تقاطع القمع السياسي مع الجندر



ناهد بدوي
2020 / 2 / 25

تقاطع القمع السياسي مع الجندر

النشيد العالمي للنسوية السياسية


أطلقت نساء تشيلي الثائرات نشيدهن النسوي الثوري المعارض للاستبداد بكل أشكاله، وكما النار في الهشيم انتشر في كل أنحاء العالم، وأضحى النشيد العالمي للنسوية السياسية، في الغرب كما في الشرق، في أمريكا الجنوبية كما في الشمالية.

لأول مرة في تاريخ النضال النسوي تفهم النساء المتنوعات معاناة أخواتهن على الفور وبدون حاجة للورشات التدريبية النسوية السيئة الصيت. ولأول مرة لم تكن لغة التعبير واحدة، غناء ورقص فحسب، بل كانت الكلمات ذاتها تقريباً مع تغيرات بسيطة في بعض المفردات لتناسب بلادهم المتنوعة. ولأول مرة تربط كل نساء العالم معاً التحرش الجنسي بكل أنواع الاستبداد والقمع، وخصوصاً القمع المسكوت عنه والذي تحميه المنظومات السياسية على اختلافها.


ولكنها ليست المرأة الأولى التي تنطلق فيها موجة نسوية جديدة من المناطق التي تتراكب فيها أشكال الاضطهاد وتنشأ من تقاطع معاناة المرأة مع أشكال الاضطهاد الأخرى السائدة. وهذه المرة انطلقت من تقاطع القمع السياسي مع الجندر.


قمع الآخر عبر انتهاك جسده الإنساني، هي وسيلة استخدمتها كل أنواع السلطات عبر التاريخ. هذا النوع من القمع يستهدف الجانب الأضعف، لذلك يسهل انتهاكه من قبل المستبد، لكن السلطات القامعة لا تستطيع اعتقال أفكاره وأحلامه، كما أنها لا تستطيع أن تضع مشروعه السياسي أو انتاجه الفكري في أجهزة التعذيب، ولا أن تصعق بالكهرباء الكلمات ذات القوة الخارقة التي تنتقده، لذلك تصاب السلطة القامعة بالجنون من قدرتها على الانتشار، فهي عصية على المنع وكلما منعتها انتشرت أكثر. لذلك فهو يركز على قمع أضعف ما يملك الإنسان ألا وهو جسده أملاً بإخضاعه. والمرأة في الأنظمة الاستبدادية تعاني من القمع الجسدي المضاعف كمحاولة لإخضاعها. القمع السياسي المباشر والقمع المسكوت عنه. لذلك تلاقت المرأة التي تعيش في الأنظمة الديكتاتورية مع المرأة في الأنظمة الديمقراطية التي تعاني من القمع الخفي، لأن القمع هو القمع سواءً كان معلناً أم مسكوتاً عنه.





وكما في الموجات النسوية السابقة جاءت هذه الموجة لتعيد استنفار الإشكاليات التي تركتها الموجات النسوية السابقة في الظل. فالموجة الثانية انطلقت في أوائل القرن العشرين كي تنير المسكوت عنه في الموجة الأولى، والتي ناضلت من أجل اعتبار المرأة إنساناً فحسب، وينطبق عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لذلك ركزت الموجة الثانية على النواحي التي بقيت في الظل كالفوارق الجسدية بين المرأة والرجل، ولكنها حملت جسد المرأة سبب ضعفها، وركزت على التمكين الاقتصادي لتعزيز قوتها. بينما انطلقت الموجة الثالثة من مناطق الاضطهاد العرقي، ومن تقاطع العرق مع الجندر أنتجت أهم ما أنتجه الفكر الإنساني في مواجهة العنصرية، أطلقته المرأة السوداء. وكذلك من النضال المعتمد على تقاطع البيئة مع الجندر، أنتج الفكر النسوي أهم ما أنتجته البشرية بمواجهة تدمير البيئة، وأطلقته المرأة الهندية والآسيوية. وبينت كل هذه المراحل كي تقول المرأة بأنها لم تشارك في صياغة قوانين المجتمعات التي تعيش بها، لذلك كان هدف كل هذه النضالات هو تمكين المرأة السياسي والاقتصادي، كي تكون القوانين من سن الرجال والنساء معاً، وبهذا تصبح أكثر عدالةً للجنسين وأكثر توازناً.





لأول مرة تتوحد معاناة النساء في كل مكان في حركة واحدة. وذلك لأن أغلبية النساء من كل ثقافات العالم تعرضت للتحرش الجنسي وكانت صامتة كي لا يلصق العار بها، وكل ثقافات العالم تقريباً تعاني من استبعاد وجهة نظر النساء في صياغة القوانين السائدة التي تقلل من شأن تأثير التحرش الجنسي الذي تتعرض له منذ الصغر على شخصيتها وعلى تكريس الحضارة الذكورية، حتى في البلدان التي انتصرت فيها حقوق الإنسان والمرأة. لأن هذا الجانب بقي مظلماً، والسكوت عنه حال دون تطور الوعي بأنه أساسي في استمرار شعور المرأة بالضعف والنقص والشعور بالذنب، واستمرار شعور الرجل بقدرته على انتهاكها بدون أي شعور بالذنب بل العكس إجبار المنتهك على الشعور بالذنب.





أعتقد أن الموجة الرابعة هي موجة الموجات، وهي تحمل سمات كل الموجات السابقة فهي تشترك مع الحركة النسوية الثانية بأشكال نضالها الحركية وتعتمد على النزول على الشارع. كما تعتمد على التعبئة من خلال الفكر والإعلام، مستفيدة طبعاً من كل وسائل الاتصالات الراهنة وأسلوب الحملات الحديثة (حملة وأنا أيضاً) لكن السمة التي تميزها هي التحرر من العار من جسدها، وحملتها ضد تسليع جسدها الذي يكرس احتقار الجسد الأنثوي وحصره في مفهوم أداة للمتعة، سواءً عبر استعماله كأداة للدعاية والإعلان أو الدعوات الى إخفاءه عن الأنظار.


بينما ارتبطت النسوية الثالثة بالمرأة الهادئة المتأمِّلة الناقدة المفكّرة والتي استطاعت أن تفرض مناهجها العلمية على الأوساط الأكاديمية العليا، عادت النسوية بالوقت الحالي لترتبط بالصورة الثورية المتمردة، لأن الخروج من الشعور بالعار المرتبط بالجسد الأنثوي ومواجهة النظام السياسي المشرع يحتاج لامرأة متمردة وشجاعة وثائرة تخرج إلى الشارع وتهدد بأغانيها كل من يحاول انتهاكها كإنسان. وتشير بإصبعها إلى كل السلطات التي تمنع تشريع معاقبة المنتهك ومناهضة كل أنواع العنف المسكوت عنه.


النسوية الرابعة أيضاً تؤكد أن المرأة والرجل هم ضحايا الحضارة الذكورية لأنها تبين للنساء والرجال على حد سواء بشاعة صورة المغتصب أو المتحرش. وقد مهدت لها ذلك النسوية الثالثة التي لم ترفض جسدها الأنثوي كما النسوية الثانية، بل على العكس فقد بذلت جهداً كبيراً في الاحتفاء بتجارب النساء كما يعشنها فعلاً، وتمكينهن من الفخر بجسدهن ومظاهر انوثتهن وقصصهن التي عرفت العالم لأول مرة على مشاعر المرأة الداخلية ومتعتها، وبالتالي احتفت بعلاقتها مع الرجل باعتباره شريكاً وحبيباً وصديقاً. واعتبرته مثلها ضحية للحضارة الذكورية التي صاغت تعريفاً للرجل، لا يمكن لأي رجل الوصول له، رجل لانهائي القدرة الجسدية والجنسية وكلي السيطرة. لا بل أشفقت على غالبية الرجال الذين يعيشون عقدة دونية لأنهم لا يستطيعون تقديم الرجل المشتهى في مقاييس تلك الحضارة المشوهة للجنسين.




إذاً فقد احتاجت النسوية لأربع موجات كي تصل إلى حقيقة أن المذنب هو ليس الرجل الفرد، بل المنظومة السياسية التي تحمي الحضارة الذكورية والتي تقمع الجنسين معاً، والتي أصبحت عبئاً على المرأة والرجل على حد سواء. وقد ذكرت ذلك النساء التشيليات بالتفصيل في نشيدهن الرائع، والذي أصبح النشيد العالمي للنسوية السياسية، "المذنب ليس أنا وليس ما أرتديه، المذنب هو المغتصب والبوليس والقضاة والدولة والرئيس".


ممكن أن نضيف عليها خصوصيتنا السورية: "والمخابرات".