استعباد المجتمع من خلال العنف ضد المرأة



نورشان حسين
2019 / 11 / 24

يعتبر موضوع مكافحة العنف ضد المرأة من أهم القضايا الاجتماعية المنتشرة حول العالم بشرقه وغربه, حيث تم تداول هذا الموضوع في السنوات الأخيرة بكثرة وازداد عدد النساء والرجال المهتمين بمكافحة العنف الممارس ضد المرأة بكافة أشكاله, وتم انعقاد المؤتمرات والندوات وتمكين النقاشات الحرة واستحداث الرابطات والحركات النسائية التي من شأنها جمع الإحصاءات عن العنف ودراستها واقتراح سبل المناهضة والعمل على حث الحكومات والجهات المعنية بإدراج القوانين التي من شأنها إلغاء التمييز الجنسي أو تقليله على أقل تقدير. ويمكن القول أن النتائج التي تم الحصول عليها في هذا المجال غير مرضية تماماً إذا ما وضعنا السقف العالي للمطالب النسوية بعين الاعتبار, ولكن الجهود التي بذلت وما زالت تبذل في مجال التوعية الفكرية هي محل تقدير في كثير من الأحيان.
من الأهمية بمكان أن يتم تناول موضوع العنف بمضماره الواسع, والانتقال من مسألة طرح أشكال العنف ضد المرأة وأنواعه وسبل مناهضته إلى مسألة طرح دراسةٍ شاملة عن تاريخ العنف الممارس ضدّ المجتمعات. فالمسألتين مرتبطتين مع بعضيهما ارتباطاً وثيقاً. ويتأتّى من كون المرأة بكينونتها هي الأساس في وجود المجتمعات وبنائها وتحررها وحتى ازدهارها. فالعنف الذي يمارسه الرجل الذكوري ضد المرأة ما هو إلا صورة مصغرة عن العنف الذي تمارسه السلطات الذكورية ضد المجتمعات, ومؤسسة العائلة التي تم تقديسها بعرف الأديان السماوية والقوانين الوضعية ما هي إلا صورة مصغرة عن الدولة الهرمية التي أنتجتها الزيقورات السومرية في مرحلة الانتقال من المجتمع البدائي (الطبيعي) إلى المجتمع الطبقي.
كثيراً ما يقال أن حال المجتمعات المضطهدة يشبه حال المرأة إلى حدّ كبير, وهذه المقولة الهامة تدفعنا إلى الجزم بأن عملية تحرير المجتمعات مرتبطة أساساً بعملية تحرير المرأة, لا بل تمرّ الأولى من خلال الأخيرة. ولمّا كانت القوى المهيمنة وما أنتجته من أنظمة فاشية وأوليغارشية تعرف تماماً هذه الحقيقة وتبني أجنداتها التحكمية اعتماداً على معرفتها المسبقة بما تجهله المجتمعات, فقد تم وضع تعزيز العنف ضد المرأة على رأس قائمة الأجندة الهادفة إلى القضاء على المجتمعات, سواءً كان هذا القضاء ذهنياً بإتباع أساليب التجهيل والاستعباد المرن, أو فيزيائياً بارتكاب جرائم الإبادة والتطهير كما تفعله الآن الدولة التركية بحق الشعب الكردي والمكونات المتعايشة معاً في الشمال السوري.
إن الحرب العالمية الثالثة التي تجري الآن في منطقة الشرق الأوسط والتي تركّز استعار نيرانها على جغرافية كردستان التاريخية ما هي في حقيقة الأمر إلا صراعٌ بين محورين أساسيين أو نظامين متضادين؛ الأول هو نظام المجتمع القديم الأمومي والذي سمي اصطلاحاً بالمجتمع النيوليتي, والثاني هو نظام المجتمع الطبقي الأبوي الذكوري البطرياركي. ويظهر هذا جلياً واضحاً أمام أعين العالم الذي بات يعلم مفاصل المؤامرة التي تحاك على أيدي القوى المهيمنة للقضاء على المشروع الديمقراطي التحرري الذي تبنته الشعوب والذي يعتبر التجربة الأولى في تاريخ الشرق الأوسط منذ انتقاله من المجتمع الأمومي إلى المجتمع الأبوي قبل ما يقارب الخمسة آلاف عام.
تميّز هذا المشروع بالدرجة الأولى بطريقة تناوله لموضوع تحرر المرأة و ربطه بتحرر المجتمع كركيزة مهمة إلى جانب تركيزه على تحرر الطبيعة من سلطة البشر بتعزيزه للمفاهيم الإيكولوجية. والخطوات العملية التي ظهرت للعالم في هذا المجال متمثلاً في دور المرأة عسكرياً وسياسياً واجتماعياً باتت محط إعجاب العديد من الفلاسفة والمعرفيين بالإضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني والحركات النسوية والشعوب التي أعلنت نفسها صديقة للشعب الكردي حول العالم. وما هذا التعاطف الكبير والشامل منقطع النظير الذي ظهر أثناء الحرب التركية على الشعوب المتآخية في الشمال السوري إلا دليلٌ جازمٌ على أن الهدف المفضوح من هذه الحرب هي طمس معالم الديمقراطية والتحررية والعودة بالمجتمع إلى حالته المريضة والحفاظ على ديالكتيك (السيد – العبد) من خلال تأنيث المجتمع بنسائه ورجاله وأطفاله على حد سواء.
ينبع مفهوم تأنيث المجتمع من تاريخ اليونانيين القدماء الذين اتخذوا الغلمان لممارسة الجنس معهم, بحجة أن المرأة مخلوق قذر لا تستحق الرفع إلى مستوى الزوجة, ولكن الهدف الخفي من وراء ذلك هو كسر إرادة الشباب الذكور من خلال تأنيثهم, وبالتالي تأنيث المجتمع وإحكام السيطرة عليه واستعباد جسده وروحه وفكره. ويُعتبر أفلاطون الذي كان فيلسوف السلطة من أكثر المنظّرين والمبررين لهذه الهيمنة الاجتماعية. فبينما كانت عملية ممارسة الجنس في المجتمع الأمومي هي علاقة متكافئة متعلقة بدواعي الإنجاب والتكاثر وتعتبر المرأة فيها هي العنصر المقدس ومانحة الحياة والمسؤولة عن الحماية والتغذية, تحولت فيما بعد إلى علاقة غير متكافئة يعتبر فيها الرجل هو الآخذ – المنتصر والمرأة هي المعطية – الخاسرة. بدأ هذا التحريف الخطير على العلاقة الغريزية الطبيعية في معابد الدولة الأكادية حيث يعتبر الملك سارغون الأكادي أول رجل طرح مفهوم الدعارى والتجارة بالجنس وذلك بتحقير المرأة وإنزالها إلى مستوى لا إنساني بعد أن كانت في منزلة الآلهة المقدسة لما تملكه من صفات وقيم أخلاقية نابعة من طبيعتها الجوهرية.
ما تفعله الدولة التركية الآن في جغرافيا كردستان عامةً والشمال السوري خاصةً والجرائم التي ترتكبها بحق الشعب الكردي يعكس لنا تماماً الطريقة التي تعامل بها الرهبان السومريين مع المجتمع لاستعباده, فهي تعتمد على النصوص المقدسة كإطلاقها لحملة الإبادة تحت غطاء "سورة الفتح", وذلك يذكرنا بـ"سورة الأنفال" التي اعتمد عليها الديكتاتور العراقي صدام حسين لقتل آلاف الكرد باستخدام الأسلحة الكيماوية. إنها طريقة خبيثة جداً في تخدير العقل البشري وإقناع مجموعات مصابة بالاستلاب العقائدي وصنع المرتزقة الفدائيين المستعدين لارتكاب أكبر الجرائم الوحشية ضد الإنسانية وكل ذلك بحجة الدفاع عن الله وتنفيذ أوامر الراهب – الملك – الديكتاتور الذي يعتبر نفسه الناطق باسم الله. ولكي يتم القضاء على المجتمع بشكل تام يتم استهداف النساء على وجه الخصوص باعتبارها رمز الحياة والديمومة ومفتاح التحرر الذي به يقاس مستوى الحرية. ولا يكتفون بقتل المرأة فحسب, وإنما يتم التمثيل بجثتها واغتصابها وتعريتها وإطلاق مسميات تقليدية عليها كالعاهرة أو الكافرة. وكأنهم بذلك تمكنوا من القضاء على شرف المجتمع وإرادته الوجودية, وهنا يأتي السؤال الجوهري؛ إذا كان جسد المرأة هو شرف المجتمع فماذا يمثل جسد الرجل؟ ولماذا يتم تحريف مفهوم الشرف وتضييق إطاره إلى هذا الحدّ؟ ألا يكمن الشرف الحقيقي في حماية القيم الإنسانية وتحقيق العدالة الاجتماعية وتصفية جميع أشكال التعصب والعنف؟
لكي يتم وضع حلول جذرية للقضايا العالقة في الشرق الأوسط وعلى رأسها الحروب الوجودية التي ستحدد فيما يأتي النظام العالمي الجديد, نحتاج فعلياً إلى إحداث نهضة شرق أوسطية. حيث لن يكون العمل على هذه النهضة بالأمر السهل, وتقع المسؤولية التاريخية بالدرجة الأولى على عاتق الشعوب المضطهدة والدور الطليعي يقع على عاتق كتلة النساء في تلك الشعوب. وذلك لأن التعصب الجنسوي يأتي كركيزة أساسية لإيديولوجية الأنظمة الحاكمة ومن خلالها يتم تطبيق جميع أنواع التحكم السياسي والاقتصادي والاجتماعي على الشعب. وعندما يتم مناهضة التعصب الجنسوي يُفتح المجال أمام التخلص من جميع أنواع التعصب الأخرى كالتعصب الديني والتعصب القومي والطائفي وغيرها من المشاكل المتجذّرة.
وفي هذه النقطة بالذات يجب أن تكون القضية عابرة للحدود والقارات ويتحقق اتحاد النساء حول العالم ويتعزز ذلك الشعور بأن جميع نساء العالم هنّ امرأة واحدة, ويتركز العمل الجادّ حول تحويل العصر إلى عصر المرأة من خلال مناهضة المؤامرات الخبيثة التي تحاك من قبل القوى المهيمنة بهدف تعميق الذكورية وتجذير السلطة الأبوية في الشرق الأوسط. وكذلك مناهضة الحركات النسائية المنحرفة عن مسارها بفعل المؤامرة لتشويهها تحت مسميات الفامينية المزيفة.