المرأة بين سيداو وعشائر الخليل



ناجح شاهين
2019 / 12 / 23

أولاً، "يلعن أبو سيداو، وأبو اللي خلفوها". لكن إذا اختفت سيداو من الوجود، هل يصبح وضعنا العربي والفلسطيني كله تمام التمام؟ يعني سياسياً، علمياً صحياً، اجتماعيا..الخ كل شي يصبح في شكله السليم تماما؟
ثانياً، كانت جدتي تقول قبل سيداو وقبل سيمون دي بوفوار وقبل جوديث بتلر ونوال السعداوي بعقود: "دلع الولد بغنيك، ودلع البنت بخزيك". وكانت تؤمن أن أي شيء يفعله الولد جميل ومشرف ورائع ...الخ. لماذا؟ يكفي أنه ولد، ولد ولديه "دلدولة" أسفل بطنه تفرح جدتي تماماً بها، بينما تجد البنت نكبة كاملة لأنها تفتقر إلى تلك الدلدولة. وفي هذا السياق كانت جدتي حاسمة وحازمة في ضرورة أن يرث الولد الأرض كلها، وأن يفعل بالأملاك ما يحلو له، بينما البنت يجب أن تشقى في تنظيف الأرض من الحجارة وحمل السماد على رأسها لتسميد النباتات خدمة لأخيها. وذلك بالطبع لا يعفيها من أعمال المنزل. وإذا حصل بعد حياة العبودية تلك ومرضت أمي أو أختها فلتذهبا في ستين داهية، لأنه لا يجوز أن نهدر أموال الولد التي ورثها عن أبويه من أجل عيون أخواته اللائي لا يمتلكن شيئاً. بالطبع يمكن لجدتي بكل حزم أن تقود حملة لا هوادة فيها لقتل أمي لو خطر ببالها أن تسيء لشرف العائلة بأي شكل من الأشكال، أما خالي فإن له الحق في فعل أي شيء، فهو ولد والولد "يطيش" كم أن لديه احتياجات جسدية وعاطفية معترف بها وتدل في عرف جدتي أنه "الحمد لله" صار "زلمة" وأصبح يرغب فيما يرغب به الرجال.
هل أعطى الإسلام النظري المرأة حقوقاً متساوية مع الرجل؟ بالتأكيد لا. لماذا؟ لأن المرأة طبيعتها تختلف عن الرجل. وهذا الموقف يعود قبل الإسلام وقبل المسيحية لسيد القرون الوسطى المطلق أرسطوطاليس. المرأة لم تكمن روحاً بالمعنى الكامل للكلمة. وهي شكل ما من الكائنات التي تشبه العبد وثور الفلاحة.
ولم يبتعد القديس أوغستينوس عن أرسطو كثيرا، وظل متردداً في حسم إجابته على السؤال الخطير المتعب: "هل سيبعث الله النساء نساء يوم القيامة أم يعدل من خلقتهن على نحو ما ليصبحن مؤهلات للدخول إلى جنانه وملكوته؟" المرأة تظل في عرف جدي الفينيقي أوغستينوس تابعة للرجل. ذلك أن الرجل رأس المرأة مثلما أن يسوع رأس الكنيسة.
الإسلام أيضاً لم يبتعد بدوره عن أرسطو وعن أوغستينوس كثيراً. وفي مضمار الجنس على سبيل المثال يذهب بعض من الفقهاء في تسويغ تعدد الزوجات إلى القسم بأغلظ الأيمان أن المرأة لا تحتاج الجنس مثل الرجل. الرجل "صلاة النبي" يحتاج أكثر من مرأة، أما المرأة فإنها غالباً ما تزهد في رجل واحد، ومن أجل أن نخفف من أحمالها ومعاناتها مع الجنس نسمح للرجل بأن يفرغ طاقاته في ما ملكت يمينه او في زوجات أخريات.
على الرغم من هذا المزح الجنساني الساذج، إلا أن الفهم الديني المسيحي أو الإسلامي للمرأة يتقدم كثيراً على الفهم الاجتماعي السائد. وقد يوجد بصيص هنا وهنك في الروايات الدينية من النوع الذي يقدم فهماً أفضل للمرأة من ناحية ويعترف بحقوقها من ناحية أخرى. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر الرواية التي تنسب لعلي بن أبي طالب بأنه قال إن شهوة المرأة عشرة أضعاف شهوة الرجل. وهذا الفهم بالطبع يجعل من الصعب على أنصار الذكورة تسويغ أمور من قبيل تعدد الزوجات أو الاستهانة باحتياجات الأنثى العاطفية والجنسية.
أود في سياق معالجة ظروفنا المعاصرة أن أن أشير إلى بعض الأشكال التي تتقمصها صورة المرأة العربية في ثقافتنا التي لم تصل مرحلة الحداثة أبداً. من المعروف أن التصنيع الرأسمالي قد أدى دوراً كبيراً في تحول مكانة المرأة ودورها. نحن لم نصل في أي بلد عربي الى هذه اللحظة، فما زلنا نعيش ثقافة تقليدية تتعايش في انسجام مع كلشيهات الليبرالية التي تجد تعبيراتها في ظواهر مثل جدل سيداو العتيد. هذه الثقافة تنظر للمرأة على أنحاء متناقضة وبما يتطلبه السياق. وهو ما نقدم عليه الشواهد فيما يلي.
المرأة بوصفها أماً يجب أن تكون طاهرة ونقية ومتعالية على الشهوات وكل ما يتصل بالأنوثة. لا بد أن الولد يحب أن يفكر أن ولادته قد تمت بدون أفعال شهوانية تسيء الى قداسة أمه وترفعها عن أفعال الجسد. لا ضير بالطبع من أن تكون الأم جميلة على نحو رومانسي سماوي يترفع عن دنس الأرض.
أما المرأة بوصفها أختاً فحبذا أن لا تكون جميلة كي لا تكون موضوعاً للحب والشهوة والإعجاب من قبل الأولاد الآخرين. الأخت التي لا تلفت نظر الشبان هي مكسب صاف للأخ، لأنها لن تكون موضوع اشتهاء من الأولاد، ولا بد أن معظم الأولاد لا يطيقون التفكير في أخواتهم بوصفهن كائنات مستهدفة بالشهوة من قبل أقرانهم الذكور. هنا لا بد أن الأولاد الذين لا أخوات لديهم يمكن أن يكونوا محظوظين بالفعل.
تأتي الزوجة التي عليها أن ترقص رقصة مستحيلة تقريباً: بالطبع الزوجة يجب أن تكون جذابة وشهية وجميلة، وإلا فإن الرجل ما كان ليفكر بالزواج منها. ولكنه يريد أن يجد طريقة كي يخدع الذكور الآخرين كي لا يشتهوها، فهي يجب أن تكون فاتنة، ولكن دون أن تتعرض لاشتهاء الاخرين، وربما يفسر ذلك "الحرملك" الذي ساد في فترة معنية من تاريخنا.
هناك فارق بين عيون الذكر الأب والذكر الأخ، ذلك أن الأب يريد أن تكون ابنته "مستورة". هو لا يريد أن يفكر فيها بوصفها موضوعاً للاشتهاء، ولكنه مع ذلك يريد أن تكون "ماشي حالها" جمالياً لكي تتزوج، فالزواج "سترة". الأخ على الأغلب خصوصاً في سن المراهقة المبكرة لا يريد حتى هذه السترة.
أخيراً هناك المرأة التي لا "تخصنا" التي يفضل أن تكون سهلة تستجيب لمغازلتنا، بحيث نتمكن من إغوائها، وهذه المرأة لا يهم أن تكون عزباء أو متزوجة، ذلك أن النساء "الغريبات" جميعاً موضوع للإغواء، ويفضل أن يكن شيطانات عابثات لعوب كيما نتمكن من نيلهن بسهولة.
الرجال كلهم تقريباً يريدون المرأة في هذه الأدوار المختلفة المتضاربة، وهكذا يقع على المرأة عبء شديد في تلوين نفسها حسب اللحظة التي تمر بها: عليها أن تمثل الأدوار المتناقضة التي تطلب منها. كيف تكون المرأة المسكينة إنسانياً عادياً وسوياً مكتملاً عاطفياً وذهنياً في مثل هذا السياق المتخم بالتناقضات التي لا حل لها؟
كان الله في عون المرأة في هذه البلاد التي تريد من المرأة أن تكون مربية فاضلة وأما رؤوماً وملاكاً لا مشاعر جسدية لديه، وأنثى مغرية ولعوباً ...الخ كل ذلك في وقت واحد.
يزداد الطين بلة للأسف بسبب الجهود النخبوية الليبرالية التي تقدم امرأة من نوع خاص في فنادق الدرجة الأولى. هنا يمكن الكلام عن نسباوم وجوديث بتلر وكاثلين ماكينون وفوكو والجنسانية من ضمن أشياء أخرى. بالطبع لا يتحقق شيء في مستوى عالم القرى والنجوع والضياع والأحياء الفقيرة المكتظة والمخيماات وخيام البدو. يظل عالم داعش الذي تجلى في بيان عشائر الخليل هو العالم الوحيد في تلك الجهة من العالم. ولذلك ليس في نيتنا التهرب من الاستنتاج بأن التحرر من الاستعمار العالمي، والتصنيع، وإزاحة الطبقة التابعة للثقافة الغربية وبناء الأمة العلمانية القوية بنسيجها الاجتماعي واقتصادها وجيشها هي شروط أساس لتغير وضع المرأة أيضاً، لن تختلف أدوار المرأة التقليدية ما لم نهزم الثقافة التقليدية كلها والسياق الاقتصادي الاجتماعي الذي تخدمه ويعيد إنتاجها.