ما بعد الاغتصاب وأنطولوجيا - الوجع- و-الوصم-


هاجر منصوري
2020 / 4 / 23



في البدء:" تَلَيّعْتْ فِي اللِّيلَة هَذِيكَا" صوت إحدى المغتصبات لا يشقّ لحقيقة "لوعتها" أيّ غبار. فالاغتصاب من الغصب وهو" أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا"، وفي عرف المغتصِب هو فعل جنسيّ عنيف يقوم على الاعتداء والعدوانيّة.
في التجربة ومعيشها،قد نتصوّر الاغتصاب "منمطّا" في شكل واحد ونوع واحد وسبب واحد.أبدا إنّه متعدّد في أشكاله وضحاياه وفضاءاته وحتى أسبابه، ومع كلّ هذه المتغيّرات يظلّ انتهاكا صارخا لجسد المغتصَب/ـة واعتداء على كرامته/ها. وقد تتعدّد الأجساد وفي انتهاكها تتعدّ أوجاع أصحابها/صاحباتها وتتنوّع حسب السنّ والجندر، فحظّ الأنثى في هذه الأوجاع مثل حظّ الذكرين أو أكثر. ونخصّ اهتمامنا في هذه التجربة بفئة الطفلات والنساء. ومعظمهنّ يحيينها بأوجاع معيشة ومتوزّعة على ما يلي من الوصمات:
*الانتهاك الجسدي: الجسد في الفلسفة المعاصرة فيما يؤكّده نيتشه هو عقلنا الأكبر، والمرجع لكلّ قيمنا. وهو لدى الأنتروبولوجي دافيد لوبروتن الرمز الذي يجسّد الإنسان في العالم. ولكن هذا الرمز إذ يُغتصَب تُنتهك خصوصيّته وتُطبع عليه إمضاءات الاغتصاب بألوانها الحمراء والزرقاء وبنهشها العدوانيّ من تمزّقات، وكدمات وجروحعلى جميع أجزاء الجسم.فضلا عن مخاطر الإصابة بعدوىالأمراض المنتقلة جنسيّا،وإمكانيّة الحمل.وهكذا لن تنسى المنتهكة تجربة الاغتصاب فقد ترك وصمه على جسدها.
* الاضطرابات النفسيّة: ويتعدّى الأمر عند المغتصبة إلى اضطرابات نفسيّة خطيرة أوّلها" اضطراب الشدّة ما بعد الصدمة" وفيه تنتابها مشاعر متعدّدة من خوف،وهياج، واكتئاب، إلى درجة الاحساس بالذنب والعار، وحتّى الإقدام على الانتحار. وتتواصل معاناتهافي مشاكل النوم، فياسترجاع مشاهد الاغتصاب،وفي التخيّلات المزعجة.ويؤثر ذلكبالضرورة في حياتها الاجتماعية والعمليّة. وإلى أن تتراجع شدّة هذه الاضطرابات النفسيّة فإنّ المغتصبة لا يمكنها أن تنسى الوصم النفسي للاغتصاب..
* الوصم الاجتماعي:إنّ المجتمعات العربيّة الأبويّة ذات الذهنيّة الذكوريّة لا تتقبّل اندماج المغتصَبة بسهولة في المجتمع، بل وتحمّلها وأسرتها مسؤوليّة ما تعرّضت له.فتقلّ حظوظها في الزواج وقد تنبذ.وأمّا إذا كانت متزوّجة فقد تحرم من استقرارها الأسري، وقد يتضاعف الأذى إذا نجم عن ذلك الاغتصاب حمل.وهكذا فإنّ الوصم الاجتماعي يتجاوز جسد المغتصبة ومعاناتها النفسيّة ليطبعهافي بطاقة تأمين الخدمات الاجتماعيّة بنفاذ صلوحيّتها للزواج.
وعليه فإنّ انتهاكا بهذا الحجم من وصمات بالجملة، يدفعنا إلى ألاّ نستسهل الاغتصاب من جميع النواحي وخاصّة القانونيّة. ونحن لا ننكر مدى تصدّي المشرّع التونسي للجرائم الجنسيّة بأنواعها في المجلّة الجزائية، وخاصّة على إثر إصدار القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 والمتعلّق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة. وعنه ترتّب تغيير مفردة " المواقعة " في الفصل 227 الخاص بجريمة الاغتصاب إلى مصطلح " الاغتصاب" ذاته على سبيل الدقّة والوضوح، بل وتمّ تعريفه بشكل مفصّل ودقيق. وجرت بالإضافة إلى ذلك تعديلات لعقوبة الاغتصاب مع الإبقاء على السجن بقيّة الحياة.
ولا نشكّ في أنّ هذا السياق القانوني نوعيّ في إجراءاته إلاّ أنّ عدم تنفيذ الأحكام الصادرة في حقّمن سبق من المجرمين وتمتّع البعض منهم بالعفو بعد انقضاء مدّة من العقوبة قد ساهم في سحب الثقة من جدوى إجراء قوانين لا نحيا بها، بلومعها تفشّت جرائم الاغتصاب حتى زمن الحجر.
نخلص إلى القول إنّه على الجميع من الفاعلين/ات في المجتمع المدني،ومن منظّمات حكوميّة وغير حكوميّة، أن تتظافر جهودهم من أجل ضمان تطبيق فعّال للقانون الأساسيعدد 58المتعلّق بالقضاء على العنف ضد المرأة بما في ذلك جريمة الاغتصاب التي تظلّ بالنسبة إلى الضحيّة تجربة موجعة وموصمة، بل وتبلغ في رتبتها حدّ انتهاك الأوطان، فما أجسادنا إلاّ الأوطان التي نسكنها وتسكننا. إنّها كذلك وأكثر..