذي اغضب ناظر المدرسة الفرنسي ، فطردها من المدرسة ، ولكن ذلك لم يثنها ، بل جعلها تنضم إلى صفوف الثورة الجزائرية عام 1956م وهي لا تزال تلميذة، فاضطلعت بالمهام الصعبة التي لا يقوى عليها إلا الرجال الأشداء، اذ كانت تقوم بنقل الأسلحة وزرع القنابل والعبوات الناسفة في الأماكن التي يرتادها المستعمرون، حتى أصبحت من أكثر المطلوبين ، إلى ان تم القبض عليها بعد إصابتها في كتفها عام 1957 ، وفي المستشفى الذي تعالج فيه ، تعرضت لأشد أنواع التعذيب الذي تمثل في الصعق الكهربائي لمدة ثلاثة أيام لحملها على الاعتراف على زملائها، ولكنها ظلت مستعصمة بالصبر لئلا ينطق لسانها بكلمة تفشي أسرار إخوانها الثوار ، وبعد نيل معظم الدول العربية استقلالها ، لم تنطفئ جذوة نضال هؤلاء النسوة العربيات في سبيل حريتهن ، بانتهاء حقبة التحرر والاستقلال وتشكل الدول العربية القطرية ، ولكنه اتخذ أسلوبا آخر .
ثانيا : مرحلة ما بعد التحرر والاستقلال :
في هذه المرحلة اخذ نضال النساء العربيات يأخذ مجرى آخر بعد نيل معظم البلدان العربية لاستقلالها ، وكانت مطالب الناشطات العربيات ينحصر في بداية الأمر بالمضامين الاجتماعية التي تخص المرأة ، مع أخذها بنظر الاعتبار الاختلاف البيولوجي بينها وبين الرجل ، وان هذا الاختلاف هو الذي يحدد التمايز على مستوى الجنس والنوع بينهما ، فاستطاعت الحركة النسوية العربية في هذا المجال تحقيق بعض النجاحات والتقدم ، فمثلا على مستوى قانون الأحوال الشخصية ، استطاع هذا الخطاب الضغط لإصدار قوانين تمنع ختان المرأة ، وتعطي لها الحق بالتعليم ، ودخولها المعترك السياسي وسوق العمل ، ولكن ذلك لم يصل إلى حد التأثير على واضع الدستور ، إذ ما زالت اغلب دساتير البلدان العربية تقر (على سبيل المثال) زواج القاصرات ، بسبب هيمنة الخطاب الديني على واضع الدستور ، بعبارة أخرى انحصر نضال المرأة في هذه المرحلة على رفع المظلومية عن المرأة ، وإيقاف العنف ضد النساء ،فضلا عن التقليل من الهيمنة الأبوية الذكورية عليها وتمكينها اقتصاديا ، وغيرها من ثوابت الخطاب النسوي الأخرى.
في مرحلة لاحقة راح الخطاب النسوي العربي يزدري كل ما هو ثابت في القراءة المعاصرة للشريعة ، فصار الحديث عن بطلان تعدد الزوجات ، وتقسيم الميراث ، وعدة المطلقة ، وقضية الحجاب، وحرية اللباس، والحرية الجنسية ، وارجع الخطاب النسوي العربي هذه الأمور إلى انحياز الإسلام للرجل وانتقاصه من حقوق المرأة ، وفي أحسن الأحوال كان يرى أن هذه أمور لم تعد تتمشى مع عصرنا الحالي ، أو أنها لها تأويلا اخر يختلف عما هو سائد في القراءة المعاصرة للدين والشريعة ، وفي هذا المجال يمكن الاطلاع على عشرات المقالات التي كتبتها نوال السعداوي في عدم حجية الحجاب من ناحية شرعية، أو نفي سلطة الدين أصلًا، وعدها سلطةً تمييزية ضد المرأة ، بعبارة أخرى بدأ الخطاب النسوي العربي بالحديث عن حقوق المرأة الإنسانية والاجتماعية على استحياء ، وانتهى به المطاف إلى الحديث عن المساواة والندية المطلقة مع تجاوز تام للرجل في بعض الأحيان ،الأمر الذي جعله يقف في مواجهة علنية مع المؤسسة الدينية المعاصرة ، مما جعله يفقد التعاطف الشعبي معه ، نظرا لما للدين من سلطة عليا عند السواد الأعظم من المجتمع العربي ، ذلك لأن المجتمعات التي تتخذ من الدين سمةً دائمةً لهويتها، بغضِّ النظر عن مدى فاعلية هذه السمة في حياتها اليومية ، يكون من الصعب دخولها في مواجهة عنيفة مع الدين ، من اجل إحداث أي تغييرٍ ، فكيف إذا كان هذا التغيير يخصُّ المرأة التي تشكل بحد ذاتها معضلة متأصلة في الوجدان العربي ، عندها بالتأكيد ستحصل مواجهة عدائية مع الدين ، وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه الخطاب النسوي العربي .
من بين الوسائل التي وظفتها المؤسسة الدينية ، أو القراءة المعاصرة للدين ، للوقوف بوجه هذه الهجمة على ثوابته ، هي اتهامه الخطاب النسوي بانه نتاج التبعية للثقافة الغربية ، التي تحاول إعادة تفكيك المفاهيم الاجتماعية والثقافية الإسلامية ، كالتاريخ، واللغة، والرموز، والفن، والفلسفة، والأدب، وإعادة صياغتها أو صهرها في بوتقة الثقافة الغربية ، وأن فاتحة هذا التغريب ـ حسب المؤسسة الدينة ـ هي تفكيك مفهوم الأسرة في المجتمع الإسلامي ، في ضوء مفهوم نفي التوزيع الطبيعي للأدوار، الأمر الذي تتشعب منه موضوعات أخرى كثيرة كالتحول الجنسي، وزواج المثليين، والأسرة ذات الأب الواحد، الأمر الذي يسهل عملية التغريب فيما بعد ، وقد تلقت اغلب المجتمعات العربية هذا التفسير بالقبول ، فراحت تناضل من اجل تحجيم دور الخطاب النسوي ، بعد ان اقتنعت بان الأهداف التي تناضل المرأة من اجل تحقيقها ، هي أفكار غريبة عن قيمنا وموروثنا القيمي .
لقد رحب الخطاب الديني بالانفتاح العلمي على المنجز الغربي، لكنه تحفظ على الانفتاحٍ على المستوى الاجتماعي، لأن الغرب اذا كان متقدم علميا ، فهذا ليس معناه تقدم مؤسساته الاجتماعية أيضا، ومن ثم يحق لنا الانفتاح عليها والتأثر بها ، اذ ليس من المنطقي ان نقتبس من الغرب أساليبه وطرائقه في معالجة قضايا المرأة ، فما تعانيه المرأة الغربية يختلف عما تعانيه المرأة العربية والمسلمة ، وعندما انفلتت بعض النسوة العربيات ورحن يغردن خارج السرب الثقافي العربي ، اكتسب الخطاب الديني بعض المصداقية في هذا المجال ، واقصد عندما قلد بعض النسوة احدى الحركات الأوربية التي تدافع عن حقوق المرأة ، واعني بها حركة فيمن ، عندما تعرت الناشطة المصرية علياء مهدي بالكامل احتجاجًا على أخلاقيات المجتمع المصري، وطبيعة تفكيره، والتقاليد المحافظة، ومن ثم تعريها مرةً ثانية مع مجموعة من النساء أمام السفارة المصرية في السويد عام 2012؛ احتجاجًا على الدستور المصري ، أو كما فعلت هدى شعراوي التي سبقتها حينما خلعت الحجاب في محطة القطار عام 1923، وقلدتها مجموعة من النساء لها في هذا الخلع، ومن ثم صار المجتمع العربي ينظر لهذه الحركات نظرة ريبة ، ويصدق مقولة الخطاب الديني بحقها ، عندما يقول إنها جاءت للفتك بثقافتنا الإسلامية .
هذه الدعوات ترفضها المرأة العربية النمطية ، لأنها تشكِّل خطرًا على بعض الميزات التي يمنحها لها النظام الاجتماعي الإسلامي المحافظ بشكله الحالي ، فكثيرٌ من النساء العربيات المحافظات سعيدات بنموذج الاستقرار الأسري، وقوامة الرجل عليها ، التي تأخذ صفة الحماية لهن. الأمر الذي جعل رسالة علياء مهدي أو نوال السعداوي لا تصل إلا إلى النخبة القليلة ،وهذه الفيلسوفة الأمريكية (نانسي فرايزر) تنتقد الحضارة الأوربية التي اتخذت من المرأة سلعة ، في خضم السمة الاستهلاكية لتلك المجتمعات ، فإذا كان الرجل الغربي ، يعاني بشكلٍ عام من تحوله إلى سلعة في الثقافة الاستهلاكية الغربية ، فإن المرأة هناك تعاني من هذا الأمر بشكلٍ مضاعف ، بعد ان اتخذت الماكنة الغربية الاستهلاكية جسدها سلعة ، وكتبت في مقالة عن هذا الموضوع تقول في احدى الصحف الأمريكية :( كامرأة كنت أعتقد دائمًا أنَّ النضال من أجل تحرير المرأة هو نضال من أجل عالم أفضل، عالم أكثر مساواة، وعدلًا وحرية. إلا أنَّني في الآونة الأخيرة، يساورني بعض القلق بأنَّ النسوة الرائدات يخدمن الآن غايات مختلفة تمامًا. ما يقلقني على وجه الخصوص هو أنَّ رفضنا للتمييز الجنسي أصبح الآن يُستخدم لتبرير أشكال جديدة من عدم المساواة والاستغلال).
في النهاية فإنه لا يمكن إنكار أن المرأة العربية تعاني من أزمات عديدة في واقعها الاجتماعي، وأنها بحاجةٍ إلى تغيير جذري لواقعها ، والخطاب النسوي يقع في خطأ كبير عندما يحاول معالجة قضايا المرأة ، بإسقاط هيبة الثوابت الدينية والأخلاقية والقيمية والثقافية في مجتمعاتنا ، صحيح ان مفهوم التحرر النسوي مسألة اجتماعية بحت، لكن منطلقاتها دينية واجتماعية وعاطفية ، وحلها لا يكون بمعزل عن قضايا المجتمع ككل ، ولا يكون بمعاداة الرجل ، كما لا يكون بالتنصل عن الهوية العربية والإسلامية . في حقيقة الأمر ان مجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى تغيير تدريجي يبدأ من الجذور الاجتماعية التي أنتجت هذه الأخلاقيات ، والى مراجعة شاملة لقراءة الدين ، بعبارة أخرى نحن بحاجة ماسة إلى قراءة عصرية للدين تنسجم والتطور الحاصل في محيطنا ، ومن غير المنطقي التعامل مع قراءة للدين لا تنسجم مع واقعنا، ومن ثم فإننا نلقي باللائمة في هذا الأمر على عاتق المؤسسة الدينية التي عجزت عن بلورة مشروع خطاب إسلامي بديل عن القراءة الحالية ، يعبر عن القضايا الحقيقية التي تعاني منها المجتمع والمرأة ، ويوائم بين ما هو ثابت بحكم الشريعة ، وما هو متغير بحكم العصر الذي نحيا فيه ، مع احترامنا لبعض الجهود الفردية بهذا الخصوص ، وكلنا امل في ان التحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تشهدها المنطقة العربية ستسهم في تغيير الأوضاع الاجتماعية بشكلٍ أكثر فاعلية من أية تحولاتٍ أخرى.