احلام يانيس



محمد الدرقاوي
2019 / 12 / 12

اسمحوا لي أن اقدم نفسي :
اسمي يانيس أي المفتاح ، ابن القرية .
قريتي استفادت من برنامج التنمية البشرية فصارت تتوفر على كل ما يحتاجه السكان من طريق وسوق ومشفى ومدرسة ،سينما وملعب للأطفال، وبعض المرافق الحكومية ..
أنا تلميذ مجد، أخجل ان تغيب رتبتي عن الثلاثة الأوائل في قسمي ،
لا اتأخر في انجاز واجباتي المدرسية في وقتها ، معتمدا على نفسي ، مستعينا بأبي وأمي اذا صادفتني صعوبة في معنى ،فأمي وابي قد حاربا أميتهما بمدرسة القرية الليلية الى ان حصلا على الشهادة الاعدادية فهما من علماني كيف ارتب افكاري عند الكتابة، وكيف استعين بمنجد الأطفال اذا استعصت علي كلمة ..
لا أتاخر في مساعدة أمي في المطبخ ، قد أغسل الاواني او ارتب الأدوات
او اقشر بعض الخضر وكما تقول أمي : انت رجل والرجل هو من يفهم الحياة
والحياة لا نفهمها الا بالعلم والعمل .. الرجل والمرأة كل منهما نصف المجتمع ، وكل منهما يتمم الآخر وعليهما أن يتعاونا معا ، فلا شي في الطبيعة يعيش لنفسه : النهر لا يشرب ماءه ، والبحر لا يأكل سمكه ، والأشجار لا تأكل ثمارها ،والشمس لا تشرق لذاتها ،وذات الضرع لا تشرب لبنها ،الكل يعمل من أجله ومن اجل غيره في تعاون وتوادد وتكامل ..
انتبه كثيرا لحكم أمي ، أرددها وأحفظها، فكثيرا ما تفيدني في كتاباتي المدرسية ..
بقدر ما اساعد أمي فانا لا أتاخر عن أبي الفلاح ، أتابع عمله وأتعلم منه كيف أسقي الحقول ، وانظم توزيع الماء ، أنبش احواض الخضر ، وأنقيها من الطفيليات وكثيرا ما آخذ عن ابي المحراث لأقلب التربة على البذور بعد الزرع ..
أحيانا يحاول أبي ان يمنعني من مساعدته خوفا من ان أتعب أو يخف حماسي في انجاز واجباتي المدرسية ..أعانقه وانا اضحك وأقول :
ابنك رجل فدعني اجرب حظي في الحقل معك كما أجرب حظي مع أمي في البيت فقد اصير فلاحا صاحب أرض بعلم كما قد اصير طباخا بدراية ومهارة .. الوطن في حاجة الى جميع تخصصات أبنائه ..
أحس بغبطة أبي وفرحه ،وكم كانت تعجبني ضحكته وهي تخلف على خده غمازة جميلة فيقول لي :
اعرف أنك رجل ،وانا بك افتخر ، وما دخلنا المدرسة وتعلمنا في كبرنا انا وامك الا من أجلك ،وأجل من تلده أمك من بعدك، وكم سأكون سعيدا اذا صار ابني مهندسا فلاحيا أو طبيبا بيطريا ..
من حسن حظي ان يوم السوق في قريتنا كان يوم أحد ،وهو يوم عطلة مدرسية، كنت أنجز فيه جميع واجباتي ليلة السبت حتى اتفرغ ليوم السوق مع ابي أوامي أو معهما معا،فقد كنت أخشى ان نعود متأخرين ، أو أكون تعبا فاتقاعس عن واجباتي المدرسية ..
كان السوق بالنسبة لي مدرسة من الحياة ، ألاحظ تعامل الناس ، كيف يتساومون ، يبيعون ويشترون، كيف ينظمون بضاعاتهم تحت خيام صغيرة ، كيف يقومون بالدعاية لها واشهارها بالنداء والاغراء ؛ وحدهم بائعو المواشي من يكونون صامتين ينتظرون جزارا اوعلافا للمواشي او صاحب وليمة ..او سمسارا بمقابل يساعد من لا يعرف السوق وبعض مشاكل من لا ضمير لهم..
مع قرب فصل الربيع كنت ألاحظ تثاقل أمي ، فقد شرعت بطنها تكبر أكثر،وصارت تمشي وهي تتمايل ذات اليمين وذات اليسار ،وكثيرا ما صار ابي هو طباخ بيتنا مساعدة لها ورحمة بثقلها . كانت تسالني : يانيس ! .. هل تعلم ان اختك بدات تلح في الخروج اليك ؟ لا بد أن تساعدني في تربيتها ؟ فانت نفسك كنت صغيرا مثلها، وأبوك من كان يساعدني في تربيتك ؟
بقدر ما كنت أشعر بسعادة من حديث أمي ،كنت أخشى ان تصير أختي لديها اقرب ، كانت أمي تحس بما في نفسي فتحضنني وتقول : انت عزيزي بكري الأول ، .. تعال ! ..اسمع صوت أختك تناديك من بطني ..
أضع راسي على بطن امي، فتصلني غرغرات واصوات،واحيانا لكمات خفية ،
اضحك وانا سعيد اني لن أكون في البيت وحدي فقريبا سيصير لي مؤنس ورفيق ..
وأنا مع ابي ذات أحد عائدين من السوق قال : يانيس ! ..هل فكرت في اسم لضيفتنا القادمة ؟
قلت : ضيفتنا ! ..من ؟
قال :أختك ، فقد صارت على وشك ان تشرفنا ..
ضحكت وقد أحسست برغبة الى رؤية هذه المولودة التي ستشاركني أمي وابي وحياتي المنزلية ..
قلت نسميها : تثريت : ضحك ابي وقال : اسم جميل، اسال الله ان تكون نجمة في وطننا..
بعد يومين دخلت امي المشفى حيث تمت الولادة ..
ازدادت أختي بسمرة قمحية ذات عينين كبيرتين كحليتين ،كانت فعلا نجمة أضاءت بيتنا ،فقد صارت فرحة أمي وسعادة على وجه أبي ، كلما رايت أمي تقمطها قبلت يديها الصغيرتين
كانت حفلة العقيقة سعادة بمقدم نجمتنا تثريت ، ذبح ابي خروفا كبيرا من قطيعنا ،وحضرحفل العقيقة أهلنا واصدقاؤنا وقد أتى بعضهم في حافلات لبعد المسافة ،رقص في الحفل أحواش وغنوا من موسيقانا الامازيغية والعربية،..
بدات أختي تكبر مع سنابل القمح وقد ساعدها فصل الصيف ان تنمو بلا مشاكل صحية مما يصيب الأطفال الصغار في فصلي الخريف والشتاء،
أناغيها فتضحك لي ، تبكي فابادرها بصرة صغيرة محشوة بلباب الخبز او الثمرالمعروك وزيت الزيتون ، صرت اراقب امي كيف تقمطها ،فاحاول أن اقتدي بها كلما وجدت أختي قد بللت اقماطها..
صرنا في بيتنا سعداء ، اتخيل أختي تكبر معي ، تختار ملابسي ، تغني لي أغاني جميلة بصوتها الدقيق كمزمار ، واشاركها دروسها فاساعدها كما ساعدني ابي وأمي..
بامتياز نجحت الى القسم السادس وقد كانت هدية ابي وأمي الي، هاتفا بآلة تصوير رائعة ،و كان اول عمل تدربت عليه كيف اصنع البوما للصور في هاتفي يؤرخ حياة تثريت أختي وهي تكبر وتنمو ، وقد بدأت تحبو ثم تقف وتسقط الى ان بدات تستعين بالجدار وحواف الافرشة ، ثم مالبثت أن بدأت تجري خلفي ..
انا اليوم بلغت السابعة عشرة من عمري ،استعد لاجتياز امتحان الباكالويا وتثريت في السنة الثانية ابتدائي ، طفلة تبهر العيون جمالا، والكل يفتخر بذكائها واجتهادها وقوة شخصيتها ، وقد بدأت تظهر ميولاتها في التشخيص والتمثيل، فهي بارعة في تقليد اكثر من شخصية فنية مغربية وأجنبية ..
اشترى أبي أكثر من فدان ممن فضلوا بيع أراضيهم والهجرة الى المدينة ، فصارت ارضنا أكبر وأرحب، بنينا اصطبلا جديدا وزريبة لتربية المواشي ؛وبعد ان كنت في صغري اهتم بمساعدة أمي في البيت وابي في الحقول فقد صارت تثريت تقوم مقامي في البيت وانا اساعد ابي في ترويض الأحصنة وتربيتها والتدرب على ممارسة الفروسية..
الان بدا يتوضح مستقبلي، فاهتمامي بالرياضيات والعلوم لايقل عن اهتمامي بتربية الخيول وركوبها وتربية المواشي ، والاهتمام بصحتها ومتابعة نموها وقد نويت بعد الباكالوريا تجهيز مكان لتربية الدواجن خلال العطلة قد تهتم به أمي وأختي تحت إشرافي..
هو ذا أنا هل كنت استحق اسمي لافتح امام اسرتي بوابة حياة رغيدة واكثر رخاء وسعادة ؟
أرعدت السماء وابرقت ، فصفقت باب نافذة غرفتي وانفتحت ، افقت من حلمي مذعورا ، من وراء النافذة ، بدأت أتامل ما ينقص قريتي ،ورجوت الله أن يتحقق فيها حلمي ذات يوم