-عين الضحية المفتوحة-، كوريغرافيا الثورة والذكورة



منيرة بلغوثي
2020 / 4 / 14

بالتزامن مع اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة، اختارت مجموعة من الناشطات المنتسبات لمجموعة " فلڤطنا"، أن يحاكين النشيد النسوي التشيلي "El violador eres tu" الذي تحول الى شعار عالمي يدعم الحركات الاحتجاجية ضد التمييز والتحرش والاغتصاب والقتل. لم تنتظر النسويات وقوع جريمة اغتصاب فتاة باب عليوة لكي يشجبن العنف المسلّط على النساء منذ ولادتهنّ، لقد كانت معركتهنّ المصيرية أمام خطابات التبرير والتطبيع السياسي والمجتمعي والإعلامي، وقد كنّ دائما يواجهن باستخفاف شعبوي شعاره "موش وقتو".
بعين الضحية المفتوحة التي رتّبت شعاراتهن وأسئلتهن، قمن بتجسيد كوريغرافي للنّشيد النسوي المترجم إلى اللّهجة التونسية "المغتصب هو انت"، جسّدت حركاته التعبيرية ناشطات أمام مقر وزارة الداخلية، لقد كانت احدى محاولاتهن الجادّة لاستعادة الوصاية على أجساد النساء وهوياتهنّ وفضاءاتهنّ. وقد وجد هذا الأداء منفذا له في خضم هذا الانفجار في الاستخدامات التكنوثقافية التي وفرت مساحات عامة لمحاربة هيمنة الذكور ومقاومة تعقيدات الاعتراف الاجتماعي. إن النشاط السيبرني غدا وسيطا ضروريا لتفعيل الامكانات النقدية والتحررية النسوية، فما عليك سوى إلقاء نظرة على موقع حملة "انا زادا" لكسر جدار صمت ضحايا التحرش والاغتصاب، لتكتشف عمق معاناتهن بالموازاة مع عمق التضامن الجمعي.
غير ان هذا الفضاء الشبكي cyberespace يشكّل في الغالب قيودا أخلاقوية على الجسد الانثوي ويخضعه لبنية ثقافية اجتماعية تقوم بهندسته وفق عمقها الثقافي القائم على آليات الهيمنة والتّحكم، فهو مجرد أداة تنفيذ لآليات السيطرة وإعادة إنتاج رأس المال الرمزي الاجتماعي. إن التعليقات والتدوينات على صفحات التواصل الاجتماعي التي تجرم ضحايا التحرش والاغتصاب وتبرر جرائم المعتدين، لا تستثني المدافعات عن الضحايا من ناشطات ومثقفات وصحفيات يتعرضن غالبا لمضايقات سيبرانية. فجميعهن ضحايا ثقافة تملي عليهنّ آليات انضباط الأجساد وفي ذات الوقت، تستبيحهن من خلال متعة التحديق الذكوري. إن الجسد الأنثويّ بوصفه قابعا في المتخيل الفردي والجمعي على أنه موضوع جنسي مؤبّد في نوع من الاستلاب الرمزي، يخضع في أجهزة السلطة لخطاب مجتمعي تأديبي يعزز التمييز الجندري ويفرض الانضباط على سلوك النساء إذ يعتبره في حاجة إلى التوجيه والوعظ من أجل المحافظة على البناء الهرمي للسيطرة الاجتماعية (كما نبه إلى ذلك فوكو) .
من هذا المنظور يمكن تفسير ردود الأفعال التي تحمل رسائل تحذيرية وتأديبية تضع الضحايا في حالة دائمة من عدم الأمان الجسدي، أي في حالة من التبعية الرمزية، فهذه الرسائل لا تشتغل فقط كتعبير خفي عن السلوك الجنسي بل تلعب أيضا دور الرقابة والتأديب والمعاقبة عبر تسليط الوصاية على الأجساد وضبطها وتنميط أدوارها في الفضاء العام والفضاء الخاص. إنها الخلفية الثقافية التي تحتكم إليها آليات السلطة في تطويع الجسد وترويضه تحت معايير اخلاقية تأخذ الجسد الانثوي على معاني الانحراف وتضفي الشرعية على اخضاعه للانضباط : فالفتاة المحترمة هي تلك التي لا تشيع جسدها في الفضاء العام.

إن هذه الواجهات الرقمية المنحازة ثقافيا للذكورة تحفّز الخطاب النسوي على تسليط الضوء على النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي انتجت تمييزا يعريه اليوم وباء الكورونا كاشفا عن وباء بطريركي صامت وراء الابواب الموصدة، ان الكثيرات لسن آمنات في المنازل ولا مأوى لهن سوى العزلة مع شركاء عنيفين، فبقدر ما تباعد المجتمع تكاثر العنف الأسري والزوجي حسب آخر الأرقام الرسمية في فترة الحجر الصحي.
لقد عزز الوباء مخاوف النسويات من أثاره المتوقعة في ظل ثقافة تهميش النساء وتأديبهن، ولكنه لن يثنيهنّ عن نشيدهن " المغتصب هو البطريركية ، والرئيس، والبوليس..."، ومثلما كانت عين الضحية المفتوحة مصدرا للمقاومة في عيون نساء يأملن في بناء عالم دون عنف، ستبقى كذلك مفتوحة غدا عندما يرحل الوباء.