كاتبات نسائيات مبدعات، مريم بن بخثة نموذجا في سقوط المرايا



صابر عصام
2020 / 4 / 1

- طالما تربع جمع المذكر السالم على عرش الإبداع و النقد في العالمين الغربي و العربي، إلى أن سطع نجم كاتبات نسائيات مبدعات، انتقل إليهن لقاح الإبداع و الكتابة والممارسة السليمة للنقد عن طريق الإدمان على القراءة ومطالعة أمهات الكتب والنهل من ينابيع الإبداع وروائعه، لتتفتق بعدها بذرة الإبداع والكتابة عندهن، فبدأت نون نسوة محتشمة كما نعتها عبد الحميد غرباوي في مجموعته القصصية، خاصة مع الأنامل الأولى التي واجهت صلابة مجتمع ذكوري، الأمر الذي جعل العديد من الكاتبات يبدعن وينشرن بأسماء مستعارة كما هو الشأن مع الروائية المغربية ليلى أبو زيد، لكن مع توالي الكتابات النسائية و تعددها وتراكم التجارب شكلت لنفسها تجربة وتيارا رائدا عنوانه كاتبات نسائيات مبدعات.
أصبح يضرب له ألف حساب وحساب بل ألفت حوله مسارد تتبع مسار الكتابة النسائية، فما يكاد ينتهي التتبع و الإحصاء حتى تبزغ شمس مبدعة أخرى، ثم أخرى، فأخرى...
الأدب النسائي منذ تأسيسه وهو يسعى لطرح ومحاولة الإجابة عن مجموعة من الإشكالات المحيرة المتعلقة، أولاً؛ بثنائية ذكر // أنثى، وثانياً؛ بنظرة المجتمع الأبيقوري للمرأة واختزالها في الجسد.
هذه الإشكالات وغيرها لامَستْها عدة مبدعات في الأدب الحديث و المعاصر، لكن قبلهن أجمعين كانت سيدة الحكواتيين وأميرة النسج والسرد وملكة سُلطة الحكي، شهرزاد في ألف ليلة وليلة، حيث تغلبت امرأة ضعيفة على رجل قوي، وزيجة لا سلطة لها على سلطان يملك كل السلطات، شهرزاد تغلبت على سلطة مادية ملموسة، بسلطة قولية حكائية، كانت فيها شهرزاد ذكية بتخلصها من القول بالقول فغيرت نظرة رجل قاس و سلطان جائر حول بنات حواء...
بهذه الكرونولوجية المحكمة تكون نون النسوة قد جعلت لنفسها مكانة مرموقة بين كبار المبدعين، بل الأكثر من ذلك تمكنت هذه النون من تثبيت وبناء فعل إبداعي كان حكرا على الرجال يتحركون ويعربون فيه كما شاءوا.
الثقافة العربية، و المغربية على الخصوص، شأنها شأن نظيرتها الغربية، فإن كانت لفرنسا نتالي ساروت و مادام دوستايل، ولإنجلترا فيرجينيا وولف و أكاتا كريستي، فإن للأدب المغربي مبدعات سامقات شامخات بشموخ جبال الأطلس، نذكر منهن على سبيل المثال لا الحصر، خناثة بنونة، ليلى أبو زيد، ومريم بن بخثة...
هذه الأخيرة هي التي سنقارب كتاباتها مقاربات متعددة الاتجاهات، ثم سنجعل إبداعها عتبة للتعريف ولو بالقليل بالكعب العالي للمرأة في مجال الأدب و الفن، ولكاتبتنا مريم بن بخثة.
أكيد تقديم ورقتي بنون النسوة سيثير استغراب القارئ، ولربما قد أثاره، لكن من المؤكد أنه سيؤجج شبقية البحث عنده، ويشعل آوار القراءة وفضول المعرفة وقلقها. لأن العناوين و المقدمات طالما تلعب دورا فاشيستيا على القارئ لاستمالته وإغرائه لتتبع القراءة من بدايتها إلى نهايتها. ليس ديكتاتورية من الكاتب على القارئ، لكن لسبب بسيط يكمن في عدم اكتمال قطب الإبداع دون قطب التلقي وتفاعله في ملء بياضات وفراغات الكتابة، التي يتركها الكاتب المبدع عمدا في انتظار قارئ نهم نموذجي، وإلا وأد بنات فكره قبل نبس شفة، وقبل ديباجة قلم.
الأمر عينه عملت عليه الكاتبة المغربية مريم بن بخثة، في كذا كتاباتها المتعددة، طالما تدع هامشا للقارئ في كتاباتها ليبدع على مشارفها قراءات وتأويلات...
مريم بن بخثة، الكاتبة و المبدعة المغربية، و الإنسانة الحكيمة في قراراتها، قد أثْرت خزانة الأدب النسائي المغربي والمغاربي بمجموعة من الكتابات أو بالأحرى المخاضات الإبداعية، بدءا بــــــــ:"وشم في الذاكرة"، ثم " بأمر من مولانا السلطان" و " امرأة على الرف" ثم " حديث الليل"، كلها عناوين من عالم التجريب، لكن في منتصف شهر ماي من سنة 2013 كان مخاض مريم بن بخثة هذه المرة، إبداعا روائيا كسر تبعية الأقانيم و الرواية الكلاسيكية وهو الشهر ذاته الذي تركت فيه الحبيبة حبيبها في القصة على حد تعبير سمير في الصفحة 25 " ها أنا ذا، يا سيدتي، أكلمك عن نعيمة التي تركتني ذات يوم من شهر ماي". بهذا التناسق بين التواريخ و الأحداث قطعت مريم بن بخثة دابر العشوائية في صرحها السردي المعنون بـــــــ: سقوط المرايا نذرت له من زمنها الثمين حيزا هاما، وشيدت من خلاله صرح إبداع بديع سقطت فيه كل مرايا الانعكاس بمختلف أنواعها، المسطحة الواقعية، و المقعرة المقزِّمة، والمحذبة المضخِّمة. ناهيك عن امتزاج جل الأجناس فيه مشكلة جنسا واحدا هشم مبدأ صفاء الأجناس، معليا راية التداخل بينها إذ لا هوية تتسم بالصفاء مادام أصلها واحد هو الكتابة.
- سقوط المرايا بصلابة متنها السردي، وشعرية إبداعها، وانسيابية أزمنتها، وتعدد أمكنتها، وتحرر شخصياتها. حتمت على قراءتي _هذه _ مقاربات عديدة.
• أولاها مقاربة جغرافية جعلتْ من خلالها سقوط المرايا خريطة طبوغرافية تنقلت بقارئها من بلد إلى آخر دون عناء ولا جواز سفر، ورسمت حدودا جمروكية بين مدينة وأخرى، فلا تكاد الشخصية الرئيسة " سمير المصري" أو بالأحرى العاشق المشرقي، تتنقل من مدينة مغربية إلى أخرى إلا وطلب منها الإدلاء بجواز سفرها، و الجواز هنا يقصد به نظم و وصف للمدينة قبل استحلال المكوث فيها، كما فعلت الكاتبة مع سمير في مدينة تزنيت نظمت على لسانه قصيدة بديعة تصف جمال المدينة. في حين عبوره من مصر إلى المغرب لم تذكر عنه الكاتبة أي عناء قصدا منها التحام الشعبين ولا فروق بينهما.
• ثاني مقاربة، من حيث رواتها وشخوصها، لذا سأنعتها بفونيمية باختين المتعددة، إذ من المعتاد أن يكون أرق الكاتب ،كيفما كان، البحث عن شخصية يلبسها جبة البطل، لكن في سقوط المرايا انقلبت فيها كل الموازين، عوض أن تكون الكاتبة هي الباحثة عن بطلها، الآن نجد البطل هو الباحث عن كاتبة حاذقة متقنة لفن الكتابة، لتحول حياته وتجربته من واقع معاش إلى كتابة تخييلية بامتياز، فاختار مريم الكاتبة المغربية من كل الكاتبات المصريات المشرقيات العربيات، لسبب واحد على حد بوح سمير هو كون الكاتبة التي اختارها تعيش الأحداث مع شخوصها وتتقاسم معهم أفراحهم و أتراحهم كما قالت في الصفحة 38 " ... ربما كتبتها لأنني صرت داخل الأحداث أعيشها مع سمير و نعيمة و خديجة، أحلل شخصياتهم و أناقش أفكارهم وخصوصياتهم.." الكاتبة بهذا الانغماس في الأحداث جاسرت بين الواقعي و المتخيل في قالب إبداعي بطله سمير الذي شد الرحال من مصر بلد الفراعنة إلى المغرب مهد الحضارة، بحثا عن حب حقيقي مع نعيمة و بلسم شاف لجرحه الغائر على مر السنين وفشله الذريع في زواجه الأول، ليربط جام آماله على نعيمة بالمغرب التي تعيش هي الأخرى ويلات أخِ ساديِّ.
ما بات العاشقان ينعمان بلحظاتهما الأولى معا، وينتعشان بجسد بعضيهما في جو أمازيغي بمدينة تيزنيت، حتى اختفت نعيمة في ظرف يشوبه الغموض.
مريم بن بخثة في سقوط المرايا، كأني بها تتقمص شخصية شهرزاد التي تحكي ما تشاء على لسان شخوصها بقولها زعموا أن، الشيء عينه مع بن بخثة التي أبرزت براعتها في الشعر و القصة و الحكمة على ألسن شخوصها، سمير، نعيمة، وخديجة. متبنية قاعدة الأولى فأولى في الحكي و النظم، فقد نظمت شعرا على لسان سمير، وأعطت حنانا من حضن نعيمة، ووفاء من زيجة سمير بمصر، ووصفت ظاهرة تعنيف المرأة من شخصية أخ نعيمة.
• ذكاء مريم بن بخثة لم يقف عند هذا الحد فقد تعداه إلى شيء آخر هو الذي قادني إلى تبني المقاربة الثالثة وهي تيمة الإثارة و الغموض، لذا نعت هذه المقاربة بتوماس الغامض ل موريس بلانشو، فالكاتبة منذ بداية متنها إلى نهايته أبت إلا أن تشرك القارئ في التفكير و التأويل و ملء بياضات كتابتها عله يجيب عن مجموعة من الإشكالات التي لم تصرح بها بل جعلتها متوارية بين فصول وجمل الرواية، تأتي على رأس هذه الإشكالات:
1 استعمال مجموعة من الرموز و الأساطير، كأقليدس بقوله الشهير، لا نستحم من ماء النهر مرتين، واستعانت برمز التحرر مارتن لوتر، وتراجيدية سوفوكليس، كما جعلت من سمير دون كيشوت عصره، وروميو زمانه.
2 الإشكال الآخر هو لما اختار البطل المصري كاتبة مغربية؟ ثم علاقة زواجه الأول في مصر بزواجه الثاني في المغرب، هل هو خيانة، أم محاولة لإعادة التوازن للروح بالجسد؟
- هذه الإشكالات لن أحاول الإجابة عنها في هذه الورقة، لكنني كشفت عنها وعن غموضها، فأولى محاولات الإجابة وجود السؤال أولا. أنا كشفت السؤال وننتظر جواب قارئ آخر.
• أما المقاربة الأخيرة التي حتمها عليًّ هذا النص، هي مقاربة فيزيائية و كأنني بالكاتبة تجعل من النص بين دفتي هذا الكتاب مختبرا للتجريب، فيه كبسولة انصهرت فيها مجموعة من الأجناس الأدبية، لتعطي لنا نصا محايدا عكر مبدأ صفاء الأجناس وهدم الحدود بينها. لذلك وصفتُ هذه المقاربة بالفيزيائية والزئبقية الهلامية، التي انصهرت و انسجمت فيه أشكال أدبية معروفة حتى استعصى علينا التمييز بينها وحصر حدودها و الإمساك بها، إذ إن الكتاب الذي احتجن بين دفتيه متنا أدبيا أدرج ضمن جنس الرواية، لكن مكنونه يقول أنا هلام أتشكل بتشكل قراءة القارئ، وأضم من كل فن فنا، ومن الخط و المخطوط خطا، ومن الشعر شعرا، و من القصة قصة ومن الرواية رواية.
لذلك تحفظت منذ بداية تقديمي لهذه القراءة إلى حدود الساعة، من نعت هذا الكتاب بالرواية لأن الأمر ها هنا تجاوز مسألة الرواية و التجنيس بسهولة، ليدخل غمار التجريب و التخييل.
ولنا في هذا مثال سبويه في كتابه الكتاب الذي امتزجت فيه الأجناس الأدبية من منظور النقد و السرد الحديثين، رغم وضوح مقصديته. ومثال مارسل بروست في كتابه البحث عن الزمن الضائع، خلخل خلاله أزمنة الكتابة وأشر لانطلاق عملية بحث جديدة عن مقاربة أنجع لسبر أغوار الإبداع.
هذا هو دور الإبداع إن لم يزحزح كيان الجاهز من المقاربات وأثار قلقا وفضولا معرفيين عند الناقد فليس إبداعا بل هو اجترار.
مريم بن بخثة نجحت في هذه المسألة، الشيء الذي جعل الدكتور شريف موسى عبد القادر يدرج اسمها عن جدارة ضمن أسماء الكاتبات المبدعات العربيات، في الفهرس البيبليوغرافي للرواية النسائية المغاربية في جزئها الرابع بسقوط المرايا.

بقلم ذ، عصام صابر.