هذيان في مهمة سماوية



عدوية السوالمة
2019 / 5 / 5

في ذلك الصباح المعتم أعلن داخلها الانهيار وأنه لم يعد هناك حاجة للانتظار , استسلم كما تستسلم كل الأشياء المنتهية أرادته يومها الأخير بلا وداع وبلا بكاء نهضت من فراشها بتثاقل شديد ومشت حتى خزانة ملابسها فتحتها وتناولت منها علبة خشبية صغيرة احتفظت بداخلها ببذور صغيرة شيطانية ظلت تناديها للنهاية قرابة شهر كامل ولكنها ارادت ان تحتفي باليوم المختار على طريقتها فقد أرادته باردا معتما وحيدا أعاصيره تقتلع اعاصيرها
جلست إلى كنبتها الوثيرة تحمل صندوقها الصغير بحرص شديد بين يديها. راحت تتأمله بهدوء قبل ان تقرر فتحه فقد كانت تعرف أنها النهاية , و أن عليها ان تنهي ما خططت لحدوثه منذ شهر. وبلمسات رقيقة مسحت عليه بيدها لتفتحه وتلقي بنظرات العتب على ما فيه انها بذوزر الخروع التي انتقتها بعناية من شجيرات السهول القريبة من المدينة لتحتفظ بها في صندوقها المصدف الذي أهداه لها حفيدها علي في عيد ميلادها الستين , و بأسلوب اعتذاري تبرر فيه مشاعر النقمة التي اجتاحتها سنين طويلة , أخذت تحدث بذورها المميتة وكأنها قابض الارواح يلومها على ما هي مقدمة عليه وتريده أن يخفف عنها ويمنحها بركته وتشجيعه :
ما كنت أريد أن أصل إلى هنا ولكنها الحياة أبت حتى آخر اللحظات أن تعفو عني وتتركني اعرف السعادة مع رجل آخر . دائما كنت وحدي أعيش بمرارة مع ذاتي . مرارة أن أترك كأي قطعة خردة لا داعي لوجودها , بل لا بد من استبدالها برغم انجابي لابناءه الستة.
لم أعرف يوما لما لم تفلح نصائح والدتي بتكبيله بكثرة الابناء وبدل ذلك تركني وحدي معهم دون ان يسمح لنفسه ولو لمرة واحدة ان يتذكر من هم ومن اين جاؤوا .
أجل كنت ضعيفة جدا لم أقو على الصفح ونسيان ما حصل . ولما على الكل ان يكونوا اقوياء . أعرف بأني تركت الحياة تهرب من بين يدي دون ان استمتع بلحظات الفرح كما كانت تريد صغيرتي العزيزة هند اللتي لطالما دعتني للنسيان والاحتفاء بحياتنا الجديدة الخالية من الهموم على غير العادة ولكنها لم تدرك يوما بحاجتي للامان يمنحني اياه رجلا يدرك ضعفي و يهتم بي ويرعاني , رجل يحمل أعباء الحياة عني فهي أشياء لا يستطيعها سوى الرجال بل خلقت للرجال . من قال أني سأحتمل الوقوف لوحدي مع ستة أبناء نصارع الحياة من أجل لقمة عيشنا دون ان اطحن من الداخل .
تساقطت دموعها بغزارة مواكبة هياج الطبيعة في الخارج والتي راحت تضرب بجنون نافذتها برشقات مطر محملة بحبيبات البرد القاسية متطلعة إلى كسره وسرعان ما تبللت بذور الخروع بدموعها فنمت وتشابكت لتخرج منها نبتة خضراء اخذت تستطيل رويدا رويدا وسط صدمة ابتهاج التي اسرعت بوضع صندوقها على الطاولة الصغيرة أمامها .
اعتدلت نبتة الخروع وانحنت باتجاه ابتهاج التي لم تعرف ما اذا كان عليها ان تهرب أم تصرخ أم تبقى هادئة وتراقب ولكنها تسمرت في مكانها محدقة بقوة في بذورها التي استحالت بلحظات معدودة الى نبتة كبيرة سرعان ما توقف نموها في حجم يتناسب مع تواجدها بشكل مريح في غرفة ابتهاج
لم تكن نبتة عادية فقد كانت اوراقها عبارة عن سائل ضوئي يتماسك احيانا على شكل ورقة واحيانا تتباعد ذراته ليتحول الى نغمات على شكل صوت أخضر اللون راح يصدر اصواتا تشبه الحديث البشري ولكنه بلا حديث
اختلطت الامور على ابتهاج ولم تعد تعرف اهي تهذي ام انها في حلم ام مالذي يمكنه ان يكون فتماسكت اخيرا محاولة ان تتحدث لتفاجأ باختفاء فمها من وجهها ومع ذلك هي متأكدة بأنها تسمع صوتها ينطلق من حنجرتها يسأل مالذي يحدث فتجيب نبتة الخروع بعد ان يتحول السائل الضوئي الى صوت اخضر بأنني نبتة الخروع التي جلبتها من السهول
ولكني احضرت بذور كانت تجيبها ابتهاج بصوتها الذي يخرج من رأسها بدون فمها . ولكن يبدو انني في حالة جنون تام او على الاقل في حالة هذيان
لا هذا ولا ذاك انا من احضرتني لتنهي به حياتك البائسة
انت الآن في لحظات قريبة من الدخول الى عالمنا الاثيري عالم لا يمكن لكثافة المادة ان تكون شيئا فيه
لذا اتركي جسدك دعيه خلفك ليتفتت وانطلقي بصحبة النور والفضاء
- لا استطيع مازلت عالقة به هناك من يمسك بي بقوة اتركوني ارجوكم ارجوكم
-كم علينا ان ننتظر خلاصك سألتها الاوراق الصوتية
لا أعلم مازلت أحاول
انتشر السائل الضوئي في المكان حول ابتهاج ينتظر حملها معه حين تصبح أثيرا ضوئيا ولكنه سرعان ما ابتعد عنها خائفا
تنبهت ابتهاج لحركة الابتعاد المفاجئة عنها فسألته باستغراب لما كان ذلك فأجاب
انت في ذلك الاثير القاتم الظل الذي لن يستطيع ان يغادر مكانه ولن يستطيع ان يخرج معنا للفضاء ظل يحاصر من حوله بسواده
ولما ذلك كل ما اريده ان اهرب من حزني لانطلق بعيدا عن كل ما اثقل روحي اريد ان اترك حبسي واترك ذكرياتي القاتمة اريد ان ارتاح
لا راحة لك في هذا الاثير القاتم عليك ان تتخففي من تلك الظلال التي مازلتي تحترقين فيها
كيف افعل وكل من حاصرني قد اتلف شيئا في داخلي حتى بت رمادا
مجرد اوهام تجترينها انظري كيف تفجر البراكين حممها انهارا نارية رمادها يخرج جنانا ارضية والغابات اذا اشتعلت وردمت اشجارها رمادا تحتها نهضت الحياة من تحت انقاضها قوية عفية رمادك يمكنك اخراج نفائس روحك من تحته فماذا فعلت
لم استطع الاحتمال فالنار التي اشتعلت في داخلي لم تنطفئ جذوتها كل ما مر بي بعد تخلي شوكت عنا كان يزيد من احتراقي
تماسكت ذرات الاثير الضوئي الاخضر من جديد على شكل اوراق لنبتة الخروع وانحنت نحو ابتهاج بود قائلة
كان عليك ان تفهمي ان مسارك معه قد انتهى وان طريقك قد رسم في مكان اخر وكان لا بد ان تعيدي التقاط مسارك الجديد حتى لا تمتلئ نفسك بالحسرة والحزن والغضب حتى لا تفقدي فرحك بالهبات التي منحت لك على ذلك الطريق تاليا ولم تمنح لغيرك
ولكني كنت مكبلة بالفقر والابناء ولم اكن لارى شيئا اثناء سيري وحيدة بهم سوى حسرة الحرمان التي طالتهم اكثر مما طالتني لم تكن طريقا بل كانت قفرا ازداد سوءا بمن حولنا حين آلمونا واهانونا لاننا بلا رجل يدافع عنا ويحمينا من عدم آدميتهم وطمعهم فينا
ومع ذلك هو طريقك الذي لا بد من اجتيازه للنجاة من هذه الحياة فالكل مطالب بالمسير حتى النهاية فلما الاحساس بالاسى طالما ان وجودكم مؤقت وبعدها يتم نقلكم لعوالم اكثر اختلافا الراحة فيها مرهون بأدائكم هنا عوالم صعبة الاجتياز بهذه الظلال السوداء المتشحة بها فستكون لك بمثابة الاصفاد التي تربطك بعالم المادة بعيدا عن عالم الطاقة المشبع بالنور والفرح والذي لا يحتمل ثقل الالوان القاتمة العالقة في الروح
لم ترق المحادثة لابتهاج التي سألتها بانفعال لما علي انا فقط ان اوجد في هذا العالم للسير في طرقاته الوعرة في حين يسير من حولي بطرق اكثر راحة بل واكثر من ذلك يسيرون ساعين لزجي واطفالي في العذابات والويلات دون ان يرمش لهم جفن
شوكت ما كان ليهتم بتغيير المسار لانه رجل يمكنه ان يبدأ في اي لحظة طريقه الاخر بسعادةبعيدا عنا في حين ان تغيير المسار بالنسبة لي كامرأة كان يعني تركي بلا معيل ولا سند كم بكيت وتمزقت من داخلي حين قرأت تلك الورقة اللعينة التي اعلنت حروفها بأنه اخرجني من حياته كم احترقت من داخلي اثناء محاولات تجاهلي لكل تلك النظرات والتلميحات والكلمات الجارحة بحقي من صديقاتي وقريبات زوجي اللعينات كم آلمتني نظرات الشماتة في عيونهن حتى بت انظر لنفسي بأني لا استحق حياة افضل من هذه الحياة
نهاية المسار يا عزيزتي هي التجارب التي لا بد للجميع ان يمر بها وفي النهاية عليكم ان تحاربوا لتنجوا فالحياة فرصتكم للخلاص من ثقل مادتكم المعجونة بالانانية والخوف استعدادا للمرور الى عوالم اثيرية خفيفة التركيب لا تحتمل أي ثقل يقيد حركتها
كثيرون لايستطيعون ان يعوا حقيقة انهم في تجارب الخلاص الروحي فماذا فعلتم شوكت ترك لنفسه العنان لتعذيب الاضعف منه متناسيا الرحمة والواجب والمسؤولية قريباتك كن يبحثن عن كبش فداء للانتقام من مخاوفهن الازلية من الترك فكن بلا رحمة ولا شفقة اما عنك فكرستي وقتك في تغذية روحك بالحقد والكراهية والرغبة في الانتقام حتى من ذاتك التي آثرتي الخلاص منها وحرمتي عليها الاحساس بفرح الحاضر
كنت غاضبة وكان يريحني رؤية الاخرين يتعذبون مثلي لا لم ارد الخير لهم ولم يعد بمقدوري الفرح ولم اكن لاستطيع نسيان كيف تركني وكيف آذاني كل من حولي
اعتدلت نبتة الخروع في وقفتها وتماسكت ذراتها التي تراخت اثناء الحديث مدركة انها امام واد عظيم من الظلمة لا يمكن اختراقه شيء امتلأ بالسواد والحزن مهما كانت العطايا فقد اغلق كل الابواب على نفسه ولم يعد فيه سوى ظلل قاتمة للماضي
لن اثنيك عن طلبك ولكنك ببساطة قاتمة ثقيلة لن تستطيعي التحول لاثير عليك ان تبقي حتى تكوني مستعدة للخروج معنا فقد بقيت معك كل هذه الفترة بانتظار خروجك ولكنك مازلتي عالقة بشدة في وسطك المادي
لا لا يمكنك تركي هكذا لا اريد البقاء ثم ماذا بشأن فمي لما اختفى هل سأبقى بدونه
لا داعي للقلق بشأنه فسيعود الى سابق عهده وربما لا داعي ليعود فالحديث لا يدور بينكم إلا صمتا وحين تنطقون به يصبح مجرد ترهات واكاذيب وافكار منمقة خالية من النبض والمعنى يغسل دماغكم معاني الكلمات جيدا حتى لا تعود صالحة للحياة عندها تخرجونها من افواهكم بعد كثير من المضغ مثيرة للاشمئزاز

لا لا تذهبي خذيني الآن ارجوك راحت ابتهاج تصرخ بعلو صوتها حتى احست بأيدي كثيرة تمسك بها بقوة محاولة تهدأتها
ارجوك اهدئي امي اهدئي نحن معك هنا كان ذلك صوت العزيزة هند تمسك بها هي والممرضات في المستشفى الى ان هدأت واستعادت وعيها
فتحت عينيها مستغربة وجودها في المستشفى
لابأس امي كل الامور بخير لقد اجتزت مرحلة الخطر كان تسمما بسيطا اضطررنا اثره لنقلك للمستشفى يبدو انك تناولتي طعاما فاسدا لا عليك الآن كل شيء بخير وسنغادر غدا انشاء الله ابقي هادئة الآن فقد كنت تهذين قليلا
خرج الطبيب والممرضات من الغرفة وبقيت هند الى جانبها تحتضنها وترتب شعرها ودموعها الحارة تغرق وجنتيها وتبلل جبين والدتها
عندها بكت ابتهاج بحرقة رغما عنها لاول مرة امام ابنتها متسائلة بصمت خانق هل كان علي ان اقدم على الانتحار حتى يحتضنني احدهم بقوة لأعلم ان هناك من يحبني كم كنت متماسكة كم حرصت على اخفاء دموعي حتى لا يظهر امامهم ضعفي ويتذكروا اني امرأة اردت ان اكون لهم بمثابة رجل يشعرون بقوته فصدقوني ونسوا اني امرأة حتى انا ايضا نسيت هذه التفصيلة الحياتية التي كنت اعتقد انها غير مهمة ولكن يبدو انها مهمة
عادت ابتهاج الى منزلها الذي امتلأ بالمهنئين والمهنئات بسلامتها من الاهل والاصدقاء والجيران لايام متتالية دون ان يدري احد مابها كالعادة فقد كانت غريبة وسط اغراب لا احد يعرف عن الاخر شيئا حقيقيا الكل يتراوح في سلوكه بين الدفاع والهجوم والاختباء وما ان يخلو بأنفسهم حتى يشعروا بمرارة ايامهم ومرارة وجودهم وظروفهم الكل يختبئ في زاويته الخاصة إلا أن البعض قد تجده في حالة تأهب دائم للدفاع عن هذه الزاوية أحيانا من غارات حقيقية واحيانا متوهمة كاجراء وقائي والبعض الآخر تراه يلازم زاويته ويرفض النزال وان فرض عليه فرضا من الاخرين
جلست وحيدة في ذلك المساء تنظر ساهمة الى السماء من وراء زجاج شرفة الصالة الكبيرة وسرعان ما انضمت اليها هند التي كانت تسكن معها في البيت بعد طلاقها من زوجها الذي حسم خلافاته معها لصالح والدته التي رفضت تسليمه لها كونه وحيدها على اربع بنات لم تعتبرهن انجابا يحسب فالخلفة هي خلفة الصبية فقط بالنسبة لها
اقتربت هند من والدتها محاولة مساعدتها لشرب شاي الاعشاب الساخن الذي اعدته لها تناولته ابتهاج منها و بدون اعتراض بدأت ترشف منه دون ان تدع نظراتها تلتقي بنظرات ابنتها فلم تشأ ان تراها تنظر بعتب إليها لتؤنبها على فعلتها فقد سارعت بانقاذها حين دخلت غرفتها ذلك الصباح ووجدتها ممددة على اريكتها
بعد طلاق هند من مؤنس عادت الى بيت والدتها لتقيم معها هي وابنها علي ورغم خلافاتها الدائمة معها بشأن اصرارها على العيش في الماضي إلا أنها كانت شديدة الحنوعليها فبعد سفر اخوتها واخواتها للعيش في الخارج آثرت الارتباط بشاب من الحي لتكون قريبة من امها فوافقت على مؤنس الذي كان يسكن قريبا منهم
كانت كل يوم تمر بأمها لتطمئن عليها وتشتكي من سوء معاملة حماتها وانحياز زوجها لجانب امه إلا ان ابتهاج كانت كعادتها امرأة صامتة تفضل القيام بما يلزم دون الخوض كثيرا في التفاصيل فالحياة لم تترك لها فرصة الانتظار والتفكير كان عليها ان تبقى حاضرة الذهن متأهبة للمجابهة للدفاع عن نفسها وعن اطفالها في اي لحظة كما حصل معها في تلك الليلة حين عادت الكهرباء الى منزلها بعد طول انقطاع لعدم قدرتها على سداد فواتيرها وكم كان فرح الاطفال عظيما بها ورغم انها لم تعرف كيف عادت إلا انها قررت السكوت ابقاء على فرحهم ورغبة منها في اخذ نفس ولو بسيط من حياتها اللاهثة وراء عيشة فيها الحد الادنى من مستلزمات العيش الآدمي لتفاجأ فيما بعد بطلب صاحب البيت منها مغادرة المنزل بسبب اشاعات سرت في الحي عن وجود من يسدد فواتيرها ملمحا إلى انحدارها الاخلاقي فما كان منها إلا ان ضربته على رأسه بمدقة الثوم الخشبية التي كانت في يدها حين ذهبت لتفتح الباب له ولولا تدخل الجيران بينهما لانتهى الامر بها في السجن وخرجت مباشرة لقطع الكهرباء التي لم تعرف من الذي اعادها والتي من الواضح أنهاكانت عمل انساني رأفة بأولئك الصغار في ذلك الشتاء القارس
طفح الكيل بابتهاج من معاناة ابنتها فما كانت لترضى ان يعيش احد ابنائها معذبا كما حصل معها فقررت الذهاب للتفاهم مع والدة مؤنس وايجاد حل يريح عزيزتها الصغيرة هند إلا أن الحما اعتبرت ذلك مؤشر ضعف يمكنها الركون إليه لتثبيت مواقعها المتقدمة في المعركة مع كنتها خاصة وأن الحماية الذكورية غائبة بسبب سفر اخوتها وبالتالي لا داعي للتنازل ونسج علاقة طيبة معها وهو ما جعلها تتعنت في رأيها وتتمسك بحقها بالتضييق على كنتها والتدخل كما يحلو لها بحياة ابنها وزوجته لم تتمالك ابتهاج نفسها أمام ردود الحما التي اتسمت بالوقاحة فما كان منها إلا أن هجمت عليها وطرحتها ارضا مخلفة في وجهها آثار عضة كبيرة تحدث عنها القاصي والداني في ذلك الحي لفترة طويلة وهو ما عجل في موضوع الطلاق بين ابنتها ومؤنس الذي لم يستطع ان يرد بأكثر من ذلك

لم تترك الاحداث المؤلمة المستمرة والمتتالية لابتهاج فرصة السيطرة على مشاعر الغضب التي كانت تفجرها مواقف الاذلال المتعمد من قبل الاخرين المستغلين لوقوفها وحيدة فقد ترك حادث طلاقها عظيم الاثر في نفسها حين وجدت نفسها بشكل غير متوقع متخلى عنها وسط عائلة كبيرة عليها ان تعيلها في ريعان صباها دون ان تملك اي مقوم من مقومات الاعالة لا النفسية ولا المادية ورغم ذلك لم تكن لتجرؤ على الارتباط بآخر وترك ابناءها برعاية عائلة زوجها فقد كانت مشغولة بأمورهم الحياتية التي اخذت بالتعقيد مع دخولهم لمرحلة المراهقة ولم تعرف كيف تتعامل مع قضاياهم المتعلقة باختبار الرجولة او الانوثة وفي الحقيقة لم تكن تعرف كيف تتعامل مع حياتها بالمجمل فلم يخطر في بالها يوما انها ستكون بمفردها تتعامل مع كل هذه الاشكاليات
في طفولتها كان والدها يحتل كل وجدانها حين كانت الحياة اقل تعقيدا مماهي عليه الآن فقد كان رجلا مهيمنا في اسرته باسطا جناحيه على رعيته التي قام بانشائها ووزع ادوارها باتقان شديد رغم عددهم الكبير زوج بناته باعمار صغيرة كما جرت العادة في ذلك الزمان وهاجر ابناؤه الذكور الى الخارج وما ان توفي هو وزوجته في حادث سير مفاجئ حتى تقريبا انقطعت العلاقات بين الاخوة بسبب البعد الجغرافي بينهم حتى اخواتها سرعان ما التحقن بازواجهن ليعيشوا بعيدا عن الوطن فكان لكل واحدة منهن نمط حياتي مختلف عن الاخرى فقد تزوجن صغيرات ولم يتمكن من اقامة ذلك النوع من التواصل الذي يمكنه ان يبقى ليترك بصمة ومرجعية بالمحصلة كان على كل واحدة ان تتقن العوم بنفسها بأدوات مفاهيمية حياتية بسيطة تتعلق ببذل جهود جبارة لتكون تلك المرأة المطيعة التي تؤمن برجم الملائكة لها ان خرجت من المنزل بغير رضى زوجها وكثيرا ما كانت تفلح في السابق هذه الرؤية الحياتية الغاية في البساطة وتسير الامور بدون اي خسائر نفسية فقد كان نمطا سائدا لا احد يفكر في مدى جدواه او مدى صحته الكل يسير على ذلك الخط الابدي المرسوم لهم بكل اتقان

مرات كثيرة كانت هند ترقب والدتها من بعيد بمللها وكآبتها المعهودة كانت تدور حول نفسها بحركة بطيئة واضعة يديها فوق صدرها ساهمة اللب تحدق بحزن واسى عميقين في اللاشيء كمن اشتعلت داخله النار بدون ان يستطيع اخراجها ليتمكن من اطفائها
لم تكن تعرف ما تريد ولم يكن لديها اي فكرة عن كيف تسعد نفسها بمفردها كانت تعتقد بسعادة الكون الذي استثناها من الاستمتاع بها
كانت في الخامسة عشرة حين أنجبت ابتهاج ابنها الاول من زوجها شوكت الذي كان يكبرها بأربعة أعوام فقط . فقد كانا يافعين جدا على تحمل أعباء الحياة ومع ذلك كانت الغالبية في ذلك الوقت ترتبط بمثل هذه المرحلة العمرية لتنجب جيشا من الابناء تزيد من أعبائهم الحياتية التي لم يكونوا قد أعدوا لها جيدا
لم تكن تجاربهم الأولى فقط بالأبوة وإنما هي تجاربهم الأولى في كل شيء في اكتشاف الذات والآخر والعمل وادارة المنزل والحياة المستقلة وبكل بساطة ما كان عليهم إلا السير قدما بلا أي تذمر لأنها الحياة تضغط نحو المضي سراعا حتى قبل ان يتم التقاط انفاسهم اللاهثة في زحمة التجارب الكثيرة والعسيرة علهم يتأقلموا على ما يمرون به معا خاصة عند بدء مسلسل انجاب الابناء الذي احيانا كان ينتهي ب عشرة وربما ستة عشر طفلا في منزل الابوية الغير آبه بكثرة العدد فيه معتمدا على كل طفل يأتي ورزقه معه لذا لامشكلة في العدد طالما أن الكل سيأكل فقط ولا شيء آخر دون أي اعتبار لأي حاجات أخرى فيكبر الابناء دون ان يدري بهم احد . النجاح والفشل غيرمهمين المهم هو التحرك مع حركة الحياة اللولبية والغير منتهية حتى بلوغ الاجل الذي قد يحين وهم في دورتهم تلك
ومع توالي قدوم الأبناء وصعوبات التجارب وضيق الأحوال المادية قرر شوكت الهرب و البحث عن لقمة عيش أوسع فكان أن حط به المقام في الخليج وترك ابتهاج وأطفاله السبعة في انتظار قدومه من عام إلى عام يفرح بقدومه الجميع باستثناء ابتهاج التي لم تعد تنتظره فقد كان مثله مثل أي شيء نعتاد على غيابه ويبدأ بالتلاشي رويدا رويدا من حياتنا الهدايا لم تكن تعني لها الكثير أمام اسناد رأسها على كتفه حين تواجهها المشاكل مجتمعة المدارس مراجعة الاطباء بشأن أبنائها اشكاليات العلاقات العائلية ومشكلات الابناء و أشياء أخرى بلا حلول
خمس سنوات مضت على عمل شوكت في الخليج كان يحول فيها جزء من مدخراته المالية إلى عائلته إلا أن الحياة المريحة المرفهة سرعان ما أغرته بترك حياته السابقة ليبدأ من جديد مع امرأة أخرى شقيقة زوجة صديقه التي اتت لزيارتهم فطاب لها المقام هناك كزوجة لشوكت ومعها احس فجأة بكارثة الخوض في تجربة انشاء عائلة كبيرة في عمر صغير بدون اي مقومات تخفف من وطأة حمله فقرر التخلي عنهم وكأنه يقلع عن عادة لم تؤات صحته
في تلك الليلة الماطرة قبل اعوام خلت حضر عصمت الى منزلها وكان يبدو شديد الارتباك ولا يعرف من اين يبدأ معها الموضوع فتحدث معها قليلا حول الابناء وما اذا كان ينقصهم شيء وكانت تجيبه تلك الاجابات الروتينية التي نملكها جميعا على تلك الاسئلة لعله ينتهي سريعا ويخبرها ما جاء ليخبرها به
تمالك نفسه اخيرا وقرر ان يلقي بتلك القنبلة التي جاء محملا بها بناء على رغبة اخيه شوكت الذي اراد اعفاء نفسه من التفاعل مع احساسه بالذنب تجاهها
لقد تزوج شوكت من امرأة أخرى ولم يضف حرفا آخر
بقيت تنظر إليه علها تفهم ما نطق به
مد إليها ورقة الطلاق دون أن ينظر إلى عينيها
تماسكت ومدت يدها لتناول تلك الورقة و أخذت تنظر إلى حروفها التي قررت شكل حياتها القادمة نظرات شاردة و بغير تمعن فقد انهارت الدنيا على رأسها مرة واحدة بدون اي انذار مسبق ابتلعت هزيمتها بصمت ولم يصدر عنها اي رد فعل
تركها عصمت وخرج مسرعا فلم يكن هناك داع لقول اي شيء فما حدث قد حدث
لم يكن بامكانها تجاوز تلك اللحظة التي افقدتها امانها ووجودها المرتبط بشوكت فكيف ستستمر الحياة بدون رجل يرعاها ويحميها هي وابناءها الستة فالحياة بالنسبة لها رجل وبدون ذلك كانت ترى نفسها بلاقيمة وبلا أهمية وجودية هكذا هي الحياة ولا يمكن ان تكون بشكل مغاير
حسناء زوجة عصمت كرست وجودها بعد هذه لحادثة لتذكيرها الدائم بأنها ليست أكثر من امرأة غير مرغوب فيها انتهت وعليها ان تتلاشى اجتماعيا فليس هناك من تنتمي إليه لقد فقدت حاميها الحياتي وعليها ان تنظر إليها بانكسار حين تتعمد وضع ذراعها في ذراع عصمت اثناء وجودها لترمقها بتلك النظرة الشامتة وان تجاهلتها كانت تبدأ بحديثها عن سفراتها المحتملة مع زوجها ليجددوا حياتهما الزوجية معا ومع ان ذلك لم يدم طويلا بسبب اصابة عصمت بالسرطان الذي أنهى حياته خلال اربع سنوات من بعد حادثة طلاقها الا ان كلمات حسناء كان لها مفعول السم البطيء يجري في شرايينها فقد كانت حسناء كمن يتنعم بالدفء والامان امام أعين اناس حفاة عراة تهزهم الريح وتغرقهم الامطار لقد عانت مرارة هذا النوع من الاحساس مرارا وتكرارا على يد حسناء أولا ومن بعد على يد بعض جاراتها ومعارفها رغم العلاقة الطيبة التي كانت تجمعها بهن قبل طلاقها
لم تعرف ابتهاج يوما ماكان يدور في رؤوسهن حين يتصرفن معها بهذه الطريقة فلربما هو تعبيرمعقد عن مشاعر خوف استباقي يجعلهن يقفزن لمهاجمة من تذكرهن بما يخشينه ويقلقن لاجله فقد كان من الممكن ان ينشأ بينهن نوعا من التعاطف والمساندة إلا أنه بدل ذلك خلق سلوكا عدائيا يفيد تذكير الاخر بهوانه وضعفه ويشعرهن بأمان لحظي وقوة مصطنعة

مضت السنون وكانت فيهم وحيدة مع ابنائها بعد ان توقف شوكت عن الاتصال بهم وعن ارسال اي مبلغ مالي لهم فقد اراد ان يكون كليا لزوجته وابنائه من زوجته الثانية معتبرا ان ما حدث له مجرد خبرة حياتية لم ترق له وعليه ان يتجاوزها وتجاوزها ولكن كان هناك من دفع الثمن عنه ابتهاج وابنائها
كان عليها ان تصارع الحياة بشكل يومي حتى تؤمن قوتها وقوة ابنائها ولم تقف الحياة الى جانبها مرارة رفضها كامرأة ومرارة ذلك الانكسار الذي فرض عليها من قبل نساء عائلة زوجها ومرارة الفقر وعدم القدرة على اعالة اطفالها وحياتها التي لم تعرف شيئا عنها سوى واجباتها تجاه الاخرين والاخرين فقط وكم كانت بحاجة الى من يخبرها ولو كذبا بانه بامكانها ان تلقي رأسها ولو قليلا على كتفه ربما لدقيقة واحدة وربما لثانية عندها كانت ستلتقط انفاسها من جديد لمواصلة سيرها ومواصلة القيام بواجباتها بدون ذلك الانهاك المعنوي الذي كان يمزق روحها قبل جسدها حتى دموعها لم تكن لتأذن لهم بالانسياب كما يحلو لهم على وجنتيها دون ان تتأكد بأن لا أحد يراها فعليها ان تبدو دائما انها بخير حتى لا ينهار ابناءها معها وحتى لا تفرح قريباتها بانكسارها وانهدامها امام الحياة وتدابيرها فكانت تسارع لقمع دموعها العاصية وترسم ابتسامة متعبة على شفتيها
كسرات الخبز اليابس التي كانوا يتناولونها مرة او مرتان في اليوم والاحذية البالية التي كانت تبرز منها اصابعهم الصغيرة وقمصانهم التي كانت تظهر من اجسادهم اكثر مما تستر كانت تبدو اكثر قسوة في الشتاء منها في الصيف ناهيك عن سخرية الاطفال الاخرين منهم وهو ما جعل مهند الابن الاكبر ذو العشر سنوات يرفض الذهاب الى المدرسة في كثير من الاحيان الى ان صدفه جارهم ابراهيم ذات يوم يسيرامام باب منجرته واضعا يده في جيب بنطاله ينظر ساهما الى الحجارة الصغيرة وهو يتقاذفها برجليه لا يلوي على شيء حينها باغته ابراهيم بسؤاله
لما انت خارج المدرسة في حين كان يتوجب عليك ان تكون كباقي زملائك وراء مقعدك
اجاب بلا اكتراث
لا احب المدرسة ولا اريد الذهاب إليها
هل تعرف امك بأنك لم تذهب اليوم
اجل تعرف ولم تقل شيئا
لما لم تقل شيئا
هكذا فهي لا تريد ان يضحك من منظري زملائي في المدرسة كما يفعلون دائما
تنهد ابراهيم ورفع رأس مهند بيده عاليا نحوه ونظر في عينيه يسأله
ما رأيك لو طلبت منك العمل لدي في المنجرة وسأعطيك لقاء عملك كل آخر اسبوع اتوافق
لمعت عينا مهند فرحا وطلب ان يسأل والدته اولا
راح يجري باتجاه المنزل يبحث فيه عن امه التي فاجأها حضوره وراحت تمسح دموعها التي كانت تغرق وجهها بطرف منديلها الذي تلف فيه شعرها قبل ان يراها
لا تبكي يا أمي بعد الآن فقد وجدت عملا في منجرة جارنا الذي عرض علي العمل لديه
ابن العشر سنوات صار يعرف كم هو مهم ان يكون له عملا ويتحمل مسؤولية عائلة كاملة بدل ان يمضي وقته مع اقرانه في المدرسة كل همه علامة اكثر من زميله وربح في مباراة صبيانية ومصروف يومي يشري به قطع الحلوى كان عليه بدل ذلك ان يقبض راتبا ويشتري به خبزا لاخوته وأمه كان عليه ان يتحمل مسؤولية رعونة والده الذي تبع رغباته ولم يأبه لمصير ابنائه
وافقت على تركه للمدرسة لانه لم يكن لديها خيارات اخرى للنجاة والعبور بأبنائها الى الطرف الآمن من الحياة وافقت على امل ان تسهم تلك القروش القليلة التي سيتقاضاها من العمل في المنجرة على سد رمقه ورمق اخوته الجياع وكان ان التزم مهند في المنجرة وبعدها شجع اخاه الاصغر ليث للخروج هو الاخر والعمل معه في منجرة ابراهيم جارهم وهكذا سارت الامور ليتمكن باقي الاخوة الاصغر من الدخول للمدرسة كباقي الاطفال
سارت الحياة معهم برتابة مرارتها وضنكها الى ان تمكن مهند وليث من التحصل على فرصة عمل في الخليج عن طريق أحد الاصدقاء الذي سبقهما إلى هناك وسعى لهما بالعمل معه في احدى أكبر ورش النجارة في الكويت وذلك حين بلغا نهاية مرحلة المراهقة وبداية سن الرشد
هكذا انتهت ازماتهم المادية ولم تعد وجبة العشاء ترف يمكن الاستغناء عنه ولم يعد مهما الاحتفاظ بالاحذية القديمة للاخوة الاصغر كل ذلك القلق والتطرف في التدبير بات من الماضي حتى انهم تمكنوا أخيرا من جعل والدتهم واخوتهم ترك تلك الغرفة التي كانت بمثابة منزلهم ليعيشوا في شقة بكل معنى الكلمة غرف ومنافع وصالونات كما كانوا يحلمون
ادركت ابتهاج عندها انه تم انقاذهم جميعا ولم يعد هناك ما تخشاه على صغارها
تخرج الابناء وتزوجوا جميعا ولم يبق معها سوى علي وابنتها الصغرى هند التي كانت تعمل في احدى البنوك بعد طلاقها فكانت اقربهم الى امها التي لم تستطع ان تنسى اوجاعها الحياتية
التي لم تبدلها بحبوحة العيش التي كانت فيها فيما بعد
لم يكن احد يرى تلك النار التي تشتعل داخلها ولم تهادن السنين التي مرت عليها كانت حانقة بصمت على كل شيء في هذه الحياة
مفاتحتها لابنتها هند عن عذاباتها واصرارها على العيش مع تلك الايام بكل حرقة جعل من هند تخشى عليها من الوحدة والجنون فاحيانا كانت تستيقظ في الليل على صوت بكاء والدتها تحاول كتمه حتى لا تسبب لها الذعر
لم تشأ أن تتخطى ما حدث فلم يكن بمقدورها أن تتجاوز تلك اللحظات التي أحستها مهينة ولم يسر عنها كل لحظات الانتصار التي حدثت في حياتها فيما بعد فقد اطالت الوقوف امام لحظات النهاية والتخلي حين قرر شوكت ان ينهي ما بدآه معا ويهجر منزله وابناؤه
كانت بذور الخروع ضالتها التي لن ينتبه اليها احد بعد ان علمت سرها من الراعي الذي اعتاد ان يبيعها حليب مزرعته الطازج وذلك اثر حديثه امامها عن المراعي والنباتات التي تحمل معها الموت والحياة في آن واحد كنبات الخروع
لم تعد قادرة على تحمل غصات المرارة تتجرعها كل يوم من روتينها في تناول الذكريات بشكل يومي فأرادت الخلاص بتناول ما يكفي لقتلها من بذور الخروع اثناء انشغال ابنتها عنها في العمل والتي عادت قبل لحظات قليلة من فتك البذور بها لحظة هذيان قبل الموت
حادثة الانتحار تركت في نفسها اثرا عظيما جعلتها تجلس اياما طويلة صامتة لا تتكلم تستمع لهند وتراقب محاولات علي البريئة في جعلها تتحدث إليه ولكنها لم تشأ أن تجيب فقد كانت مصغية الى حديث بذور الخروع عن ظلام نفسها الذي خلفته معاناتها الحياتية فلم تستطع ان تتبين وجودها فقد عاش الكل في داخلها ما عداها لم تكن حياتها سوى ردود فعل على افعال الاخرين الذين احتجزوها في افكارهم السامة فعلقت في فخهم طوال تلك السنين فغامت رؤيتها لنفسها واختفت ولم تعد تستطيع ايجاد ابتهاج وسط كل ذلك الدمار
لاول مرة يعانقها احدهم ويبكي بحرقة لوجعها فيسري في جسدها دفئا كالبلسم يضمد جروح نفسها المصابة فقد ادركت فجأة انها كسبت معركتها الكبرى دون ان تنتبه لذلك الانتصار هناك من سلبها فرحة احتفالاتها بالنصر ولم يكن سوى ظل احزانها القديمة التي عز عليها تركها فجعلتها رهينة لها مدى الحياة دون ان تنتبه انها باتت اسيرتها رغم ان مفاتيح حياتها صارت في يدها اخيرا
لاول مرة كانت ترى بها هند بشكل آخر فلم تعد هند الصغيرة المحتمية بوالدتها بل كانت قوية عفية تحتضن طفلها بسعادة كبيرة بدون ان تنتابها انهيارات بكاء على مؤنس فقد بدت بخير بدون رجل بدون حامي كما كانت تعتقد هي كانت راعية سعيدة لابنها فخورة بانجازات عملها لما لم تتوقف الحياة بها عند مؤنس المختبئ في ثنايا والدته

بكت قليلا واستمعت لنفسها قليلا راجعت شريط ذكرياتها المتعلق بلحظات السعادة التي حرمت نفسها من الاستمتاع بها كما يجب وحرمت على نفسها الاحتفاظ بصداها حين تمسكت بترددات حزنها تطغى على ذاكرتها
لا لم اكن مستعدة بعد لنمط حياتي آخر فحتى السعادة يلزمها استعداد وتدريب على التعامل معها فقد كنت دائما مشغولة بالخوف والقلق كادمان لم استطع ايقافه ولم يكن لدي وسيلة اخرى للعلاج منه سوى بالخروج من هذه الحياة لم يدلني احد على ما علي فعله في مثل هذه الظروف سابقا كانت الحاجة للنجاة بنفسي وباولادي هي معلمي فاتقنت مهنتي تلك القائمة على التوقع والترقب والدفاع والهجوم وحين اتممت ما كان علي فعله لم اعرف كيف أتأقلم مع المهمة الجديدة التي كان من المفترض بها ان تريحني من كل ما مر بي من شقاء لم استطع ألا أخاف لم استطع ألا اتابع حزني ونقمتي على الحياة كان علي ان استمر في اجترار ما ضي لاني اتقنته طوال تلك السنين وفجأة داهمتني السعادة مرة واحدة وكنت خائفة منها لقد نجحت بمهمتي مع الشقاء والحزن والخوف فلم استطع التغيير خوفا من الفشل رغم انه لم يكن هناك داع منذ وقت طويل لاستمرار حقدي وكراهيتي فالكل للحقيقة قد نال جزاؤه في هذه الحياة فشوكت قد تم تسريحه من عمله وسرعان ما اصابه فالج اثر خسارته كل ما يملك في البورصة حتى زوجته وابناؤه تركوه وحيدا بعد ان اقاموا نهائيا في امريكا
لسنين طوال كنت اعتقد اني لن اصل ومع كل عقبة طارئة كنت استعد للاستسلام امامها إلا أني أبذل كل طاقتي في انتظار النتائج وفي كل مرة كنت اخرج بسلام فالحياة كثيرا ما كانت حافلة بالمفاجآت وبأطواق نجاة غير متوقعة لا نعلم من اين تقذف لنا فكل ما علينا هو ان نحاول ونحاول إلى أن ترمى لنا حبال النجاة وان بدت محاولاتنا يائسة
عليا أن اعترف لم يصمد شوكت في حين خرجت سالمة بستة أبناء لما كنت اعتقد دائما بأن الرجال هم كائنات لا تقهر فنتدافع نحن النساء للاحتماء بهم في حين ان الحقيقة تقول انهم مثلنا تماما لا بل قدرتنا على التحمل بدافع الامومة اكبر بكثير منهم
شهر كامل بعد الحادثة قضته ابتهاج مع افكارها التي فوجئت بكثافتها وبغرابتها وكأن هذيان قبل الموت ذاك قد فجر لديها كل ما كانت تخشى التفكير به واطلق قدرتها على تجاوز عجز الرؤية وحبس الذات شيء ما فجر تلك السدود في ذاكرتها فرأت كل شيء مرة واحدة شيء اعاد لها صياغة الاحداث بطريقة جديدة بعد نزع حالة التأسي على الذات التي حرمتها من الفرح بانتصارها المؤزر هي بطلة نفسها وبطلة قصة حياتها لقد اعاد الهذيان إليها صوابها وقدرتها على العيش وقدرتها على الابتسام والفرح هذيان ارسله الله لها لترى ما لم تستطع رؤيته بدون تجربة الالتقاء تلك
في ذلك اليوم الربيعي عادت هند من عملها لترى والدتها في الحديقة تزرع النرجس والقرنفل وتعيد ترتيب مدخل الحديقة بالمعرشات المزهرة بانتظار عودة ابنتها وحفيدها عانقتهما وكأنها تراهما بعد غياب طويل جدا كل شيء بدا بلون مشرق جميل اختفت غيومها وعواصفها عادت لتنعم بدفء الشمس مع من تحب وتنتظر عودة عائلتها لتلتم في الاجازات بفرح معهم