برنامج الأنوثة



عايدة الجوهري
2019 / 9 / 23

نتوهم أحيانًا أنّ أحوال المرأة وقضاياها، أُشبعت تشخيصًا، وتوصيفًا، ونقدًا وتنظيرًا، وأنّه حان وقت الانتقال إلى السعي والمطالبة والنضال والضغط للتغيير، غير أنّي من اللواتي والذين يعتقدون أنّ واقع النساء يحتاج إلى مزيد من السبر والتوصيف، لأنّ نظام الامتيازات الذكوري القائم على مركزية الرجل وتفوقه على المرأة، ودونيتها، والذي وزّع المصائر، والأدوار والخصال، والفضائل والمواصفات والعقول، والمشاعر، يترك بصماته الراسخة على تفاصيل جوهرية في أداء النساء بالذات، تجعلهنّ على هذه الصورة أو تلك، وعلى هذا النمط أو ذاك، وعلى هذه الشاكلة أو تلك.
إنّ على النساء ألا يغمضنَ أجفانهنّ عن كل شاردة وواردة تتعلق بحياتهنّ، أو حيوات غيرهنّ، وتكون وظيفتها تثبيتهنّ في أنوثتهنّ الاجتماعية، وصهرهنّ، تلك التفاصيل التي تمّ اختيافها واستبطانها، واستبدانها، بحيث لم تعد قابلة للملاحظة، والإدراك، ولكنّ هذه التفاصيل والجزئيات، على غموضها وسرّيتها، تشكل مقومات ما سنسميه «برنامج الأنوثة».
سوف نحاول ها هنا رسم بعض ملامح «البرنامج الثقافي»، الخفي والمحقق الذي سنّته العقلية الذكورية لمحاصرة المرأة، والحؤول دون أن تكون ذاتها، وحقيقتها، ورغبتها، وإرادتها، وعقلها، والتي تؤدي إلى اجتيافها لدونيتها، واستلابها، وسلبيتها.
إنّ الرسالة الثقافية الموجهة للبنات، والخاصة بالكيفية التي يجب أن يكنّ عليها، تشتمل على كل ما هو خاص بالتنميط الأنثوي، ففيما تتحدد الرجولة في برنامج متكامل لإنجاحه، نجد أنّ برنامج الأنوثة ينطوي على مفهوم الاستسلام، والسكون والطاعة والطبيعة. فلكي تُعدّ «انثى» يجب على الفتاة أن تكبت الخصائص الإيجابية التي تُميّز الرجولة، فكل فتاة يجب أن تعكس المعتاد لما له قيمة بالنسبة إلى الرجال، يجب أن تتعلم أن تُخرس قواها وفرديتها، أن تستحي وتتذلل وتمتثل وتنحني وتتقوس، وأن تحرم نفسها من احتياجاتها الخاصة، ونزعاتها وميولها، ورغباتها، وأن تستجيب للعالم بأسلوب رضوخي، ويجب أن تغتنم كل فرصة لإظهار أنّها امرأة حقيقية، مرنة وغير أنانية، متعاونة وقادرة على مساعدة الآخرين، والتهاون معهم، والرفق بهم، وعليها أن تعتذر عن دموعها وتكبت غضبها وألمها، سلوكها الأنثوي يجب أن يتوافق مع النموذج الثقافي للأنوثة، وهو المعيار الذي سوف يحكم عليها، وفقًا له، كعضو مناسب للأنوثة.
والمرأة المستفزة للرأي العام هي التي لا تتبع قواعد انكسار الذات ولا تلتزم بها، وعلى الضل من ذلك، تنصت لرغباتها، ومشيئتها.
فعلى المرأة الأنثوية، ألا تطلب ، ألا ترغب، ألا تسأل، ألا تستفسر، ألا تقلق، ألا تعترض، ألا تجرؤ، ألا ترفض، ألا تثور، ألا تريد، ألا تطمح.
تخشى الفتاة المستفزة للرأي العام، تكاليف وعوائد افعالها بطريقة صارمة، فلأنّ لديها جرأة التفكير في نفسها بجدية الرجل، فإنّها تتبع رغباتها كالرجل، حتى لو أدى ذلك إلى اتهامها بالافتقار إلى الأنوثة، هي تبحث عن المتعة بأشكالها، وهي بذلك تنشر الخوف في قلوب الرجال والنساء، لأنّها تبدو في نظر البعض شاذة كأنثى، لأنّها تخطئ في فهم حدود دورها الجنسي، فهي تعبر الفاصل بين الأنوثة والرجولة، وتهدّد التقسيم الطبيعي المفترض بين الجنسين، فإذا خرجت المرأة عن دورها الجندري، لتجرب المزايا الخاصة بالرجل في السلوكيات فإنّ المجتمع يحذّرها من سوء العاقبة.
إنّ المرأة التي تخرج عن الأدوار المرسومة لها وعن قوانين الطاعة، تُتّهم بفقدان الأنوثة، وسوء الخلق والوقاحة، والسفاهة، والادعاء، والشذوذ، وصولاً إلى الاسترجال. وعلى النساء قبول أحكام الأنوثة في مجتمع يتميّز فيه الرجال عن النساء، فإنّ كونها امرأة يعني أنّها أقلّ شأنًا، وثانوية، فالصبيان يحصلون على سلطة أكبر ومميزات أكبر. وعند البلوغ يحصلون على ما يُقدّمه المجتمع من سلطة وتحكُّم، والبنات سيحصلنَ على أقل، وما عليهنّ إلا الحصول على ما يُقدَّم لهنّ فقط، ولا يسألنَ المزيد. وتدريجيًا تصبح الأنوثة أقرب إلى الدونية وقبول الحرمان.
والنتيجة التي تستخلصها الفتيات من احترام القواعد والمشاركة في مجتمع يعلي من شأن الذكور على الإناث، هي أنّهنّ أقل من الذكور استحقاقًا وأهميةً، والتجربة المتكررة للحرمان تشجّع البنات على قبول المحددات الثقافية بأنّهنّ أقل من الصبيان، ولا يجب أن يطلبن المزيد. فالأنوثة تتطلب من النساء أن يكنّ سلبيات، وهادئات الطباع، وغير أنانيات، وتابعات للرجل، وهذه المحددات تجعل النساء يتوقّعنَ أن يكنّ الخاسرات ولسنَ الفائزات في الدنيا.
ولأنهنّ مهيئات لقبول الحرمان على أنّه أمر طبيعي، تكون النساء ضعيفات الحجة في الدفاع عن مصالحهنّ، أو في طلب ما يحتجنَه، وأيضًا في الصراع من أجل ما يردنَه.
لا تريد المرأة المطيعة خذلان أحد أو التسبّب في أي ألم لأحد، وهي على أهبة الاستعداد دائمًا لتقديم الخدمة لو كانت غير مستعدة، وعندما تختلف في الآراء مع شخص ما، تصمت، وتكبت الرغبة في الكلام تمامًا، لإحسساها بالعجز عن تأكيد نفسها، وعندما يصدّها أحد، أو تجابه بقسوة الأهل أو الأصدقاء أو الزملاء تلوم نفسها، ظانةً أنّها لا بد قد فعلت ما تستحق عليه ذلك، وتتحمّل مسؤولية المواقف السيئة في حياتها، ويجتاحها شعور بالذنب مشوب بالشعور بالعجز، والأسى.
إنّها استراتيجيات التدجين المفروضة على الإناث، القائمة على فرضية نقصانها ودونيتها، والتي لا تلبث أن تُولّد لدى الإناث شعورًا بالنقصان والخيبة والخذلان، يجعلهنّ قاصرات عن التأثير إيجابيًا في محيطهنّ، وعلى تطوير ذواتهنّ.
الشعور بذنب الأنوثة:
تفقد المرأة التي تدربت منذ سنيها الأولى على الطاعة والاستكانة، تدريجيًا عنفوانها، الذي يدفعها إلى الاحترام والمجابهة، وتشعر باستمرار بانعدام التكافؤ بين قوتها وقوة ما تتعرض له، فتجد نفسها في معظم الأحيان في وضعية المغلوب على أمره، فاقدةً الأسلوب الاقتحامي في الوجود، وسرعان ما تتخلى عن المجابهة منسحبةً أو مستسلمة، أو متجنبة توجسًا من سوء العاقبة، ويأسًا من الظفر والانتصار والتصدي، وتنعدم ثقتها بنفسها، وتعمّم هذا الفقدان على كل الآخرين أمثالها.
وهي تخجل من حيث لا تدري بأنوثتها، وتحياها كعارٍ وجودي يصعب احتماله وهي تهجس بالسترة خوفًا من افتضاح أمرها، وانكشاف سرها، تخشى مثلاً أن تحب، أن تشعر بعاطفة جياشة تجاه من تحب، تكتم شعورها، تواريه، كمن يتكتم على عاره، لأنّها تمرّست على عدم إطلاق مشاعرها، خارج إطار العلاقة الزوجية التقليدية وشعورها هذا يتصل باستبطانها مفهوم الفتنة، وتداعياته.
وهي لا تستطيع حيال هذا الواقع شيئًا، ولا تملك سوى التعامل معه ومثوله وترسيخه كأولية دفاعية تساعدها على قبول واقعها، واستساغته والتخفيف من القلق الذي ينتابها، وهي لا تتمرد، لأنّ التمرد وليد سيرورة تغيير في الأفكار، وفي النظرة إلى الذات والآخرين، سيرورة وعي بالذات، كذات مستقلة، مستطيعة، لا كموضوع سرودي وظيفته التلقي.
تجتاف المرأة كره المجتع وخوفه من أنوثتها، وتحويلها إلى حرمة، وحرمة، هي مثلها مثل حريم، مشتقة من الكلمة الملك «الحرام»، فالمرأة حرمة هي حرم فلان، فإنّ الحرام والمقدس هنا مكتملان، المقدس يوظف لصالح الاجتماعي، هي امرأة مقدسة، حرام لمسها إلا بعد طقوس، وهذا ما يجعل منها مكلفة بالواجبات الدينية، وتلتزم بفروض الحرام، وقد تمارس الشعائر وتتدجن قبل البلوغ.
ومن المثير للاستغراب أنّ المجتمع الذكوري الذي خطط للعجز الأنثوي، وبرمجه، لا يلبث أن ينفر منه، ويتحاشاه كالوباء، مبادرًا إلى مطالبة الرجل بتجنبه وعدم التمثل به، والهروب منه، وإلا سقط في امتحان الرجولة، وخسر هويته، وهنا يبدأ حديث آخر.
فاحذروا البرامج الخفية والمرهفة التي تتربص بالنساء، وتخرب ذواتهنّ وتحرفها عن مسارها الطبيعي، وتختبئ في دقائق العيش اليومي وومضاته.