العمل النسوي والحلقة المفرغة



فهد بن ماهر
2019 / 10 / 29

رغم اختلال النظام الاجتماعي القائم والسطوة الذكورية عليه طوال العقود الماضية إلا أن صوت المرأة بات مرتفعًا الآن وأخيرًا، لقد استفاقت الحركة النسوية من سباتها العميق وبدأت بالثأر جهرًا من كل من تطاله من الذكور المضطهدين للفتيات، لا فرق بين الرجل والمرأة هكذا تقول بكل عنفوان وإصرار على تغير الواقع، هادمةً كل الثوابت الرجعية التي آمن بها المجتمع وكف النقاش عنها، بدأت وأخيرًا تضع رأسها برأس الرجعية وتقاومها وتكافحها بل وتغلبت عليها بالعديد من المعارك، أصبح لسان حال هذه الحركة.. سنقاوم سنفضح سنشهر وسنفعل كل ما بأيدينا لإنقاذ أي فتاة مضطهدة من قبل أب قاسٍ أو أخ رجعي أو زوج متسلط، فلم نعد نخاف سياطكم أو ارهابكم ولا إعلامكم ومحافظيكم.. وسنسقط كل أصنامكم.

وعلى الرغم من ذلك مازالت الحركة النسوية العربية والكويتية على وجه الخصوص تقف على حافة الهاوية، فهي قد وُلِدت في هذا المكان، ولا يمكن لها أن تظل هنا، وخياراتها ليست كثيرة فإما أن تتراجع عن هذه الهاوية وتكمل طريقها قويةً ومقدامة وإما أن ترمي نفسها في الهاوية وتقضي على مشروعها، فلا أمل بنجاح أي مشروع يحتوي على هذا الكم الهائل من الاختلالات البنيوية خاصةً إذا كانت تواجه الرجعيين من الذكوريين والذكوريات بشكل مباشر ولا يمكن لها أن تنتصر ما لم تتحلل من نواقصها وتسوية التناقضات التي تحتويها، ولهذا قررت كتابة هذا المقال.. كمحاولة لرصد ما أستطيع رصده من أوجه القصور والنواقص والعيوب، لا من باب التشفي والاستهزاء بل من باب الإصرار على حماية المرأة في مجتمع شرس جدًا يقوم على استغلال المرأة وتهميشها وجعلها إنساناً من الصف الثاني لا يحق له اختيار تفاصيل حياته أو عمومياتها، وسأدقق الحديث عن النشاط النسوي الكويتي بشكل خاص فهو ما يعنيني بالدرجة الأولى في هذه المرحلة.

لا شك بأن أهم عوامل النجاح في اسقاط التسلط والاضطهاد الذكوري هو وجود طليعة حية ومنظمة تدافع عن المرأة وقضاياها، فعملية النضال عملية مركبة ومعقدة، ومن غير المنطقي أن تتحقق أي نتيجة في حالة العبثية والعمل الفردي والمتشرذم، وما يثير الخوف هو أن الحركة النسوية في الشارع العربي والكويتي تحديدًا ما زالت حركة متشرذمة حتى الآن، بل ولا يوجد أي إشارة حول تنظيم صفوفها وتوزيع الأدوار بداخلها، وهذا ما يهدد وجودها ويحولها إلى حركة عاطفية وعفوية ليس بمقدورها حل أو عقد، بل وبشكل أوضح يحولها إلى طبقة نخبوية تكتفي بالتنظير الإلكتروني وتنتظر أي حالة نسوية مضطهده كي تدافع عنها وترضي ضميرها، فأي مثال تحتاجه الحركة النسوية الكويتية على حتمية فشل العمل الفردي أكثر من ثمانية وخمسين عامًا من الفشل في العمل السياسي الكويتي، ولست أقلل هنا من فضيلة العمل النسوي ولكن بالطبع أقلل من سقف الآمال المعقودة عليه ومن قدرته في التأثير على الواقع، وليس فقط هذا التخوف الذي يعتريني حول العمل الفردي، حيث أن تخوفي الأكبر من تحول القضية النسوية إلى سلعة بيد الجميع كما تحولت الكثير من القضايا إلى قوالب جاهزة تُستخدم عند الحاجة أو قرب الانتخابات، كون العمل الفردي بيئة مثالية لخلق الانتهازيين وتعطي مجالًا أوسع لأصحاب الأجندات الانتخابية والتجارية للهرج والمرج، فلا أسوأ من تحول قضية كهذه إلى مادة في أيادي الانتهازيين والطامعين وأصحاب الأجندات المريبة، ولذلك تكمن قناعتي بضرورة اندماج جميع النسويين والنسويات في إطار منظمات المجتمع المدني من أجل حل القضايا المدنية والإنسانية للنساء، وفي إطار الأحزاب السياسية المدنية من أجل حل سياسي وقانوني شامل لوضع النساء، أما إن استمر الحال على ما هو عليه فنحن لن نخطو شبرًا نحو الأمام وسوف يستمر الوضع البائس للمرأة وإضاعة الجهد دون أي تغيير يُذكر وفي نفس الوقت سوف نصنع أسماء انتهازية تصعد على ظهر القضية.

على الجانب الآخر يقف الخطر الأكثر بؤسًا، وأقصد هنا الوعي.. الوعي الحقيقي بالبعد الطبقي للقضية النسوية، حقيقة أن القضية ليست بين مرأة ورجل بالأساس بل بين المجتمع والقيم الرأسمالية من تملك وسيطرة واحتكار وسلب حق تقرير المصير والاضطهاد، هذه المنظومة المتكاملة من القيم التي تُعتبر سمة الحياة في المجتمع الرأسمالي، فكل من يملك السلطة الأدبية والاجتماعية يحق له ممارستها مع من هو دونًا عنه، ولذلك أعتبر الرابطة بين تحرر المرأة وبين تحرر الطبقة العاملة هي رابطة حتمية لا يمكن أن تتم واحدة دون الأخرى مهما حاولت الليبرالية الساذجة ترويج عكس ذلك، وعند الإشارة لوضع المرأة في المجتمعات الرأسمالية الغربية فلا شك بأنه أفضل نسبيًا من وضع المرأة الشرقية التي تعتبر جزءً من مجتمعات استهلاكية، إلا أن المرأة في الغرب ما زالت تعاني أشد أنواع الويلات من الرجل إلى هذا اليوم، فعلى سبيل المثال لا الحصر.. نشر التحالف الوطني لمواجهة العنف المنزلي في الولايات المتحدة تقريرًا جاء فيه أن ربع النساء في الولايات المتحدة واجهن العنف المنزلي من قبل شركائهن، وأن عُشرهن تعرضوا للاغتصاب الزوجي، مما يضعنا أمام حقيقة واحدة وهي أن مهما كان المجتمع متطور ظاهريًا إلا أنه في الواقع يمارس أحد أنواع الاضطهاد ضد المرأة ويتفاوت الكم العددي على حسب الزمان والمكان.

ولذلك ما يجب أن نتفق عليه أن النسوية ليست بأيدلوجيا متكاملة أبدًا، بل هي جزء من أيدلوجيات أخرى، وليست من ضمنها الأيدلوجيا اليمينية والمحافظة فهي غير معنية أبدًا بقضية المرأة بل أنها تكرس الظلم والاضطهاد لها وتبرر ذلك من منطلقات ذكورية ذات طابع محافظ أو متشدقةً بالعادات والتقاليد، وأدّعي كذلك بأن الليبرالية ليست معنية هي الأخرى بحل قضية المرأة وإن كانت تتضامن معها بشكل جدي إلا أنها تثبت قواعد السوق الحر وتدعي له وهو أحد أهم مسببات الوضع المأساوي للمرأة إن لم يكن السبب الرئيسي له ويرجع السبب الرئيسي لهذا التناقض هو لافتقار الليبرالية لأدوات التحليل ولسطحية طرحها، ولذلك باعتقادي الشخصي بأن الأيدلوجيا ذات الطابع اليساري هي من تعي بشكل واضح حقيقة البعد الطبقي للصراع وتسعى لتحرير الطبقة العاملة ككل بنسائها ورجالها.

هذا فيما يخص الخلل البنيوي الذي يكتسي العمل النسوي، أما الآن أود الحديث عن الخلل العملي الذي يمارسه النسويون والنسويات، فإن كان الخلل البنيوي متجذر ويصعب حله في زمن وجيز، فالخلل العملي من الممكن تداركه طبعًا.

في صدارة هذه الاختلالات عمل الحركة النسوية بصيغة ردة الفعل لا بالحركة المبادرة التي تسعى للتغيير الفعلي، وأستثني هنا حملة إلغاء المادة ١٥٣ من قانون الجزاء وغيرها من الحملات البسيطة، واستطيع تشبيه العمل النسوي بعمل شعبي لخدمات من المفترض أن يقوم بها الإعلام إلى جانب أجهزة الدولة، حيث يمكننا اختزال الأمر بنشر قضية فتاة تعاني من الاضطهاد أو التمييز ومن ثم المطالبة بمعاقبة الجاني وحماية الفتاة منه وإيوائها، مع العلم بأن هذا الفعل ليس هو المطلوب من النسويين، فالأمر أكثر تعقيدًا ويتعلق بالبنية العلوية للمجتمع ومحاولة إصلاحها، ونشر الوعي المتعلق بحقيقة أن المرأة والرجل متساويان في الحقوق والواجبات، ولا يمكن حدوث ذلك بالاكتفاء بالتغريد وتكديس المتابعين.

ومن جانب آخر نرى بأن عدداً مهولاً من المدافعين عن حقوق المرأة يتعمد الصدام المباشر مع المجتمعات وموروثاتها، هذا الصدام الذي سيعلق القضية في دائرة الـلا حل، حيث أننا نتفهم هذا الأسلوب من شخص يطمح إلى شهرة أو إثارة الرأي العام حول شخصيته المستفزة، ولكن لا يمكن أن أتقبله من صاحب قضية يحاول خدمة قضيته.. لأنه وباختصار هذه الأفعال تدعم اطروحات الرجعيين الذين يريدون القضاء على الحركة النسوية، فنرى عشرات النسويات ينفذون اجندات المعسكر الرجعي بدون وعي تحت حجة “صوت الحق عالي”، بالطبع أنا لا أدعو للخنوع أمام الموروث الذكوري البالي ولكني أدعوا بالتأكيد لتهذيب الخطاب النسوي لإيصال صوته ومادته دون عوائق للمجتمع بحيث يكون مسموعاً ومؤثراً.

في الختام.. وكما ذكرت سالفًا بأني لم أكتب هذا المقال بغرض التشفي والتخوين والتقليل من الحراك النسوي، بل كتبته من باب النقد الذي يطمح إلى تفادي الأخطاء والسلوكيات غير المفيدة، ولذلك أدعو كل المدافعين عن قضايا المرأة إلى تنظيم صفوفهم عبر الاندماج في التنظيمات الاجتماعية والسياسية المدنية والتخلي عن العمل العفوي الفوضوي وغير المجدي، ومراجعة التفكير بطبيعة صراع المرأة ووضعها في المجتمع لبناء تحليل صحيح، فالقضية ذات أبعاد سياسية واقتصادية اجتماعية، وليست ثقافية فقط وسنسعى جميعًا لدعم الفتيات والنساء والوصول معهن إلى المساواة الكاملة.