-بين بحرين”: بحر الظلام وبحر النور



فاطمة ناعوت
2019 / 10 / 20

"شَهد"، طفلةٌ جميلة مثل "الشَّهد". ذكيةٌ متفوقةٌ. بالكاد غادرت حقلَ الطفولة، وتطرقُ على استحياء بابَ الصَّبايا. تحلمُ أن تصبح طبيبةً لتُخفِّفَ أوجاعَ أبناء حارتها الفقراء. في وقت الواجب المدرسي، تنزعج أمُّها "زهرة" من رداءة خطّ يدها. لكن "شهد" تُبرِّرُ بأن تلك سمةُ العباقرة والأطباء . ولكن أمها تُصِّر أن تُحسِّنَ البنتُ خطَّها، حتى تكتملَ دائرةُ الحُسن في الصَّبيّة الحلوة، وإلا لماذا أسمتها “شهد”؟! وتلاطفُ البنتُ أمَّها بأنها حين تكبرُ ستنجب طفلةً تُسمِّيها “زهرةً” على اسم أمَّها الغاليا. لكن " شهد" لن تكبرَ لتنجب "زهرة"، ولن تجد الوقت لتحسِّنَ خطَّ يدها، ولن تسمح لها الحياةُ بفضّ ضفيرة المدرسة لتطرقَ باب الجامعة وتغدو طبيبةً. الطفلةُ ستظلُّ إلى الأبد طفلةً، لا تبرحُ طفولتَها بل ترافقهاا إلى القبر، الذي اختطفها من عرائسها وأقلامِها وكرّاساتها. انتزعها الجهلُ من حضن أمّها. وقصفَ عمرَها البطشُ الذكوري الذي يربطُ بين "عِفّة" الفتاة ببتر الجسد بالختان!
تمَّت الجريمةُ بترتيب الأب والجدّة البسيطة التي ترى أن "كمال" المرأة في زواجها المبكّر، وليس في تعليمها وبناء عقلِها، وامتلاك ناصية قرارها. تمّت الجريمة بعيدًا عن عيون "زهرة" الأم المثقفة، رغم تعليمها البسيط، التي كانت ترجو لبناتِها العلمَ الذي لم تتمكن هي من تحقيقه لنفسها.
ألقت بنا الدراما في جحيم الوجع على زهرةٍ صغيرة قُطفتْ قبل أوانها، وعلى "زهرة" كبيرة انتُزِعت زهرتُها الشَّهدُ من بين أصابعها عُنوةً في لحظة جهلٍ وشراسة، ليتلطَّخ الجسدُ النحيلُ بنزيف دماء رافقاها حتى القبر. ويبدأُ الصراعُ الشرسُ "بين بحرين". بحر الظلام والجهل والموت، وبحر النور والتحضُّر والحياة.
فيلمٌ جميل أنتجه "المجلس القومي للمرأة"، بالاشتراك مع "هيئة الأمم المتحدة للمرأة"، مع سفارة اليابان بالقاهرة. كتبته الجميلة "مريم نعوم"، وأخرجه "أنس طلبه"، وجسّدت شخصياتُه مجموعةٌ من الشباب النجوم: فاطمة عادل، محمود فارس، يارا جبران، ثراء جبيل، عارفة عبدالرسول، لبنى ونس، وغيرهم. وحصد الفيلمُ عديدَ الجوائز من مهرجان "تازة" بالمغرب ومهرجان "بروكلين"، ونقابة المهن السينمائية بالإضافة إلى جائزة "نوت" لأفضل فيلم يناقش قضايا المرأة في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة، حيث عُرض لأول مرة.
بدعوة طيبة من د. مايا مرسي، رئيس المجلس القومي للمرأة، ذهبنا أول أمس لمشاهدة الفيلم في العرض الخاص. ولم تكن مأساة "شهد" و"زهرة" هي الأخيرة في تلك الدراما الثرية. بل قدّم الفيلم بانوراما حيّة لنماذج متباينة للمرأة المكسورة بنصل التنمّر الذكوري في المجتمعات العشوائية. ولم يغفل الفيلم تقديم نموذج المرأة "الأمل"، التي حاربت الجهلَ بالعلم. طبيبةٌ مثقفة ترفض إجراء عمليات الختان للطفلات، وتدفع مقابل رفضها تعرضها لعنف أبناء حارتها. أكملت الرحلة التي لم تقطعها المغدوة "شهد". فتخرجت في كلية الطب وناقشت الماجستير والدكتوراه، وأقنعت حبيبَها الضابط بحتمية إكمال رسالتها. وكان داعمُها وصخرة قوتها كان والدها المثقف البسيط الذي آمن بأن "عفاف" ابنته في عقلها، على عكس والد شهد، الذي قتلها دون قصد، ثم قضى بقية عمره يبكيها. ثم نجد نموذج "سُميّة" ضحية زوجها الفظّ الذي يضربها ويُهينها، لكنها في الأخير تتخلّص من ضعفها وتتعلم حِرفة ترتزق منها وتنجو من الزوج الشرس. ثم نُكمل قوس الدراما مع الثكلى "زهرة" التي سخَّرت أحزانَها على ابنتها المغدورة في استكمال رسالتها وحماية ابنتها الأخرى من نصال التومرجي الجهول الذي قصف عمر ابنتها، ليقضي بقية حياته وراء القضبان. وفي خلفية الأحداث نجد "إمام المسجد" العجوز الجاهل الذي يُسيء تفسير آيات الله لتتفق مع أهوائه الذكورية الباطشة. ثم يحلُّ محلًّه داعيةٌ شابٌّ مثقف بتعيين من وزارة الأوقاف؛ لتبدأ رحلةُ التنوير حين يبدأ أولى خُطبه في صلاة الجمعة بدعوة الناس إلى تنفيذ أول أمر كتابيّ أمرنا به اللهُ في قرآنه المجيد: “اقرأ".
هنا يضعُنا الفيلم أمام رسالة "التنوير" التي ترجو مصرُ ورئيسُها أن تغدو نهجًا منيرًا لمصرنا الجديدة وشعبها. إعادةُ بناء العقل المصري وتخليصه من أدران الظلام التي تقصفُ أعمارَ الزهور، وتسحقُ المرأةَ، وتقوِّض المجتمع، وتُبيدُ الحضارة. رسالة الفيلم حاسمة: "عفافُ" المرأة يبدأ وينتهي عند "عفاف" عقلِها وبناء منظومة ثقافتها. العقلُ هو الذي يحمي الجسدَ من الزلل. العقلُ النظيفُ هو الضامنُ الأوحد لنظافة الجسد، ونظافة المجتمع بأسره. بناءُ عقل الطفلة المصرية، والفتاة، والشابّة، والمرأة، هو أقصرُ السُّبل وأقواها لبناء مصر الجديدة التي نحلمُ بها.
تحية احترام لصُنّاع هذا الفيلم الثريّ، وللمجلس القومي للمرأة الذي يجتهد للحفاظ على كرامة المرأة المصرية وتثقيفها وبناء عقلها على القيم الرفيعة، ومحاربة كل العادات الظلامية التي تُهين جسدها وتُظلم عقلها وتكسر روحها. ودائمًا "الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن”.

***