العائلة ومؤسسة الزواج ومستقبلها بين العلمانية والدين



محمد يعقوب الهنداوي
2019 / 12 / 23

اخترعت المؤسسة الدينية الذكورية مقصلة الزواج لسحق كيان المرأة واستعبادها وحرمان المجتمع من قدراتها مقابل إطلاق العنان لنزوات الرجل واستهتاره

تاريخياً، قامت مؤسسة الزواج أساسا ضمن شروط محددة مرّ بها تاريخ التطور الاقتصادي والاجتماعي للجماعات البشرية، على ركائز أولها انتهاك حقوق المرأة على جميع المستويات وهيمنة الرجل واحتكاره ملكية ثروة العائلة على كل المستويات أيضا.

وكان ذلك انقلابا حصل كنتيجة محتومة لمرحلة تاريخية معينة في مجتمعات معينة (الأكثر تقدما وتطورا ونضجا بمعايير الاقتصاد والذي بنيت عليه الحضارات الكبرى آنذاك).

كان الشرط الأول لهذه المؤسسة تقييد حرية المرأة الجنسية، وحركتها وحلّها وترحالها وعلاقاتها الاجتماعية، الى أبعد الحدود، واباحتها للرجل الذي كان وراء ذلك "الانقلاب"، حتى تحولت المرأة الى سلعة من السلع والممتلكات وجزء من الثروات التي يمتلكها الرجل ويتحكم بها وبمصيرها، ويستطيع أن يفعل ما يشاء، بما في ذلك إنهاء حياتها، دونما مساءلة جدية من أحد.

وفقدت المرأة بذلك كامل حرياتها وحقوقها الاقتصادية والسياسية واعتبارها المجتمعي والقانوني كشخص قادر على القيادة واتخاذ القرارات، وجدير بها.

وجاءت الأديان لتعزز حصيلة ذلك الانقلاب كواقع مقدس استمر الرجل بالدفاع عنه وتقديسه وفرضه على المجتمع لآلاف السنين مدعوما بعوامل الشروط الاقتصادية ومستوى وسائل الانتاج التي توافقت معه وكان مفيدا لها، ومدعوما طبعا بالمؤسسة الدينية التي مالأت الرجل وتواطأت مع مصالحه ورغباته ونزواته، فيما حرص الرجل على حمايتها وخدمتها وتقديم القرابين لها، بما في ذلك، بل وفي مقدمة ذلك، تقديم نسائه قرابين لرجال الدين وكهنة المعابد والمؤسسات الدينية، ولا يزال هذا مستمرا بقوة في جميع المجتمعات المتخلفة.

وبذلك فإن الرجل لم يكتفِ باستعباد المرأة جنسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، بل وابتدع لنفسه تاريخيا حرفة "الدياثة" بمعنى أنه صار يقدم نساءه كبضاعة جنسية لرجل الدين الذي يقدم له، بالمقابل، خدماته الكهنوتية لدعم هيمنته الفحولية "الشرعية" على المجتمع بمباركة إلهية. وسيستمر الحال هكذا الى يومنا هذا حيث يقدس الرجل المؤسسة الدينية ويضع بين يديها بيته ونساءه، بل ومصيره ومصير أسرته كلها، أيضا، الى جانب ايمانه المطلق بنزاهتها المزعومة وقدراتها الخارقة طبعا.

لكن مع الثورة الصناعية والتغير الجذري الذي حصل في وسائل الانتاج والعلاقات الانتاجية، لم يعد استمرار ذلك الوضع يتوافق مع ولا يخدم مصالح الرأسمالية الصاعدة التي طبعت المجتمعات الحديثة بطابعها وفرضت شروطا جديدة لقوة العمل كان من أبرزها التعامل مع المرأة كقوة عمل فردية مستقلة نسبيا لا تخضع الا لقوانين النظام ومصالحه وليس لأية اعتبارات أخرى موروثة، ويمكن للطبقة المهيمنة التحكم بها وبالرجل سواء بسواء.

وعزز من تلك الحاجة الى التغيير ظهور المفاهيم الوهمية الكاذبة من قبيل القومية والشعب والوطن، التي سوّقتها الرأسمالية بأقصى نجاح ممكن، و"ضرورة" شنّ الحروب دفاعا عنها والتضحية في سبيلها. مما أدى الى سوق ملايين الرجال الى جبهات الحروب واحتاج النظام لذلك الى قوة عمل رخيصة بديلة تحل محلهم، فكانت المرأة هي البديل الجاهز، فهي نصف المجتمع من الناحية العددية، وبإمكانها اتقان جميع المهارات والقيام بكل المهام التي يقوم بها الرجل.

واحتاج النظام الرأسمالي الى "فتوى شرعية" ومبررا "أخلاقيا" لفرض الواقع الجديد فأطلق، بعدما تراجع الدور الرسمي للمؤسسة الدينية متمثلة بالكنيسة في أوربا، شعارات تحرير المرأة والثورة الجنسية والمساواة بين الجنسين.

ومع ان كل هذه الشعارات تحمل مضمونا إنسانيا ساميا وعميقا وضروريا يستوجب التنفيذ قانونيا وعمليا والتزام المجتمعات البشرية به، الا ان النظام الرأسمالي لم يكن يقصد من ورائها إلا خدمة مصالحه، ومصالحه فقط! سواء على صعيد تدوير عجلة الإنتاج أو الحروب الامبريالية التي توسع فيها الى مستويات غير مسبوقة أو حتى لتزويد تجارة الجنس التي برع فيها واستغل المرأة بضاعة دائمة فيها سواء بجسدها أو بما يرتبط بهذا الجسد من كماليات وبضائع استهلاكية تشكل سوقا ضخمة تحقق أرباحا خيالية للرأسمال.

وارتبط تقدم النظام الرأسمالي، كما هو معروف، بثورة التنوير وانتشار التعليم والطباعة ووسائط النقل الحديثة والاستكشافات الجغرافية وحركة حقوق الانسان والحريات الفردية وانحسار دور الدين على جميع الأصعدة الرئيسية في المجتمع، وهو ما يتجلى بوضوح في البلدان الصناعية المتقدمة بالدرجة الأولى، كما ارتبطت هذه المرحلة بالتوسع الاستعماري الغربي الذي هيمن على كل الأرض حتى لم تبق أية بقعة من الكوكب مهما كانت صغيرة خارج هيمنته.

وترتب على ذلك اعادة صياغة العلاقة في "العائلة البشرية" على أسس تخدم مصالح الرأسمال (الصناعي والزراعي والتجاري... الخ) وليس الاعتبارات الدينية التي أصبحت ثوبا ضيقا يقيد حركة النظام الجديد وكان لا بد من تمزيقه، خاصة وانه كان قد اهترأ وتعفنت كل محتوياته وانكشفت عوراته منذ زمن بعيد.

فظهر الزواج المدني كنتيجة محتومة لذلك التنظيم الجديد، وألغيت (رسميا) التعددية التي كانت في أنظمة العبودية والاقطاع حكرا على الرجل، والتي كانت على الدوام، ورغم الامتيازات الهائلة التي حظي واستمتع بها الرجل، مرتبطة بالخيانة الزوجية وبمؤسسة الدعارة العلنية أو السرية، لا فرق، فالرجل هو المسؤول الأول عن تأسيس مؤسسة الدعارة تاريخيا وكان دائما ولا يزال المستهلك الأوحد تقريبا لخدماتها.

ولأن العالم تسوده اليوم قوانين الانتاج الرأسمالي وعلاقاته، ولأن التطور الاقتصادي يسير حثيثا بهذا الاتجاه في جميع المجتمعات البشرية، سواء رضي المجتمع ذاته وأفراده بذلك أم لا، وسواء تواءم ذلك مع الموروث الديني أو الاعراف والتقاليد والإرث الثقافي لتلك المجتمعات أم لم يتواءم، فالحياة تسير الى أمام، فأصبح الزواج المدني تحصيل حاصل وأحد قوانين الدولة ولبنة أساسية في بنى المجتمعات البشرية الحديثة التي يحكمها، وشرطا من شروطه لتنظيم علاقات الثروة والوراثة والمسؤوليات القانونية الأخرى المرتبطة بها.

وفي الواقع، فان الزواج المدني نفسه ليس ضرورة لا للمجتمع ولا للأفراد ولا للنظام الرأسمالي، بل الأهم منه وضوح الأسس القانونية لتداول الثروة فحسب، من وجهة نظر الدولة الرأسمالية. وبذلك تراجعت العلاقات التقليدية الى حد كبير وحل محلها الاختيار والارتباط الطوعي بين الرجل والمرأة بغض النظر عن تسجيل تلك العلاقة رسميا أم لا، أو دوامها أو محدودية عمرها ومجالها، وطبيعة العلاقات العاطفية التي تسودها وتأثيرها على المشاعر والصحة النفسية والمعنوية للأطفال الذين يولدون ويترعرعون في أحضانها.

ومن هنا أخذت بالظهور أشكال أخرى للعلاقات "الأسرية"، ان صح هذا التعبير هنا، تقوم على الاختيار الشخصي والمثلية والتبني والعلاقات الحرة وموضات تغيير الجنس و"النسوية" وغيرها، الى جانب "الثورة الجنسية" التي قضت من الناحيتين القانونية والعملية على دور الدين والتقاليد والأعراف القديمة في هذا المجال، وحلّ محلها التنظيم القانوني الذي يشترط وضوح المسؤوليات أمام "الدولة" التي هي واجهة مصالح النظام.

وهذا التنظيم القانوني هو الذي سيبقى ما دامت الثروة عنصرا مهما وجوهريا وحاسما في العلاقات بين الناس. وهذا لا يتعارض جذريا مع المؤسسة الدينية من الناحية الاعتبارية وصلة الأديان بمالكي الثروة، رغم أنه يحجم دورها ويهمشها الى أبعد الحدود، لكن رجال الدين اعتادوا على دور الطفيليات التي تعتاش على فضلات المجتمع البشري وتبرر كل الخطايا بإرادات إلهية حسب الطلب.

ومن هنا، أيضا، جاءت مؤسسة "الزواج المدني" لتقضي أيضا على إرث العلاقات القائمة على أسس العائلة الممتدة واستفراد الرجل بالقرارات الاقتصادية والاجتماعية (والسياسية والعسكرية) الكبرى فيما يخص شؤون أفراد العائلة والعشيرة والقبيلة كمؤسسات موروثة تتجاوز حدود الأسرة الصغيرة.

لكن هذه المؤسسة انقضى دورها تاريخيا وعمليا أيضاً، إذ تفككت العائلة الكبيرة وحلّت محلّها الأسرة الصغيرة، وتهدمت البيوتات الكبيرة التي كانت تؤوي الأجداد والآباء والأحفاد وأحفاد الأحفاد فيما مضى لتحل محلها الشقق السكنية الصغيرة والبيوت المفردة التي تقتصر الأسرة فيها على الأبوين والأبناء، فقط، وانهار وتشتت الاقتصاد العائلي القديم الذي كانت العائلة الكبيرة تمتلك بموجبه وتدير وتتحكم بأرض مشتركة يعيش عليها ويخدمها ويعمل فيها جميع أفرادها ويأكلون منها.

وهكذا، فلا قيمة للآراء الفردية والمواقف الانفعالية والعاطفية في هذا الخصوص، لأن الحياة لا تعود الى الوراء، وعلاقات الأمس صارت وديعة في مقابر الماضي، وما تعيشه المجتمعات المتخلفة اليوم لا يعدو أن يكون دمامل كبيرة متقيحة ستنفجر قريبا جدا لتفرز ما بداخلها من موروثات وتراكمات الماضي وقبحها وقيحها وزيفها ونفاقها وقيمها المزعومة الخاوية و"حِكَمِها" المكرورة الخاوية، وتزيحها عن طريق الحياة، إذ سئمها المجتمع البشري نفسه ولم يعد يطيقها.

وبالطبع ستكون هناك خسائر كبيرة وكبيرة جدا لهذه المجتمعات كبنى شمولية وكأفراد، لكن المكسب الأكبر والأساس سيكون انقراض الأديان والتحرر من خرافات العشيرة والقبيلة والعلاقات الأسرية القديمة.

كما ستتحرر البشرية من مفاهيم كاذبة مصطنعة أخرى جوفاء شديدة الضرر مثل القومية والوطن، فلا قومية ولا شعب ولا وطن ولا مرجعية الا الإنسان!

وأية أرض تضمن للانسان الحياة المرفهة الآمنة والضمانات التي تحفظ وجوده وكرامته وتصونها، وبموجب العلاقات العاطفية والجنسية والعائلية التي توائم انسانيته ومزاجه ورغباته، ستكون وطنه، وسيكون أهلها شعبه وأهله.